تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 69

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 69

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " دَلائِلُ الْإِعْجازِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

تَرَى الرَّجُلَ مِنْهُمْ ( المعتزلة ) يَرى ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسانَ لا يَسْتَطيعُ أَنْ يَجيءَ بِالْأَلْفاظِ مُرَتَّبَةً ، إِلّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يُفَكِّرَ فِي الْمَعاني ، وَيُرَتِّبَها في نَفْسِه عَلى ما أَعْلَمْناكَ - ثُمَّ تُفَتِّشُه ، فَتَراهُ لا يَعْرِفُ الْأَمْرَ بِحَقيقَتِه ، وَتَراهُ يَنْظُرُ إِلى حالِ السّامِعِ ، فَإِذا رَأَى الْمَعاني لا تَقَعُ مُرَتَّبَةً في نَفْسِه إِلّا مِنْ بَعْدِ أَنْ تَقَعَ الْأَلْفاظُ مُرَتَّبَةً في سَمْعِه ، نَسِيَ حالَ نَفْسِه ، وَاعْتَبَرَ حالَ مَنْ يَسْمَعُ مِنْهُ ؛ وَسَبَبُ ذلِكَ قِصَرُ الْهِمَّةِ ، وَضَعْفُ الْعِنايَةِ ، وَتَرْكُ النَّظَرِ ، وَالْأُنْسُ بِالتَّقْليدِ . وَما يُغني وُضوحُ الدَّلالَةِ مَعَ مَنْ لا يَنْظُرُ فيها ! وَإِنَّ الصُّبْحَ لَيَمْلَأُ الْأُفُقَ ، ثُمَّ لا يَراهُ النّائِمُ وَمَنْ قَدْ أَطْبَقَ جَفْنَه !

فعمل السامع عكس عمل الناظق ، هذا من الإبانة ، وذاك من الاستبانة ، وكلا الإبانة والاستبانة جميعا هما البيان موهبة الرحمن للإنسان .

لا تَرى نَوْعًا مِنْ أَنْواعِ الْعُلومِ إِلّا وَإِذا تَأَمَّلْتَ كَلامَ الْأَوَّلينَ الَّذينَ عَلَّمُوا النّاسَ ، وَجَدْتَ فيهِ الْعِبارَةَ أَكْثَرَ مِنَ الْإِشارَةِ ، وَالتَّصْريحَ أَغْلَبَ مِنَ التَّلْويحِ . وَالْأَمْرُ في عِلْمِ الْفَصاحَةِ بِالضِّدِّ مِنْ هذا ؛ فَإِنَّكَ إِذا قَرَأْتَ ما قالَهُ الْعُلَماءُ فيهِ ، وَجَدْتَ جُلَّه أَوْ كُلَّه رَمْزًا وَوَحْيًا وَكِنايَةً وَتَعْريضًا وَإيماءً إِلَى الْغَرَضِ مِنْ وَجْهٍ لا يَفْطُنُ لَه إِلّا مَنْ غَلْغَلَ الْفِكْرَ وَأَدَقَّ النَّظَرَ ، وَمَنْ يَرْجِعُ مِنْ طَبْعِه إِلى أَلْمَعيَّةٍ يَقْوى مَعَها عَلَى الْغامِضِ وَيَصِلُ بِها إِلَى الْخَفيِّ ، حَتّى كَأَنَّ بَسْلًا حَرامًا أَنْ تَتَجَلّى مَعانيهِمْ سافِرَةَ الْأَوْجُهِ لا نِقابَ لَها ، وَبادِيَةَ الصَّفْحَةِ لا حِجابَ دونَها ، وَحَتّى كَأَنَّ الْإِفْصاحَ بِها حَرامٌ ، وَذِكْرَها إِلّا عَلى سَبيلِ الْكِنايَةِ وَالتَّعْريضِ غَيْرُ سائِغٍ !

مهلا - سيدنا - كأن الصواب عكس ذلك ؛ فإن أوائل العلماء إنما يعالجون أوائل العلم ، وإن من طبيعة أوائل العلم الخفاء ، ثم تتواتر عليه أجيال العلماء حتى ينهجوا سبيله ، ويَصُفّوا مناره . وكأن فيما حفظنا من كلام ابن خلدون ، ما يؤكد ذلك !

لَمْ نَرَ الْعُقَلاءَ قَدْ رَضوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ في شَيْءٍ مِنَ الْعُلومِ أَنْ يَحْفَظوا كَلامًا لِلْأَوَّلينَ وَيَتَدارَسوهُ وَيُكَلِّمَ بِه بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفوا لَه مَعْنًى ، وَيَقِفوا مِنْهُ عَلى غَرَضٍ صَحيحٍ ، وَيَكونَ عِنْدَهُمْ - إِنْ يُسْأَلوا عَنْهُ - بَيانٌ وَتَفْسيرٌ - إِلّا عِلْمَ الْفَصاحَةِ ؛ فَإِنَّكَ تَرى طَبَقاتٍ مِنَ النّاسِ يَتَداوَلونَ فيما بَيْنَهُمْ أَلْفاظًا لِلْقُدَماءِ وَعِباراتٍ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفوا لَها مَعْنًى أَصْلًا ، أَوْ يَسْتَطيعوا - إِنْ يُسْأَلوا عَنْها - أَنْ يَذْكُروا لَها تَفْسيرًا يَصِحُّ . فَمِنْ أَقْرَبِ ذلِكَ أَنَّكَ تَراهُمْ يَقولونَ إِذا هُمْ تَكَلَّموا في مَزيَّةِ كَلامٍ عَلى كَلامٍ : إِنَّ ذلِكَ يَكونُ بِجَزالَةِ اللَّفْظِ - وَإِذا تَكَلَّموا في زِيادَةِ نَظْمٍ عَلى نَظْمٍ : إِنَّ ذلِكَ يَكونُ لِوُقوعِه عَلى طَريقَةٍ مَخْصوصَةٍ وَعَلى وَجْهٍ دونَ وَجْهٍ - ثُمَّ لا تَجِدُهُمْ يُفَسِّرونَ الْجَزالَةَ بِشَيْءٍ ، وَيَقولونَ فِي الْمُرادِ بِالطَّريقَةِ وَالْوَجْهِ ، ما يَحْلى مِنْهُ السّامِعُ بِطائِلٍ !

لما حار كلام أوائل علمائنا في هلهلة عدي بن ربيعة ، بين المدح والقح ، ثم وجدت من شعره في ديوان الحماسة الذي قدم له شارحه المرزوقي بما يؤصل فيه صلة الجزالة من غير أن يشرحها ، حتى خشيت أن يريده سيدنا بكلامه هذا هنا - ذهبت أستبطن المسألة ، حتى وضعت فيها " هلهلة الشعر العربي القديم : جزالة أو ركاكة " ، بحثي القديم الذائع ، الذي أتاني الثناء عليه من علماء كل حدب وصوب ، حتى كان الواحد منهم يضطرب له كما يضطرب للقطعة من الشعر النفيس ! لكنني لما تقدمت به آنئذ للتَّرَقّي ، لم يَحْلَ من المحكمين بطائل ولم يظفر بنائل ! وكان مما بلغني عن أحدهم ، أنه لم يفهم منه شيئا ! فخطر لي أن أجمع طائفة ما لم يُفْهم ، في كتاب يكون عنوانه " أبحاثي الفاشلة " ، يطلع به أهل العلم على عاقبة التنقيب والتنقير والتعلم والتفنن والتوليد والإبداع ، ثم اكتفيت من ذلك بنشر بعضها على النت ! ثم ذهب ناس ، وجاء آخرون أخلى قلوبا ، استبدلوا بالإعراض إقبالا ، فوجدوا كل مفتقد ، وأنسوا لكل مستوحش ! فسبحان مغير الأحوال !

إِنْ أَرَدْتَ الصِّدْقَ فَإِنَّكَ لا تَرى فِي الدُّنْيا أَعْجَبَ مِنْ شَأْنِ النّاسِ مَعَ اللَّفْظِ ، وَلا فَسادَ رَأْيٍ مازَجَ النُّفوسَ وَخامَرَها وَاسْتَحْكَمَ فيها وَصارَ كَإِحْدى طَبائِعها - مِنْ رَأْيِهِمْ فِي اللَّفْظِ ؛ فَقَدْ بَلَغَ مِنْ مَلَكَتِه لَهُمْ ، وَقوَّتِه عَلَيْهِمْ ، أَنْ تَرَكَهُمْ وَكَأَنَّهُمْ إِذا نوظِروا فيهِ أُخِذوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَغُيِّبوا عَنْ عُقولِهِمْ ، وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَكونَ لَهُمْ فيما يَسْمَعونَه نَظَرٌ ، وَيُرى لَهُمْ إيرادٌ فِي الْإِصْغاءِ وَصَدَرٌ ؛ فَلَسْتَ تَرى إِلّا نُفوسًا قَدْ جَعَلَتْ تَرْكَ النَّظَرِ دَأْبَها ، وَوَصَلَتْ بِالْهُوَيْنا أَسْبابَها ؛ فَهِيَ تَغْتَرُّ بِالْأَضاليلِ ، وَتَتَباعَدُ عَنِ التَّحْصيلِ ، وَتُلْقي بِأَيْديها إِلَى الشُّبَهِ ، وَتُسْرِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْمُمَوَّهِ .

كأن البلوى أعظم من رأيهم في اللفظ وأعجم ! وكأن التشنيع عليهم برأيهم في اللفظ ، كناية عن التشنيع عليهم بأصول عقيدتهم وفروع معيشتهم ، على منهج المثل السائر : " زَيْنَبُ سُتْرَةٌ " !

 

لَقَدْ بَلَغَ مِنْ قِلَّةِ نَظَرِهِمْ ( المعتزلة ) أَنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ لَمّا رَأَوُا الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي اللُّغَةِ قَدْ شاعَ فيها أَنْ توصَفَ الْأَلْفاظُ بِالْفَصاحَةِ ، وَرَأَوْا أَبَا الْعَبّاسِ ثَعْلَبًا قَدْ سَمّى كِتابَهُ الْفَصيحَ ، مَعَ أَنَّه لَمْ يَذْكُرْ فيهِ إِلَّا اللُّغَةَ وَالْأَلْفاظَ الْمُفْرَدَةَ ، وَكانَ مُحالًا إِذا قيلَ : إِنَّ الشَّمَعَ بِفَتْحِ الْميمِ أَفْصَحُ مِنَ الشَّمْعِ بِإِسْكانِه ، أَنْ يَكونَ ذلِكَ مِنْ أَجْلِ الْمَعْنى ؛ إِذْ لَيْسَ تُفيدُ الْفَتْحَةُ فِي الْميمِ شَيْئًا فِي الَّذي سُمِّيَ بِه - سَبَقَ إِلى قُلوبِهِمْ أَنَّ حُكْمَ الْوَصْفِ بِالْفَصاحَةِ أَيْنَما كانَ وَفي أَيِّ شَيْءٍ كانَ ، أَلّا يَكونَ لَه مَرْجِعٌ إِلَى الْمَعْنَى الْبَتَّةَ ، وَأَنْ يَكونَ وَصْفًا لِلَّفْظِ في نَفْسِه ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ وَنُطْقُ لِسانٍ - وَلَمْ يَعْلَموا أَنَّ الْمَعْنى في وَصْفِ الْأَلْفاظِ الْمُفْرَدَةِ بِالْفَصاحَةِ ، أَنَّها فِي اللُّغَةِ أَثْبَتُ ، وَفِي اسْتِعْمالِ الْفُصَحاءِ أَكْثَرُ ، أَوْ أَنَّها أَجْرى عَلى مَقاييسِ اللُّغَةِ وَالْقَوانينِ الَّتي وَضَعوها ، وَأَنَّ الَّذي هُوَ مَعْنَى الْفَصاحَةِ في أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْإِبانَةُ عَنِ الْمَعْنى ، بِدَلالَةِ قَوْلِهِمْ : فَصيحٌ َوَأْعَجْمُ ، وَقَوْلِهِمْ : أَفْصَحَ الْأَعْجَميُّ ، وَفَصُحَ اللَّحّانُ ، وَأَفْصَحَ الرَّجُلُ بِكَذا ، إِذا صَرَّحَ بِه - وَأَنَّه لَوْ كانَ وَصْفُهُمُ الْكَلِماتِ الْمُفْرَدَةَ بِالْفَصاحَةِ مِنْ أَجْلِ وَصْفٍ هُوَ لَها مِنْ حَيْثُ هِيَ أَلْفاظٌ وَنُطْقُ لِسانٍ ، لَوَجَبَ إِذا وُجِدَتْ كَلِمَةٌ يُقالُ إِنَّها كَلِمَةٌ فَصيحَةٌ عَلى صِفَةٍ فِي اللَّفْظِ ، أَلّا توجَدَ كَلِمَةٌ عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ ، إِلّا وَجَبَ لَها أَنْ تَكونَ فَصيحَةً ، وَحَتّى يَجِبَ إِذا كانَتْ " فَقِهْتُ الْحَديثَ " بِالْكَسْرِ أَفْصَحَ مِنْهُ بِالْفَتْحِ ، أَنْ يَكونَ سَبيلُ كُلِّ فِعْلٍ مِثْلِه فِي الزِّنَةِ أَنْ يَكونَ الْكَسْرُ فيهِ أَفْصَحَ مِنَ الْفَتْحِ . ثُمَّ إِنَّ فيما أَوْدَعَه ثَعْلَبٌ كِتابَه ، ما هُوَ أَفْصَحُ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَمْ يَكُنْ فيهِ حَرْفٌ كانَ فيما جَعَلَه أَفْصَحَ مِنْهُ ، ِمْثُلُ أَنَّ " وَقَفْتُ " أَفْصَحُ مِنْ " أَوْقَفْتُ " ؛ أَفَتَرى أَنَّه حَدَثَ فِي الْواوِ وَالْقافِ وَالْفاءِ ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا الْهَمْزَةُ ، فَضيلَةٌ وَجَبَ لَها أَنْ تَكونَ أَفْصَحَ ؟ وَكَفى بِرَأْيٍ هذا مُؤَدّاهُ تَهافُتًا وَخَطَلًا ! وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّه لا بُدَّ لِقَوْلِنَا : " الْفَصاحَةُ " ، مِنْ مَعْنًى يُعْرَفُ ، فَإِنْ كانَ ذلِكَ الْمَعْنى وَصْفًا في أَلْفاظِ الْكَلِماتِ الْمُفْرَدَةِ ، فَيَنْبَغي أَنْ يُشارَ لَنا إِلَيْهِ ، وَتوضَعَ الْيَدُ عَلَيْهِ .

ذكرت بهذا ما قيل في " السبعة في القراءات " لابن مجاهد ، من أنه أوقع الناس في فتنة مستمرة : أن ظنوا أن ما أورده هو ما أراده رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - بقوله : " نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ " ، فاجترؤوا على ما تركه ! لقد تمنى علماء القراءات أن لو كان سمى كتابه " السبعة " ، أي اسم بمراده - كما ربما تمنى سيدنا أن لو كان ثعلب سمى كتابه " الفصيح " ، أي اسم بمراده !

إِنَّ ها هُنا مَعْنًى شَريفًا قَدْ كانَ يَنْبَغي أَنْ نَكونَ قَدْ ذَكَرْناهُ في أَثْناءِ ما مَضى مِنْ كَلامِنا : وَهُوَ أَنَّ الْعاقِلَ إِذا نَظَرَ عَلِمَ عِلْمَ ضَرورَةٍ ، أَنَّه لا سَبيلَ لَه إِلى أَنْ يُكَثِّرَ مَعانِيَ الْأَلْفاظِ أَوْ يُقَلِّلَها ، لِأَنَّ الْمَعانِيَ الْمودَعَةَ فِي الْأَلْفاظِ لا تَتَغَيَّرُ عَلَى الْجُمْلَةِ عَمّا أَرادَه واضِعُ اللُّغَةِ . وَإِذا ثَبَتَ ذلِكَ ، ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّه لا مَعْنى لِقَوْلِنا : " كَثْرَةُ الْمَعْنى مَعَ قِلَّةِ اللَّفْظِ " ، غَيْرُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَتَوَصَّلُ بِدَلالَةِ الْمَعْنى عَلَى الْمَعْنى إِلى فَوائِدَ لَوْ أَنَّه أَرادَ الدَّلالَةَ عَلَيْها بِاللَّفْظِ ، لَاحْتاجَ إِلى لَفْظٍ كَثيرٍ .

الله !

هو هذا هو هذا ؛ فَلْيُذْكَرْ في شرح معنى " جوامع الكلم " ؛ فقد كنا نظن أن كثرة استعمال الكلمة تزيد معانيها ، فإذا زيادتها من دلالة بعضها على بعض !