تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 76

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " أَسْرارُ الْبَلاغَةِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

لَيْسَ ها هُنا ( في الكلام على اشتراك طرفي التشبيه في الصفة وفي مقتضاها ) عِبارَةٌ أَخَصُّ بِهذَا الْبَيانِ مِنَ " التَّأَوُّلِ " ، لِأَنَّ حَقيقَةَ قَوْلِنا : تَأَوَّلْتُ الشَّيْءَ ، أَنَّكَ تَطَلَّبْتَ ما يَؤولُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقيقَةِ ، أَوِ الْمَوْضِعَ الَّذي يَؤولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَقْلِ ، لِأَنَّ " أَوَّلْتُ " ، وَ" تَأَوَّلْتُ " ، " فَعَّلْتُ " ، وَ" تَفَعَّلْتُ " ، مِنَ " آلَ الْأَمْرُ إِلى كَذا يَؤولُ " ، إِذَا انْتَهى إِلَيْهِ ، وَ" الْمَآلُ " ، الْمَرْجِعُ . وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ " أَوَّلْتُ " ، وَ" تَأَوَّلْتُ " ، مِنْ " أَوَّلَ " ، بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ ما فاؤُه وَعَيْنُه مِنْ مَوْضِعٍ واحِدٍ كَـ" كَوْكَبٍ " ، وَ" دَدَنٍ " ، لا يُصَرَّفُ مِنْهُ فِعْلٌ ، وَ" أَوَّلُ " ، " أَفْعَلُ " ، بِدَلالَةِ قَوْلِنا : أَوَّلُ مِنْهُ ، كَقَوْلِنا : أَسْبَقُ مِنْهُ ، وَأَقْدَمُ ؛ فَالْواوُ الْأولى فاءٌ ، وَالثّانِيَةُ عَيْنٌ ، وَلَيْسَ هذا مَوْضِعَ الْكَلامِ في ذلِكَ ، فَيُسْتَقْصى .

بمثل هذا الاستيعاب الذي يدعي له سيدنا عدم الاستقصاء ، أقدم على الابتكار البلاغي ؛ فكيف تُرى منزلة نقاد الكلام العربي الآن ، من استيعابه ! لَهُمْ أَوْعَبُ لفروع الكلام الفارغ منهم لأصول الكلام العربي المبين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله !

مِثالُ ما يَجيءُ فيهِ التَّشْبيهُ مَعْقودًا عَلى أَمْرَيْنِ إِلّا أَنَّهُما لا يَتَشابَكانِ هذَا التَّشابُكَ ، قَوْلُهُمْ : " هُوَ يَصْفو وَيَكْدُرُ " ، وَ" يَمُرُّ وَيَحْلو " ، وَ" يَشُجُّ وَيَأْسو " ، وَ" يُسْرِجُ وَيُلْجِمُ " ، لِأَنَّكَ وَإِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ أَنْ تَجْمَعَ لَهُ الصِّفَتَيْنِ ، فَلَيْسَتْ إِحْداهُما بِمُمْتَزِجَةٍ بِالْأُخْرى ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ : هُوَ يَصْفو ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْكَدَرِ ، أَوْ قُلْتَ : يَحْلو ، وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ " يَمُرُّ " - وَجَدْتَ الْمَعْنى في تَشْبيهِكَ لَه بِالْماءِ فِي الصَّفاءِ وَبِالْعَسَلِ فِي الْحَلاوَةِ بِحالِه وَعَلى حَقيقَتِه (...) وَلَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ بِالصَّفاءِ وَالتَّشْبيهُ بِالْماءِ فيهِ ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْكَدَرُ ؛ وَلِذلِكَ لَوْ قُلْتَ : " يَصْفو وَيَكْدُرُ " ، لَمْ تَزِدْ في صَميمِ التَّشْبيه وَحَقيقَتِه شَيْئًا ، وَإِنَّمَا اسْتَدَمْتَ الصِّفَةَ كَقَوْلِكَ : يَصْفو أَبَدًا وَعَلى كُلِّ حالٍ " (...) فَإِنْ قُلْتَ : فَهذا يَلْزَمُكَ في قَوْلِكَ : " هُوَ يَصْفو وَيَكْدُرُ " ؛ وَذلِكَ أَنَّ الِاقْتِصارَ عَلى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ يُبْطِلُ غَرَضَ الْقائِلِ ، وَقَصْدَه أَنْ يَصِفَ الرَّجُلَ بِأَنَّه يَجْمَعُ الصِّفَتَيْنِ ، وَأَنَّ الصَّفاءَ لا يَدومُ - فَالْجَوابُ أَنَّ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ فَرْقًا - وَإِنْ كانَ يَغْمُضُ قَليلًا - وَهُوَ أَنَّ الْغَرَضَ فِي الْبَيْتِ

( كما أبرقت قوما عطاشا غمامة فلما رجوها أقشعت وتجلت )

أَنْ يُثْبِتَ ابْتِداءً مَطْمَعًا مُؤْنِسًا أَدّى إِلَى انْتِهاءٍ مُؤْيِسٍ موحِشٍ ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ ابْتِداءً لِآخَرَ هُوَ لَهُ انْتِهاءٌ ، مَعْنًى زائِدٌ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَالْوَصْفِ بِأَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما يوجَدُ فِي الْمَقْصودِ . وَلَيْسَ لَكَ في قَوْلِكَ : " يَصْفو وَيَكْدُرُ " ، أَكْثَرُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ . وَنَظيرُ هذا أَنْ تَقولَ : هُوَ كَالصَّفْوِ بَعْدَ الْكَدَرِ ، في حُصولِ مَعْنًى يَجِبُ مَعَه رَبْطُ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ بِالْآخَرِ فِي الذِّكْرِ وَيَتَعَيَّنُ بِهِ الْغَرَضُ ، حَتّى لَوْ قُلْتَ : يَكْدُرُ ، ثُمَّ يَصْفو ، فَجِئْتَ بِـ" ثُمَّ " ، الَّتي توجِبُ الثّاني مُرَتَّبًا عَلَى الْأَوَّلِ ، وَأَنَّ أَحَدَهُما مُبْتَدَأٌ وَالْآخَرُ بَعْدَه - صِرْتَ بِالْجُمْلَةِ إِلى حَدِّ ما نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الِارْتِباطِ وَوُجوبِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِمَجْموعِهِما ، وَيوجَدَ الشَّبَهُ - إِنْ شَبَّهْتَ - ما بَيْنَهُما ، عَلَى التَّشابُكِ وَالتَّداخُلِ ، دونَ التَّبايُنِ وَالتَّزايُلِ .

بل مِثْلُ " يَشُجُّ وَيَأْسو " - وهو وحده المثل - يتشابك فيه الطرفان ؛ فإن الحكم على المبتدأ فيه ، إنما هو باجتماع العملين المتناقضين بحيث يشك في صفاء نية عاملهما ، أو بحيث يتعجب منه نوعا من التعجب ! وإذا صح جوابك في " يصفو ويكدر " ، لم يصح في " يشج ويأسو " ، الذي قال فيه الميداني : " يُضْرَبُ لِمَنْ يُصيبُ فِي التَّدْبيرِ مَرَّةً وَيُخْطِئُ مَرَّةً " ؛ فالمراد اجتماع الأمرين ، ولسنا نريد إلا الدقة .

الْجُمْلَةُ إِذا جاءَتْ بَعْدَ الْمُشَبَّهِ بِه لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ : (...) الثّالِثُ : أَنْ تَجيءَ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأً ، وَذلِكَ إِذا كانَ الْمُشَبَّهُ بِه مَعْرِفَةً ، وَلَمْ يَكُنْ هُناكَ " الَّذي " ، كَقَوْلِه - تَعالى ! - : " كَمَثَلِ الْعَنْكَبوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا " .

أجَلَّ الله رأي سيدنا ! بل جملة حال محذوفة " قد " ، أو غير محذوفتها ، ومعناها " مُتَّخِذَةً بَيْتًا " . أما المبتدأ بها أي الاستئنافية ، فالتي بعدها " إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبوتِ " .

اعْلَمْ أَنَّ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُقَلاءُ عَلَيْهِ ، أَنَّ " التَّمْثيلَ " ، إِذا جاءَ في أَعْقابِ الْمَعاني ، أَوْ بَرَزَتْ هِيَ بِاخْتِصارٍ في مَعْرِضِه ، وَنُقِلَتْ عَنْ صُوَرِهَا الْأَصْليَّةِ إِلى صورَتِه - كَساها أُبَّهَةً ، وَكَسَبَها مَنْقَبَةً ، وَرَفَعَ مِنْ أَقْدارِها ، وَشَبَّ مِنْ نارِها ، وَضاعَفَ قُواها في تَحْريكِ النُّفوسِ لَها ، وَدَعَا الْقُلوبَ إِلَيْها ، وَاسْتَثارَ لَها مِنْ أَقاصِي الْأَفْئِدَةِ صَبابَةً وَكَلَفًا ، وَقَسَرَ الطِّباعَ عَلى أَنْ تُعْطِيَها مَحَبَّةً وَشَغَفًا ! فَإِنْ كانَ مَدْحًا كانَ أَبْهى وَأَفْخَمَ ، وَأَنْبَلَ فِي النُّفوسِ وَأَعْظَمَ ، وَأَهَزَّ لِلْعِطْفِ ، وَأَسْرَعَ لِلْإِلْفِ ، وَأَجْلَبَ لِلْفَرَحِ ، وَأَغْلَبَ عَلَى الْمُمْتَدَحِ ، وَأَوْجَبَ شَفاعَةً لِلْمادِحِ ، وَأَقْضى لَه بِغُرِّ الْمَواهِبِ وَالْمَنائِحِ ، وَأَسْيَرَ عَلَى الْأَلْسُنِ وَأَذْكَرَ ، وَأَوْلى بِأَنْ تَعْلَقَهُ الْقُلوبُ وَأَجْدَرَ ! وَإِنْ كانَ ذَمًّا كانَ مَسُّه أَوْجَعَ ، وَميسمُه أَلْذَعَ ، وَوَقْعُه أَشَدَّ ، وَحَدُّه أَحَدَّ . وَإِنْ كانَ حِجاجًا كانَ بُرْهانُه أَنْوَرَ ، وَسُلْطانُه أَقْهَرَ ، وَبَيانُه أَبْهَرَ ! وَإِنْ كانَ افْتِخارًا كانَ شَأْوُه أَمَدَّ ، وَشَرَفُه أَجَدَّ ، وَلِسانُه أَلَدَّ ! وَإِنْ كانَ اعْتِذارًا كانَ إِلَى الْقَبولِ أَقْرَبَ ، وَلِلْقُلوبِ أَخْلَبَ ، وَلِلسِّخائِمِ أَسَلَّ ، وَلِغَرْبِ الْغَضَبِ أَفَلَّ ، وَفي عُقَدِ الْعُقودِ أَنْفَثَ ، وَعَلى حُسْنِ الرُّجوعِ أَبْعَثَ . وَإِنْ كانَ وَعْظًا كانَ أَشْفى لِلصَّدْرِ ، وَأَدْعى إِلَى الْفِكْرِ ، وَأَبْلَغَ فِي التَّنْبيهِ وَالزَّجْرِ ، وَأَجْدَرَ بِأَنْ يُجَلِّيَ الْغَيايَةَ ، وَيُبَصِّرَ الْغايَةَ ، وَيُبْرِئَ الْعَليلَ ، وَيَشْفِيَ الْغَليلَ !

كيف تجد هذه الأسجاع ، يا سيدنا ؟ قد تعمدتها ، وقصدت قصدها ، وانتزعتها من مكامنها ؛ فنبع بها رأيك من ينبوعه ، واستوى على أصوله وفروعه ! فحاشاك أن تنكر حاجة غيرك إليه ، ولا قدرته عليه !

في شَجَرِ السَّرْوِ مِنْهُم مَثَلٌ لَه رُواءٌ وَما لَه ثَمَر

من أمثال اللهجة العربية المصرية : " زَيِّ الْوِزّْ ، حِنّيَّهْ بَلا بِزّْ " !

لا تَحْتاجُ إِلَى الدَّلالَةِ عَلى أَنَّها ( الأوصاف التي يرد السامع فيها بالتمثيل من العقل إلى العيان ) هَلْ هِيَ مُمْكِنَةٌ مَوْجودَةٌ أَمْ لا .

يجترئ سيدنا على الإخبار بالإنشائية الاستفهامية ، ولكن التركيب هنا طريف جدا !

لَرُبَّما وَجَدْتَ لِهذَا الْمَثَلِ إِذا وَرَدَ عَلَيْكَ في أَثْناءِ الْفُصولِ ، وَحينَ تَبَيَّنَ الْفاضِلُ فِي الْبَيانِ مِنَ الْمَفْضولِ - قَبولًا ، وَلا ما تَجِدُ عِنْدَ فَوْحِ الْمِسْكِ وَنَشْرِ الْغالِيَةِ !

مثل هذا التعبير ما في المثل العربي اللهجي المصري : " سِتّْ ، وَلا ميتْ راجِلْ " ! ثم قديما كان متمم بن نويرة كلما أعجبه فتى يراه ، قال : " فَتًى ، ولا كَمالِكٍ " ! فصارت كلمته مثلا شرودا ، تقديره : هذا فتى ، ولا يكون كمالك أي ابن نويرة أخيه الذي قُتِلَ ؛ فبكاه عُمْرَه كُلَّه ! ولكن تعبير سيدنا هنا وتعبير المصريين ، عكس ما أولوا : " قبولا ، ولا يكونه ما تجد (...) " ، " ست ، ولا يكونها ميت راجل " - أي المحذوف المقدر في كلمة متمم ، يكون واسمها ، وفي كلمتي سيدنا والمصريين ، يكون وخبرها !

إِنْ قُلْتَ : فَيَجِبُ عَلى هذا ( كرامة المعنى الأبي ) أَنْ يَكونَ التَّعْقيدُ وَالتَّعْمِيَةُ وَتَعَمُّدُ ما يَكْسِبُ الْمَعْنى غُموضًا ، مُشَرِّفًا لَه وَزائِدًا في فَضْلِه ، وَهذا خِلافُ ما عَلَيْهِ النّاسُ ؛ أَلا تَراهُمْ قالوا : إِنَّ خَيْرَ الْكَلامِ ما كانَ مَعْناهُ إِلى قَلْبِكَ أَسْبَقَ مِنْ لَفْظِه إِلى سَمْعِكَ ؟ فَالْجَوابُ : إِنّي لَمْ أُرِدْ هذَا الْحَدَّ مِنَ الْفِكْرِ وَالتَّعَبِ ، وَإِنَّما أَرَدْتُ الْقَدْرَ الَّذي يُحْتاجُ إِلَيْهِ في نَحْوِ قَوْلِه :

فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزال

(...) فَإِنَّكَ تَعْلَمُ عَلى كُلِّ حالٍ أَنَّ هذَا الضَّرْبَ مِنَ الْمَعاني ، كَالْجَوْهَرِ فِي الصَّدَفِ ، لا يَبْرُزُ لَكَ إِلّا أَنْ تَشُقَّه عَنْهُ ، وَكَالْعَزيزِ الْمُحْتَجِبِ ، لا يُريكَ وَجْهَه حَتّى تَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ ! ثُمَّ ما كُلُّ فِكْرٍ يُهْتَدى إِلى وَجْهِ الْكَشْفِ عَمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ، وَلا كُلُّ خاطِرٍ يُؤْذَنُ له فِي الْوُصولِ إِلَيْهِ ؛ فَما كُلُّ أَحَدٍ يُفْلِحُ في شَقِّ الصَّدَفَةِ ، وَيَكونُ في ذلِكَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ ، كَما لَيْسَ كُلُّ مَنْ دَنا مِنْ أَبْوابِ الْمُلوكِ فُتِحَتْ لَه ، وَكانَ :

مِنَ النَّفَرِ الْبيضِ الَّذينَ إِذَا اعْتَزَوْا وَهابَ رِجالٌ حَلْقَةَ الْبابِ قَعْقَعوا

أَوْ كَما قالَ :

تُفَتَّحُ أَبْوابُ الْمُلوكِ لِوَجْهِه بِغَيْرِ حِجابٍ دونَه أَوْ تَمَلُّق

وَأَمَّا التَّعْقيدُ فَإِنَّما كانَ مَذْمومًا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُرَتَّبِ التَّرْتيبَ الَّذي بِمِثْلِه تَحْصُلُ الدَّلالَةُ عَلَى الْغَرَضِ ، حَتَّى احْتاجَ السّامِعُ إِلى أَنْ يَطْلُبَ الْمَعْنى بِالْحيلَةِ ، وَيَسْعى إِلَيْه مِنْ غَيْرِ الطَّريقِ ، كَقَوْلِه :

وَلِذَا اسْمُ أَغْطِيَةِ الْعُيونِ جُفونُها مِنْ أَنَّها عَمَلَ السُّيوفِ عَوامل

وَإِنَّما ذُمَّ هذَا الْجِنْسُ لِأَنَّه أَحْوَجَكَ إِلى فِكْرٍ زائِدٍ عَلَى الْمِقْدارِ الَّذي يَجِبُ في مِثْلِه ، وَكَدَّكَ بِسوءِ الدَّلالَةِ ، وَأودِعَ لَكَ في قالَبٍ غَيْرٍ مُسْتَوٍ وَلا مُمَلَّسٍ ، بَلْ خَشِنٍ مُضَرَّسٍ ، حَتّى إِذا رُمْتَ إِخْراجَه مِنْهُ عَسُرَ عَلَيْكَ ، وَإِذا خَرَجَ خَرَجَ مُشَوَّهَ الصّورَةِ ناقِصَ الْحُسْنِ !

كأنما أراد سيدنا ألا يغمض على المتلقي ، المعنى الأول الذي سيغوص به على المعنى الثاني ، لكيلا يستفرغ في المعنى من وسعه ما ينبغي أن يبذله في معنى المعنى .