قراءة في ديوان: أنت وجه الملاك
للشاعر رافع حلبي
رافع خيري حلبي
دالية الكرمل بلد النور – حيفا
في زمن تشوّه فيه كل شيء.. حتى مفاهيم الأدب.. يبقى الصوت النقي المعبر بعمق، ينزل على أسماعنا، يهز فينا صدى المعاني الطيبة، لتولد، ونصحو على صداها القادم بعبق من المعاني المغيبة عن وعينا منذ زمن.. فبعض المعاني تحتاج إلى وعينا لتتجسد حقيقة ناصعة، وإلا اعتلاها الغموض،وغرّبها ازدحام الذاكرة بكل غريب خاطئ دخيل.
الرومانسية من المعاني التي غيّبها ازدحام الذاكرة بمشوه الأفكار.. فباتت تعني للكثيرين معاني الغرام والغزل المشبع بالإباحة.. وهذا هو التشويه بعينه. لأن الرومانسية أصلا تعني عشق الطبيعة.. تعني العاطفة البكر التي تستمد طهرها من توحدها بطهر الطبيعة الأم.. الرومانسية تعني أن يحج القلب والروح الى الأم الطبيعة؛ في رحلة التأمل والتبتل في محراب الطبيعة العاشقة المعشوقة .
يطل علينا الشاعر رافع حلبي بديوانه الصغير الأنيق "أنت وجه ملاك"، ليجدد معاني الرومانسية الحقيقية.. حيث تكتسب الحبيبة وتتقمص روح الطبيعة والوطن والطفولة والشمس والقمر.. في الوطن الحبيب المتربع على عشق القلوب. في رحلة طهر المشاعر والعواطف، ليهمس:
"ما أجمل الإنسان الطاهر
أنت هو الإنسان" / ص 7
معنى من معاني الرومانسية يتجلى بأحلى صوره: التوحد مع الطبيعة. يقدِّم له الشاعر ببرقية موجزة بقوله:
"في زمن تطاول فيه البؤس وعزّ الفرح
أنت الطيب كله" / ص3
وكأني بشاعرنا لم يطق صبراً... فأسرع بالبوح والكشف عن سره ، سر حبه العظيم، الذي علمه التوحد مع الطبيعة، راضعا ثدي طهرها، ليشعر بأنه مختلف:
"يجعلني رجلا آخر
تكتنفه اللباقة
تعانقه الرّقة..
المنسابة إلى داخل الروح
كحب الأوطان" /ص12
فالرومانسية تجل لأعظم المشاعر الإنسانية، في تجسيد الارتباط إلى درجة التوحد بالطبيعة الأم عامة.. وبالطبيعة الوطن خاصة.. ولكي يوضح الفكرة، وبدون أدنى لبس، يضيف:
"حبيبتي وجه الملاك
من حب الأوطان ..
تزهو كالبلّور
أطال الله بقاءك يا وطني
فأنت بلدي دالية الكرمل
حبي الأبدي" / ص15
أما وقد كشف الرمز، وأبان عن حقيقة ما يصبو إليه قلبه، وتتشوّق روحه.. فأصبح لزاماً عليه أن يكمل الصورة.. صورة الرومانسي الحقيقية.. حيث التوحد مع طهر الطبيعة البكر، والتغني به وبكل معاني العشق الطهري ، حيث تتحول الكلمات إلى صور.. إلى لغة عالمية؛ حروفها مشاهد الطبيعة.. ومعانيها أشواق الأرواح المتوحدة وجدا معها وبها.
"في عينيك كلمات كل لغات أهل الأرض
ويرقص القمر على دموعك الأخيرة..
العالقة على رموشك
التي تذكر بعيون الملائكة
بالربيع الزاهي المخضرّ في كرملي
والبحار الثائرة
كثوران حبي لك" / ص21
وليس لأحد أن يناقشه في ما يقصد، أو يعبر.. أو يريد، بل على القارئ أن يعيش المعاني؛ كلوحة توحدت فيها الألوان؛ في تمازج يحاكي طبيعة النفوس، تتأمل الطبيعة في لحظة توحد جمالي، تغيب معها كل الصور.. ولا يبقى في الذاكرة سوى لوحة الطبيعة المرسومة في الوجدان كنموذج للطهر والصفاء والنقاء.. التي لا يملك معها الإنسان إلا التعبير عن عشقه لكل ما يتداخل مع هذه الصورة.. والوطن هو مرآة هذه الصورة.. أنه الطبيعة حين تحتل القلوب بطهرها وصفائها.. والعشق حين يتجسد مرآة لنبل وصدق العاطفة وسموها. وما أروع ما عبر به شاعرنا عن هذا التجلي بقوله:
"كيف أنسى فضلك حبيبتي
وأنسى الفداء..
وأنت متوحّدة بداخلي
متقمصة أنفاسي من دون داء" /ص24
وإمعانا بالتوضيح.. بل إمعانا في قراءة لغة الطبيعة والعشق المتولد من توحد الروح في بوتقة الطبيعة الأم والوطن يضيف الشاعر:
"ربيع دائم أنت
تجمعين بين الماضي والحاضر
فتكتبين الحضارات وتوثقين التاريخ
تبرهنين لكل أهل الأرض
صدق القول، وحسن النوايا" /ص28
ولتكتمل الصورة.. ولتكتسب قدسية.. وطهراً علوياً لا يضاهيه طهر.. تتحد معالم الصورة مع ملامح الفكرة، في بوتقة الإيمان الواعي المستنير بنور المحبة والقداسة اليقينية. وبلوغا إلى مرحلة الهدف النبيل السامي.. المستظل في جنان الروحانية العلوية،يضيف شاعرنا:
"وتزرعين بذور المحبة
فتنبت وتزهر وتثمر .. أطفالا أبرياء..
يحبهم المعتلي ذروة الأزل" /ص40
هكذا اكتملت الصورة.. الطبيعة، سر الجمال والطهر الإلهي.. تتجلى فيها روح العشق الروحاني الطاهر الصافي النقي.. ويتجسد فيها حب الوطن؛ بما يمثل من معاني العطاء والخير والتضحية والعشق.. المتسامي عن عوالق المادة والغاية. لتكون جميعها مَنبتاً للطّهر.. وما الطهر إلا الطفولة.. زهراً وندى.. وإنسانا بريئاً كبراءة الطبيعة..
"أنت أحلام الطفولة..
ومزارع الطريق
وابتسامة الأطفال، /ص65
أحلام الطفولة: مروج من طهر ونقاء.. ومزارع الطريق: عطاء غير مملوك من أحد.. ولا مشروط بشرط.. انه عطاء لكل من يحتاج العطاء زادا له على الطريق.. وابتسامة الاطفال: تبقى نور الطريق .. وهدف الرحلة وغاية السائرين على طريق المحبة .. حيث يرتسم في صفحة الكون وجه الملاك،بصورة طفل الوطن، والوطن الطفل.
ونحن إذ نحيي شاعرنا الذي أعاد إلينا صور الجمال بكل براءتها.. نتمنى له مزيداً من القدرة على البذل والعطاء .