تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 71

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 71

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " دَلائِلُ الْإِعْجازِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

لَوْ كانَ لا يَكونُ النَّفيسُ مِنَ الْمالِ نَفيسًا عِنْدَ جَوادٍ ، لَكانَ قَوْلُهُمْ : إِنَّه يَشْتَرِي الْحَمْدَ بِالْغَلاءِ ، مُحالًا ، لِأَنَّه لا يَكونُ الْمُشْتَرِي الشَّيْءَ غالِيًا حَتّى يَبْذُلَ فيهِ مِنَ الْمالِ ما يَكونُ لَه خَطَرٌ عَظيمٌ عِنْدَه .

" لا يَكونُ الْمُشْتَرِي الشَّيْءَ غالِيًا " ، أم لا يَرى (...) !

إِنْ قالوا ( المجادلون في إعجاز القرآن ) : إِنَّ ها هُنا أَمْرًا آخَرَ ، وَهُوَ ما عَلِمْنا مِنْ تَقْديمِهِمْ شُعَراءَ الْجاهِليَّةِ عَلى أَنْفُسِهِمْ ، وَإِقْرارِهِمْ لَهُمْ بِالْفَضْلِ ، وَإِجْماعِهِمْ فِي امْرِئِ الْقَيْسِ وَزُهَيْرٍ وَالنّابِغَةِ وَالْأَعْشى أَنَّهُمْ أَشْعَرُ الْعَرَبِ ؛ وَإِذا كانَ ذلِكَ كَذلِكَ ، فَمِنْ أَيْنَ لَنا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكونوا بِحَيْثُ لَوْ تُحُدّوا إِلى مُعارَضَةِ الْقُرْآنِ لَقاموا بِها وَاسْتَطاعوها ؟ قيلَ لَهُمْ : هذَا الْفَصْلُ عَلى ما فيه ، لا يَقْدَحُ في مَوْضِعِ الْحُجَّةِ ؛ وَذلِكَ أَنَّهُمْ كانوا كَما لا يَخْفى ، يَرْوونَ أَشْعارَ الْجاهِليّينَ وَخُطَبَهُمْ ، وَيَعْرِفونَ مَقاديرَهُمْ فِي الْفَصاحَةِ مَعْرِفَةَ مَنْ لا تُشْكِلُ جِهاتِ الْفَصْلِ عَلَيْهِ ، فَلَوْ كانوا يَرَوْنَ فيما رَوَوْا وَحَفِظوا ، مَزيَّةً عَلَى الْقُرْآنِ ، أَوْ رَأَوْهُ قَريبًا مِنْهُ ، أَوْ بِحَيْثُ يَجوزُ أَنْ يُعارَضَ بِمِثْلِه ، أَوْ يَقَعَ لَهُمْ إِذا قاسوا أَوْ وازَنوا أَنَّ هذَا الَّذي تُحُدّوا إِلى مُعارَضَتِه لَوْ تُحُدِّيَ إِلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ لَاسْتَطاعوا أَنْ يَأْتوا بِمِثْلِه - لَكانوا يَدَّعونَ ذلِكَ وَيَذْكُرونَه ، وَلَوْ ذَكَروهُ لَذُكِرَ عَنْهُمْ . وَمُحالٌ - إِذا رَجَعْنا إِلى أَنْفُسِنا وَاسْتَشْفَفْنا حالَ النّاسِ فيما جُبِلوا عَلَيْهِ - أَنْ يَكونوا قَدْ عَرَفوا لِما تُحُدّوا إِلَيْهِ وَقُرِّعوا بِالْعَجْزِ عَنْهُ شِبْهًا وَنَظْمًا ، ثُمَّ يُتْلى عَلَيْهِمْ : " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعضٍ ظَهيرًا " ، فَلا يَزيدونَ في جَوابِه عَلَى الصَّمْتِ ، وَلا يَقولونَ : لَقَدْ رَوَيْنا لِمَنْ تَقَدَّمَ ما عَلِمْتَ وَعَلِمْنا أَنَّه لا يَقْصُرُ عَمّا أَتَيْتَ بِه ، فَمِنْ أَيْنَ اسْتَجَزْتَ أَنْ تَدَّعِيَ هذِهِ الدَّعْوى ؟ فَإِذا كانَ مِنَ الْمَعْلومِ ضَرورَةً أَنَّهُمْ لَمْ يَقولوا ذلِكَ ، وَلا رَأَوْا أَنْ يَقولوهُ ، وَلَوْ عَلى سَبيلِ الدَّفْعِ وَالتَّلْبيسِ وَالتَّشَغُّبِ بِالْباطِلِ ، بَلْ كانوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمّا أَنْ يُخْبِروا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْعَجْزِ وَالْقُصورِ ، َوذلِكَ حينَ يَخْلو بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، وَكانَ الْحالُ حالَ تَصادُقٍ - وَإِمّا أَنْ يَتَعَلَّقوا بِما لا يَتَعَلَّقُ بِه إِلّا مَنْ أَعْوَزَتْهُ الْحيلَةُ ، وَمَنْ فُلَّ بِالْحُجَّةِ ، مِنْ نِسْبَتِه إِلَى السِّحْرِ تارَةً ، وَإِلى أَنَّه مَأْخوذٌ مِنْ فُلانٍ وَفُلانٍ أُخْرى ، يُسَمّونَ أَقْوامًا مَجْهولينَ لا يُعْرَفونَ بِعِلْمٍ ، وَلا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّ عِنْدَهُمْ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ - ثَبَتَ أَنَّهُمْ قَدْ كانوا عَلِموا أَنَّ صورَةَ أُولئِكَ الْأَوائِلِ صورَتُهُمْ ، وَأَنَّ التَّقْديرَ فيهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ كانوا في زَمانِ النَّبيِّ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - ثُمَّ تُحُدّوا إِلى مُعارَضَتِه ، لكانوا في مِثْلِ حالِ هؤُلاءِ الْكائِنينَ في زَمانِه حالُهُمْ . وَإِذا كانَ هذا هكَذا ، فَقَدِ انْتَفَى الشَّكُّ ، وَحَصَلَ الْيَقينُ الَّذي تَسْكُنُ مَعَهُ النَّفْسُ ، وَيَطْمَئِنُّ عِنْدَهُ الْقَلْبُ ، أَنَّه مُعْجِزٌ ناقِضٌ لِلْعادَةِ ، وَأَنَّه في مَعْنى قَلْبِ الْعَصا حَيَّةً ، وَإِحْياءِ الْمَوْتى ، في ظُهورِ الْحُجَّةِ بِه عَلَى الْخَلْقِ كافَّةً ، وَبانَ أَنْ قَدْ سَعِدَ الْمُؤْمِنونَ وَخَسِرَ الْمُبْطِلونَ .

لقد أدرك الأعشى الإسلام ، وذكروا أنه إنما سُمِّيَ صَنّاجة العرب ، بما تسرب إلى شعره من جَرْس القرآن الكريم . ولقد وفد على رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - بمِدْحَتِه الدالية ، مسلما ، ففتنه كفار قريش ، فهلك ، وبقيت مدحته ، فصدقت الخنساء :

" وَقافِيَةٍ مِثْلِ حَدِّ السِّنانِ تَبْقى وَيَهْلِكُ مَنْ قالَها " !

ثم من خصائص أسلوب الرجل تفجير كنوزه بتعليق جوارَّ بالأفعال ، غير التي استهَلَكْنا تَعْليقَها بها ؛ كالباء في قوله : " يَخْلو بَعْضُهُمْ بِبِعْضٍ " ، وإلى في قوله : " يُزْلِفُنا إِلَيْهِ " ، وقوله : " تُحُدّوا إِلَيْهِ " ؛ فإننا ربما استعملنا في الأول " إلى " ، وفي الثاني " من " ، وفي الثالث الباء !

رَوَوْا أَنَّ أَميرَ الْمُؤْمِنينَ عَليًّا - رِضْوانُ اللّهِ عَلَيْهِ ! - كانَ يُفَطِّرُ النّاسَ في شَهْرِ رَمَضانَ ، فَإِذا فَرَغَ مِنَ الْعَشاءِ تَكَلَّمَ ، فَأَقَلَّ ، وَأَوْجَزَ ، فَأَبْلَغَ - قالَ - فَاخْتَصَمَ النّاسُ لَيْلَةً في أَشْعَرِ النّاسِ ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْواتُهُمْ ، فَقالَ - رِضْوانُ اللّهِ عَلَيْهِ ! - لِأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَليِّ : قُلْ يا أَبَا الْأَسْوَدِ ! وَكانَ يَتَعَصَّبُ لِأَبي دُؤادٍ ، فَقالَ : أَشْعَرُهُمُ الَّذي يَقولُ :

وَلَقَدْ أَغْتَدي يُدافِعُ رُكْني أَحْوَذيٌّ ذو مَيْعَةٍ إِضْريج

مِخْلَطٌ مِزْيَلٌ مِكَرٌّ مِفَرٌّ مِنْفَحٌ مِطْرَحٌ سَبوحٌ خَروج

سَلْهَبٌ شَرْجَبٌ كَأَنَّ رِماحًا حَمَلَتْه وَفِي السَّراةِ دُموج

فَأَقْبَلَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ - رِضْوانُ اللّهِ عَلَيْهِ ! - عَلَى النّاسِ ، فَقالَ : كُلُّ شُعَرائِكُمْ مُحْسِنٌ ، وَلَوْ جَمَعَهُمْ زَمانٌ واحِدٌ وَغايَةٌ وَمَذْهَبٌ واحِدٌ فِي الْقَوْلِ ، لَعَلِمْنا أَيُّهُمْ أَسْبَقُ إِلى ذلِكَ ، وَكُلُّهُمْ قَدْ أَصابَ الَّذي أَرادَ ، وَأَحْسَنَ فيهِ ، وَإِنْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ أَفْضَلَ ، فَالَّذي لَمْ يَقُلْ رَغْبَةٌ - هكذا والصواب رَغْبَةً - وَلا رَهْبَةً ، امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ ، كانَ أَصَحَّهُمْ بادِرَةً ، وَأَجْوَدَهُمْ نادِرَةً .

أَحْبِبْ بأن أَرُدَّ فُتوحَ كُلِّ علم عربي إسلامي ، إلى مِثْلِ سيدنا علي - كرم الله وجهه ! - مَرَدًّا شريفا ! ومن قبل ما تمسكت بردِّ نشأة علم النحو إلى توجيهه لأبي الأسود ، والآن أرد إليه فقه الموازنة بين النصوص - ثم أحتج به في إخراج العباقرة من كل موازنة !

أَمّا تَقَدُّمُ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلى سائِرِهِمْ ، فَفي مَعْنى تَقَدُّمِ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصارِ ، غَيْرَه مِمَّنْ يَضُمُّه وَإِيّاهُ ذلِكَ الْمِصْرُ ، لا فَضْلَ في ذلِكَ بَيْنَ الْأَمْصارِ وَالْأَعْصارِ إِذا حَقَّقْتَ النَّظَرَ ؛ إِذْ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنَّ واحِدًا زادَ عَلى جَماعَةٍ مَعْدودينَ في نَوْعٍ مِنَ الْأَنْواعِ ، فَكانَ أَعْلَمَهُمْ أَوْ أَكْتَبَهُمْ أَوْ أَشْعَرَهُمْ أَوْ أَحْذَقَهُمْ في صَنْعَةٍ وَأَبْهَرَهُمْ في عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمالِ . وَلَيْسَ ذلِكَ مِنَ الْإِعْجازِ في شَيْءٍ ؛ إِنَّمَا الْمُعْجِزُ ما عُلِمَ أَنَّه فَوْقَ قُوَى الْبَشَرِ وَقُدَرِهِمْ - إِنْ كانَ مِنْ جِنْسِ ما يَقَعُ التَّفاضُلُ فيهِ مِنْ جِهَةِ الْقُدَرِ - أَوْ فَوْقَ عُلومِهِمْ ، إِنْ كانَ مِنْ قَبيلِ ما يَتَفاضَلُ النّاسُ فيهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ .

ما أقدم حيرتنا في إمكان حصول تعبير معجز لبعض الناس دون بعض !

اعْلَمْ أَنَّ هذَا السُّؤالَ يَجيءُ لَهُمْ عَلى وَجْهٍ آخَرَ (...) أَنْ يَقولوا : إِنَّه لا تَصِحُّ الْمُطالَبَةُ إِلّا بِما يُتَصَوَّرُ وُجودُه ، وَما يَدْخُلُ في حَيِّزِ الْمُمْكِنِ ، وَإِنّا لَنَعْلَمُ مِنْ حالِ الْمَعاني أَنَّ الشّاعِرَ يَسْبِقُ فِي الْكَثيرِ مِنْها إِلى عِبارَةٍ يُعْلَمُ ضَرورَةً أَنَّها لا يَجيءُ في ذلِكَ الْمَعْنى إِلّا ما هُوَ دونَها وَمُنْحَطٌّ عَنْها ، حَتّى يُقْضى لَه بِأَنَّه قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ وَاسْتَبَدَّ بِه ، كما قَضَى الْجاحِظُ لِبَشّارٍ في قَوْلِه :

كَأَنَّ مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤوسِنا وَأَسْيافَنا لَيْلٌ تَهاوى كَواكِبُهُ

- هكذا والصواب : كَواكِبُهْ - فَإِنَّه أَنْشَدَ هذَا الْبَيْتَ مَعَ نَظائِرِه ، ثُمَّ قالَ : " وَهذَا الْمَعْنى قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ بَشّارٌ ، كَما غَلَبَ عَنْتَرَةُ عَلى قَوْلِه :

وَخَلَا الذُّبابُ بِه فَلَيْسَ بِبارِحٍ غَرِدًا كَفِعْلِ الشّارِبِ الْمُتَرَنِّم

هَزِجًا يَحُكُّ ذِراعَه بِذِراعِه قَدْحَ الْمُكِبِّ عَلَى الزِّنادِ الْأَجْذَم

- قالَ - فَلَوْ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ عَرَضَ لِمَذْهَبِ عَنْتَرَةَ في هذا لَافْتَضَحَ " ! وَلَيْسَ ذلِكَ لِأَنَّ بَشّارًا وَعَنْتَرَةَ قَدْ أوتِيا في عِلْمِ النَّظْمِ جُمْلَةً ما لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُما ، وَلكِنْ لِأَنَّه إِذا كانَ في مَكانٍ خَبيءٌ ، فَعَثَرَ عَلَيْهِ إِنْسانٌ ، وَأخَذَه - لَمْ يَبْقَ لِغَيْرِه مَرامٌ في ذلِكَ الْمَكانِ ، وَإِذا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّدَفَةِ إِلّا جَوْهَرَةٌ واحِدَةٌ ، فَعَمَدَ إِلَيْها عامِدٌ ، فَشَقَّها عَنْها - اسْتَحالَ أَنْ يَسْتامَ هُوَ أَوْ غَيْرُه إِخْراجَ جَوْهَرَةٍ أُخْرى مِنْ تِلْكَ الصَّدَفَةِ . وَما هذا سَبيلُه فِي الشِّعْرِ كَثيرٌ لا يَخْفى عَلى مَنْ مارَسَ هذَا الشَّأْنِ ؛ فَمِنَ الْبَيِّنِ في ذلِكَ قَوْلُ الْقَطاميِّ :

فَهُنَّ يَنْبِذْنَ مِنْ قَوْلٍ يُصِبْنَ بِه مَواقِعَ الْماءِ مِنْ ذِي الْغُلَّةِ الصّادي

وَقَوْلُ ابْنِ حازِمٍ :

كَفاكَ بِالشَّيْبِ ذَنْبًا عِنْدَ غانِيَةٍ وَبِالشَّبابِ شَفيعًا أَيُّهَا الرَّجُل

وَقَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ حَسّانَ :

لَمْ تَفُتْها شَمْسُ النَّهارِ بِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّ الشَّبابَ لَيْسَ يَدوم

وَقَوْلُ الْبُحْتُريِّ :

عَريقونَ فِي الْإِفْضالِ يُؤْتَنَفُ النَّدى لِناشِئِهِمْ مِنْ حَيْثُ يُؤْتَنَفُ الْعُمْر

لا يَنْظُرُ في هذا وَأَشْباهِه عارِفٌ إِلّا عَلِمَ أَنَّه لا يوجَدُ فِي الْمَعْنَى الَّذي يَرى - ضم في المطبوعة ياء الفعل وفتح راؤه وما أثبت أفضل إن شاء الله - مِثْلُه - وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ بَلَغَ غايَتَه ، وَأَنْ لَمْ يَبْقَ لِلطّالِبِ مَطْلَبٌ . وَكَذلِكَ السَّبيلُ فِي الْمَنْثورِ مِنَ الْكَلامِ ؛ فَإِنَّكَ تَجِدُ فيهِ مَتى شِئْتَ فُصولًا تَعْلَمُ أَنْ لَنْ يُسْتَطاعَ في مَعانيها مِثْلُها ؛ فَمِمّا لا يَخْفى أَنَّه كَذلِكَ قَوْلُ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ عَليِّ بْنِ أَبي طالِبٍ - رِضْوانُ اللّهِ عَلَيْهِ ! - : " قيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ ما يُحْسِنُه " ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ ( البصري ) - رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْه ! - : " ما رَأَيْتُ يَقينًا لا شَكَّ فيهِ أَشْبَهَ بِشَكٍّ لا يَقينَ فيهِ ، مِنَ الْمَوْتِ " . وَلَنْ تَعْدَمَ ذلِكَ إِذا تَأَمَّلْتَ كَلامَ الْبُلَغاءِ ، وَنَظَرْتَ فِي الرَّسائِلِ . وَمِنْ أَخَصِّ شَيْءٍ بِأَنْ يُطْلَبَ ذلِكَ فيهِ ، الْكُتُبُ الْمُبْتَدَأَةُ الْمَوْضوعَةُ فِي الْعُلومِ الْمُسْتَخْرَجَةِ ؛ فَإِنّا نَجِدُ أَرْبابَها قَدْ سَبَقوا في فُصولٍ مِنْها إِلى ضَرْبٍ مِنَ اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ ، أَعْيا مَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَطْلُبوا مِثْلَه ، أَوْ أَنْ يَجيئوا بِشَبيهٍ لَه ، فَجَعَلوا لا يَزيدونَ عَلى أَنْ يَحْفَظوا تِلْكَ الْفُصولَ عَلى وُجوهِها ، وَيُؤَدّوا أَلْفاظَهُمْ فيها عَلى نِظامِها وَكَما هِيَ ؛ وَذلِكَ ما كانَ مِثْلَ قَوْلِ سيبَوَيْهِ في أَوَّلِ الْكِتابِ : " وَأَمَّا الْفِعْلُ فَأَمْثِلَةٌ أُخِذَتْ مِنْ لَفْظِ أَحْداثِ الْأَسْماءِ ، وَبُنِيَتْ لِما مَضى وَما يَكونُ وَلَمْ يَقَعْ ، وَما هُوَ كائِنٌ لَمْ يَنْقَطِعْ " - لا نَعْلَمُ أَحَدًا أَتى في مَعْنى هذَا الْكَلامِ بِما يُوازِنُه ، أَوْ يُدانيهِ ، أَوْ يَقَعُ قَريبًا مِنْهُ ، وَلا يَقَعُ فِي الْوَهْمِ أَيْضًا أَنْ ذلِكَ يُسْتَطاعُ ؛ أَفَلا تَرى أَنَّه إِنَّما جاءَ في مَعْناهُ قَوْلُهُمْ : وَالْفِعْلُ يَنْقَسِمُ بِأَقْسامِ الزَّمانِ ، ماضٍ وَحاضِرٌ وَمُسْتَقْبَلٌ ، وَلَيْسَ يَخْفى ضَعْفُ هذا في جَنْبِه وَقُصورُه عَنْهُ . وَمِثْلُه قَوْلُه ( سيبويه ) : " كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمونَ الَّذي بَيانُه أَهَمُّ لَهُمْ ، وَهُمْ بِشَأْنِه أَعْنى ، وَإِنْ كانا جَميعًا يُهِمّانِهِمْ وَيَعْنِيانِهِمْ " . وَإِذا كانَ الْأَمْرُ كَذلِكَ ، لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكونَ سَبيلُ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِه هذَا السَّبيلَ ، وَأَنْ يَكونَ عَجْزُهُمْ عَنْ أَنْ يَأْتوا بِمِثْلِه في طَريقِ الْعَجْزِ عَمّا ذَكَرْنا وَمَثَّلْنا (...) فَإِنَّه يَنْبَغي أَنْ يُقالَ لَهُمْ : قَدْ سَلَّمْنا أَنَّ الْأَمْرَ كَما قُلْتُمْ وَعَلِمْتُمْ ، أَفَعَلِمْتُمْ شاعِرًا أَوْ غَيْرَ شاعِرٍ ، عَمَدَ إِلى ما لا يُحْصى كَثْرَةً مِنَ الْمَعاني ، فَتَأَتّى لَه في جَميعِها لَفْظٌ أَوْ نَظْمٌ أَعْيَا النّاسَ أَنْ يَسْتَطيعوا مِثْلَه ، أَوْ يَجِدوهُ لِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ ؟ أَمْ ذلِكَ شَيْءٌ يَتَّفِقُ لِلشّاعِرِ ، مِنْ كُلِّ مِئَةِ بَيْتٍ يَقولُها ، في بَيْتٍ ؟ وَلَعَلَّ غَيْرَ الشّاعِرِ عَلى قِياسِ ذلِكَ . وَإِذا كانَ لا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرافِ بِالثّاني مِنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَهُوَ أَلّا يَكونَ إِلّا نادِرًا وَفِي الْقَليلِ - فَقَدْ ثَبَتَ إِعْجازُ الْقُرْآنِ بِنَفْسِ ما راموا بِه دَفْعَه ، مِنْ حَيْثُ كانَ النَّظْمُ الَّذي لا يُقْدَرُ عَلى مِثْلِه ، قَدْ جاءَ مِنْهُ فيما لا يُحْصى كَثْرَةً مِنَ الْمَعاني . وَهكَذَا الْقَوْلُ فِي الْفُصولِ الَّتي ذَكَروا أَنَّه لَمْ يوجَدْ أَمْثالُها في مَعانيها ، لِأَنَّها لا تَسْتَمِرُّ وَلا تَكْثُرُ ، وَلكِنَّكَ تَجِدُها كَالْفُصوصِ الثَّمينَةِ وَالْوَسائِطِ النَّفيسَةِ وَأَفْرادِ الْجَواهِرِ ، تَعُدُّ كَثيرًا حَتّى تَرى واحِدًا ؛ فَهذا وَشِبْهُه مِنَ الْقَوْلِ في دَفْعِهِمْ ، مَعَ تَسْليمِ ما ظَنّوهُ مِنْ أَنَّ التَّحَدِّيَ كانَ إِلى أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ مَعانِي الْقُرْآنِ أَنْفُسِها - مُمْكِنٌ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ ، إِلّا أَنَّ الْأَوْلى أَنْ يُلْزَمَ الْجَدَدُ الظّاهِرُ ، وَأَلّا يُجابوا إِلى ما قالوهُ مِنْ أَنَّ التَّحَدِّيَ كانَ إِلى أَنْ يُؤْتى في أَنْفُسِ مَعانيهِ بِنَظْمٍ وَلَفْظٍ يُشابِهُه وَيُساويهِ ، وَيُجْزَمَ لَهُمْ بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ تُحُدّوا إِلى أَنْ يَجيئوا في أَيِّ مَعْنًى أَرادوا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ ، وَمُوَسَّعًا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُضَيَّقٍ ، بِما يُشْبِهُ الْقُرْآنَ ، أَوْ يَقْرُبُ مِنْ ذلِكَ .

ما زال في كلام سيدنا جواز أن يقع للمعبر أو يقع المعبر على ما يُعْجِزُ غيره ، وإن جعله على جهة سبقه إليه ، لا على جهة اختراعه له ، مما يذكرنا المعاني المطروحة في الطريق ، التي تُعْثِرُه عليها صورةُ النظم .

ثم قد علق أستاذنا المحقق العلامة قوله : " الْوَسائِطُ جَمْعُ واسِطَةٍ " ، وإنما جمع واسطة هو " وَواسِط " ، ثم تقلب واوها همزة إلى " أَواسِط " ، فأما " وَسائِطُ " فجمع " وَسيطَة " ، وكأنه يُسْتَغْنى به عن " أواسط " لالتباس " أَواسِط " هذا بجمع " أَوْسَط " .

إِذا تَأَمَّلْنَا الْحالَ في تَقْديمِهِمُ الشّاعِرَ في فَنٍّ مِنَ الْفُنونِ ، وَجَدْناهُمْ قَدْ فَعَلوا ذلِكَ عَلى مَعْنى أَنَّه قَدْ خَرَّجَ في مَعاني ذلِكَ الْفَنِّ ما لَمْ يُخَرِّجْهُ غَيْرُه ، وَاتَّسَعَ لِما لَمْ يَتَّسِعْ لَه مَنْ سِواهُ . فَإِذا قالوا : هُوَ أَنْسَبُ النّاسِ ، فَالْمَعْنى أَنَّه فَطِنَ في مَعانِي الْغَزَلِ وَما يَدُلُّ عَلى شِدَّةِ الْوَجْدِ وَفَرْطِ الْحُبِّ وَالْهَيَمانِ ، لِما لَمْ يَفْطُنْ لَه غَيْرُه . وَكَذلِكَ إِذا قالوا : أَمْدَحُ ، أَوْ أَهْجى ، فَالْمَعْنى أَنَّه قَدِ اهْتَدى في مَعانِي الزَّيْنِ وَالشَّيْنِ وَفِي التَّحْسينِ وَالتَّهْجينِ إِلى ما لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ نُظَراؤُه . وَلَوْ كانوا فِي اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ يَذْهَبونَ ، لَكانَ مُحالًا أَنْ يَقولوا : هُوَ أَنْسَبُ ، لِأَنَّ ذلِكَ في صِفَةِ اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ مُحالٌ . وَمَنْ هذَا الَّذي يَشُكُّ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ جَريرٍ :

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطايا وَأَنْدَى الْعالَمينَ بُطونَ راح

أَمْدَحَ بَيْتٍ عِنْدَ مَنْ قالَ ذلِكَ ، مِنْ أَجْلِ لَفْظِه وَنَظْمِه ، وَأَنَّ ذلِكَ كانَ مِنْ أَجْلِ مَعْناهُ !

وكيف يهتدي إلى معنى طريف ، من غير أن يكون اهتدى فيه إلى نظم طريف !

إِنَّه لَيْسَ فِي الْعادَةِ أَنْ يُذْعِنَ الرَّجُلُ لِخَصْمِه ، وَيَسْتَكينَ لَه ، وَيُلْقِيَ بِيَدِه ، وَيَسْكُتَ عَلى تَقْريعِه لَه بِالْعَجْزِ وَتَرْديدِهِ الْقَوْلَ في ذلِكَ ، وَقَدْرُ ما ظَهَرَ مِنَ الْمَزيَّةِ قَدْرٌ قَدْ يَطْمَعُ الْإِنْسانُ في مِثْلِه ، وَيَرى أَنَّه يَنالُه إِذا هُوَ اجْتَهَدَ وَتَعَمَّدَ = بَلِ الْعادَةُ في مِثْلِ هذا أَنْ يَدْفَعَ الْعَجْزَ عَنْ نَفْسِه ، وَأَنْ يَجْحَدَ الَّذي عَرَفَ لِصاحِبِه مِنَ الْمَزيَّةِ وَيَتَشَدَّدَ ، كَما فَعَلَ حَسّانُ ، فَيَدَّعِيَ في مُساواتِه ، وَأَنَّه إِنْ كانَ جَرى إِلى غايَةٍ رَأى لِنَفْسِه بِها تَقَدُّمًا ، إِنَّه لَيَجْري إِلى مِثْلِها ، وَأَنْ يَقولَ : لا تَغْلُ ، وَلا تُفْرِطْ ، وَلا تَشْتَطَّ في دَعْواكَ ؛ فَلَئِنْ كُنْتَ قَدْ نِلْتَ بَعْضَ السَّبْقِ ، إِنَّكَ لَمْ تُبْعِدِ الْمَدى بُعْدَ مَنْ لا يُدانى وَلا يُشَقُّ غُبارُه ؛ فَرُوَيْدًا ، وَاكْفُفْ مِنْ غُلَوائِكَ !

علق أستاذنا المحقق العلامة : " لَمْ أَقِفْ بَعْدُ عَلى أَمْرِ حَسّانَ " ، ولا أظنه غير خبره مع النابغة حين فضل عليه الخنساء ؛ فقد غضب ، وفضل نفسه عليها وعليه هو ووأبيه وسائر أهله جميعا !

لَوْ كانَ النّاسُ إِذا عَنَّ لَهُمُ الْقَوْلُ نَظَروا في مُؤَدّاهُ ، وَتَبَيَّنوا عاقِبَتَه ، وَتَذَكَّروا وَصيَّةَ الْحُكَماءِ حينَ نَهَوْا عَنِ الْوُرودِ حَتّى يُعْرَفَ الصَّدَرُ ، وَحَذَّروا أَنْ تَجيءَ أَعْجازُ الْأُمورِ بِغَيْرِ ما أَوْهَمَتِ الصُّدورُ - إِذَنْ لَكُفُوا الْبَلاءِ - هكذا والصواب الْبَلاءَ - وَلَعُدِمَ هذا وَأَشْباهُه مِنْ فاسِدِ الْآراءِ ، وَلكِنْ يَأْبَى الَّذي في طِباعِ الْإِنْسانِ مِنَ التَّسَرُّعِ ، ثُمَّ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِنَفْسِه ، وَالشَّغَفِ بِأَنْ يَكونَ مَتْبوعًا في رَأْيِه - إِلّا أَنْ يَخْدَعَه وَيُنْسِيَه أَنَّه مُوَصًّى بِذلِكَ ، وَمَدْعوٌّ إِلَيْهِ ، وَمُحَذَّرٌ مِنْ سوءِ الْمَغَبَّةِ إِذا هُوَ تَرَكَه وَقَصَّرَ فيهِ ! وَهِيَ الْآفَةُ لا يَسْلَمُ مِنْها وَمِنْ جِنايَتِها ، إِلّا مَنْ عَصَمَ اللّهُ ! وَإِلَيْهِ - عَزَّ اسْمُه ! - الرَّغْبَةُ في أَنْ يُوَفِّقَ لِلَّتي هِيَ أَهْدى ، وَيَعْصِمَ مِنْ كُلِّ ما يوتِغُ الدّينَ ، وَيَثْلِمَ الْيَقينَ ؛ إِنَّه وَليُّ ذلِكَ وَالْقادِرُ عَلَيْهِ !

هي فتنة بلا ريب ، يقدم فيها من يقدم ، ويحجم من يحجم - عن إيمان ! فاللهم ، عافيتك !