تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 64
تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 64
مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " دَلائِلُ الْإِعْجازِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]
د. محمد جمال صقر
قالَ |
قُلْتُ |
إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ ما حالُه بِالضِّدِّ مِنْ هذا ، فَكانَ مَنْقوصَ الْقوَّةِ في تَأْدِيَةِ ما أُريدَ مِنْهُ ، لِأَنَّه يَعْتَرِضُه ما يَمْنَعُه أَنْ يَقْضِيَ حَقَّ السِّفارَةِ فيما بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْناكَ ، وَيوضِحَ تَمامَ الْإيضاحِ عَنْ مَغزاكَ - فَانْظُرْ إِلى قَوْلِ الْعَبّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ : سَأَطْلُبُ بُعْدَ الدّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبوا وَتَسْكُبُ عَيْنايَ الدُّموعَ لِتَجْمُدا (...) لا تَرى أَحَدًا يَذْكُرُ عَيْنَه بِالْجُمودِ إِلّا وَهُوَ يَشْكوها وَيَذُمُّها وَيَنْسُبُها إِلَى الْبُخْلِ ، وَيَعُدُّ امْتِناعَها مِنَ الْبُكاءِ تَرْكًا لِمَعونَةِ صاحِبِها عَلى ما بِه مِنَ الْهَمِّ (...) وَلَوْ كانَ الْجُمودُ يَصْلُحُ لِأَنْ يُرادَ بِهِ السَّلامَةُ مِنَ الْبُكاءِ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُدَلَّ بِه عَلى أَنَّ الْحالَ حالُ مَسَرَّةٍ وَحُبورٍ ، لَجازَ أَنْ يُدْعى بِه لِلرَّجُلِ ، فَيُقالَ : لا زالَتْ عَيْنُكَ جامِدَةً ، كَما يُقالُ : لا أَبْكَى اللّهُ عَيْنَكَ ، وَذاكَ مِمّا لا يُشَكُّ في بُطْلانِه ! |
ما زلت أذكر هفوة هفوتها وجهلة جهلتها على بعض إخواني قديما وكأنما كنت مُنَوَّمًا ، إذ أردت أن أَسُرَّ مُجْتَمِعَيْنِ ، فَعَمَمْتُهما بالمثل : " الطُّيورُ عَلى أَشْكالِها تَقَع " ، ظنا أنني أمدحهما ، كظن العباس أنه يعبر بجمود عينه عن فرحها ! |
لَمْ يَنْفَكَّ الْعالِمونَ بِه ( دلالة اللفظ على المعنى ) وَالَّذينَ هُمْ مِنْ أَهْلِه ، مِنْ دُخولِ الشُّبْهَةِ فيهِ عَلَيْهِمْ ، وَمِنِ اعْتِراضِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ لَهُمْ ؛ رُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعيِّ أَنَّه قالَ : كُنْتُ أَشْدو مِنْ أَبي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ وَخَلَفٍ الْأَحْمَرِ ، وَكانَ - والصواب إن شاء الله " كانا " - يَأْتِيانِ بَشّارًا ، وَيُنْشِدُهُما ، وَيَسْأَلانِه ، وَيَكْتُبانِ عَنْهُ مُتَواضِعَيْنِ لَه ، حَتّى يَأْتِيَ وَقْتُ الزَّوالِ ، ثُمَّ يَنْصَرِفانِ . وَأَتَياهُ يَوْمًا ، فَقالا : ما هذِهِ الْقَصيدَةُ الَّتي أَحْدَثْتَها في سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ ! قالَ : هِيَ الَّتي بَلَغَتْكُمْ . قالوا : بَلَغَنا أَنَّكَ أَكْثَرْتَ فيها مِنَ الْغَريبِ ! قالَ : نَعَمْ ؛ بَلَغَني أَنَّ سَلْمَ بْنَ قُتَيْبَةَ يَتَباصَرُ بِالْغَريبِ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أورِدَ عَلَيْهِ ما لا يَعْرِفُ ! قالوا : فَأَنْشِدْناها ، يا أَبا مُعاذٍ ! فَأَنْشَدَهُما : بَكِّرا صاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجير إِنَّ ذاكَ النَّجاحَ فِي التَّبْكير حَتّى فَرَغَ مِنْها ، فَقالَ لَه خَلَفٌ : لَوْ قُلْتَ - يا أَبا مُعاذٍ - مَكانَ " إِنَّ ذاكَ النَّجاحَ فِي التَّبْكير " : بَكِّرا فَالنَّجاحُ فِي التَّبْكير ، كانَ أَحْسَنَ ! فَقالَ بَشّارٌ : إِنَّما بَنَيْتُها أَعْرابيَّةً وَحْشيَّةً ، فَقُلْتُ : إِنَّ ذاكَ النَّجاحَ فِي التَّبْكيرِ ، كَما يَقولُ الْأَعْرابُ الْبَدَويّونَ ، وَلَوْ قُلْتُ : بَكِّرا فَالنَّجاحُ ، كانَ هذا مِنْ كَلامِ الْمُوَلَّدينَ ، وَلا يُشْبِهُ ذاكَ الْكَلامَ ، وَلا يَدْخُلُ في مَعْنَى الْقَصيدَةِ - قالَ - فَقامَ خَلَفٌ ، فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ! فَهَلْ كانَ هذَا الْقَوْلُ مِنْ خَلَفٍ وَالنَّقْدُ عَلى بَشّارٍ ، إِلّا لِلُطْفِ الْمَعْنى في ذلِكَ وَخفائِه ! |
كرر سيدنا النعي بهذا الخبر على خلف الأحمر ، ولم يحاول خلف إلا تحسين نظم الكلام على ما يراه وهو أحد هؤلاء المولدين في كلام بشار - وبشار أستاذهم ! - واقتراحه حسن ، ولم يرده بشار . إن في اقتراح خلف ذكر الفاء التي فهمها سيدنا من " إن " ، وفيه تخليص العبارة من " ذاك " البدوية ! ثم " البَدَويّون " في جمع " البَدَوي " - وإن كانت جائزة - أكاد لا أصادفها ؛ فليس يجوز كل ما يجوز ! |
إِذا بَلَغَ مِنْ دِقَّةِ هذِهِ الْمَعاني أَنْ يَشْتَبِهَ الْأَمْرُ فيها عَلى مِثْلِ خَلَفٍ الْأَحْمَرِ وَابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَحَتّى يَشْتَبِهَ عَلى ذِي الرُّمَّةِ في صَوابٍ قالَه ، فَيَرى أَنَّه غَيْرُ صوابٍ - فَما ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ ! وَما يُعْجِبُكَ مِنْ أَنْ يَكْثُرَ التَّخْليطُ فيهِ ! |
الله الله الله ! هكذا يرفع البصر صاحبه على غيره ، مهما كان ! وهكذا يتوارثها أهل العلم أصلا يفيؤون إليه ، ويصدرون عنه ! ثم قد استعمل سيدنا " يُعْجِبُ " فيما نستعمل نحن فيه " يُعَجِّبُ " ، بعدما صارت " يُعْجِبُ " ، إلى معنى " يُرْضي " ! |
اعْلَمْ أَنَّكَ إِذا أَدْخَلْتَ " كُلّا " في حَيِّزِ النَّفْيِ ، وَذلِكَ بِأَنْ تُقَدِّمَ النَّفْيَ عَلَيْهِ لَفْظًا أَوْ تَقْديرًا - فَالْمَعْنى عَلى نَفْيِ الشُّمولِ دونَ نَفْيِ الْفِعْلِ وَالْوَصْفِ . وَإِذا أَخْرَجْتَ " كُلّا " مِنْ حَيِّزِ النَّفْيِ ، وَلَمْ تُدْخِلْهُ فيهِ ، لا لَفْظًا وَلا تَقْديرًا - كانَ الْمَعْنى عَلى أَنَّكَ تَتَبَّعْتَ الْجُمْلَةَ ، فَنَفَيْتَ الْفِعْلَ وَالْوَصْفَ عَنْها واحِدًا واحِدًا . وَالْعِلَّةُ في أَنْ كانَ ذلِكَ كَذلِكَ ، أَنَّكَ إِذا بَدَأْتَ بِـ" كُلٍّ " كُنْتَ قَدْ بَنَيْتَ النَّفْيَ عَلَيْهِ ، وَسَلَّطْتَ الْكُلّيَّةَ عَلَى النَّفْيِ ، وَأَعْمَلْتَها فيهِ ، وَإِعْمالُ مَعْنَى الْكُلّيَّةِ فِي النَّفْيِ يَقْتَضي أَلّا يَشِذَّ شَيْءٌ عَنِ النَّفْيِ ؛ فَاعْرِفْهُ ! |
كذلك أنماط أخرى من النفي ؛ فقد كنت أمنع تلامذتي أن يقولوا : لا يجب أن نتأخر ، ليقولوا : يجب ألا نتأخر ؛ فإنهم إذا قالوا هذا أوجبوا على أنفسهم عدم التأخر ، وإذا قالوا ذاك أجازوه ! |
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْوُجوهِ وَالْفُروقِ أَلّا يَزالَ تَحْدُثُ بِسَبَبِها وَعَلى حَسَبِ الْأَغْراضِ وَالْمَعانِي الَّتي تَقَعُ فيها ، دَقائِقُ وَخَفايا لا إِلى حَدٍّ وَنِهايَةٍ - وَأَنَّها خَفايا تَكْتُمُ أَنْفُسَها جَهْدَها حَتّى لا يُتْنَبَهَ لِأَكْثَرِها ، وَلا يُعْلَمَ أَنَّها هِيَ ، وَحَتّى لا تَزالَ تَرَى الْعالِمَ يَعْرِضُ لَهُ السَّهْوُ فيهِ ، وَحَتّى إِنَّه لَيَقْصِدُ إِلَى الصَّوابِ ، فَيَقَعُ في أَثْناءِ كَلامِه ما يوهِمُ الْخَطَأَ ! كُلُّ ذلِكَ لِشِدَّةِ الْخَفاءِ ، وَفَرْطِ الْغُموضِ . |
مثل هذا التعبير عن طبائع الفروق النحوية ، لا يقع إلا لمتحقق بأصول علمه وفنون ذوقه ، عاش بها ، وذاب فيها ، حتى ذهب يقال له : ذاكم الصَّناع المَجْذوب الذي كنتم كلما مررتم عليه سخرتم منه ، فالآن تسخر منكم آثاره مثلما كنتم تسخرون ! |
اعْلَمْ أَنَّه إِذا كان بَيِّنًا فِي الشَّيْءِ أَنَّه لا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْوَجْهَ الَّذي هُوَ عَلَيْهِ ، حَتّى لا يُشْكِلَ ، وَحَتّى لا يَحْتاجَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ ذلِكَ حَقُّه ، وَأَنَّهُ الصَّوابُ ، إِلى فِكْرٍ وَرَويَّةٍ - فَلا مَزيَّة . وَإِنَّما تَكونُ الْمَزيَّةُ وَيَجِبُ الْفَضْلُ ، إِذَا احْتَمَلَ في ظاهِرِ الْحالِ غَيْرَ الْوَجْهِ الَّذي جاءَ عَلَيْهِ وَجْهًا آخَرَ ، ثُمَّ رَأَيْتَ النَّفْسَ تَنْبو عَنْ ذلِكَ الْوَجْهِ الْآخَرِ ، وَرَأَيْتَ لِلَّذي جاءَ عَلَيْهِ حُسْنًا وَقَبولًا لا تَعْدَمُهُما إِذا أَنْتَ تَرَكْتَه إِلَى الثّاني . |
لكن ثم مزية فيما بين اللغة والتفكير العربيين وبين غيرهما ، إذ هذه الأوضاع اللغوية التفكيرية اللازمة ، أصول عربية مائزة . |
هذَا الضَّرْبُ مِنَ الْمَجازِ ( الحكمي الذي في علاقة الإسناد ) عَلى حِدَتِه ، كَنْزٌ مِنْ كُنوزِ الْبَلاغَةِ ، وَمادَّةُ الشّاعِرِ الْمُفْلِقِ وَالْكاتِبِ الْبَليغِ ، فِي الْإِبْداعِ ، وَالْإِحْسانِ ، وَالِاتِّساعِ في طُرُقِ الْبَيانِ ، وَأَنْ يَجيءَ بِالْكَلامِ مَطْبوعًا مَصْنوعًا ، وَأَنْ يَضَعَه بَعيدَ الْمَرامِ قَريبًا مِنَ الْأَفْهامِ . وَلا يَغُرَّنَّكَ مِنْ أَمْرِه أَنَّكَ تَرَى الرَّجُلَ يَقولُ : أَتي بِيَ الشَّوْقُ إِلى لِقائِكَ ، وَسارَ بِيَ الْحَنينُ إِلى رُؤْيَتِكَ ، وَأَقْدَمَني بَلَدَكَ حَقٌّ لي عَلى إِنْسانٍ - وَأَشْباهَ ذلِكَ مِمّا تَجِدُه لِسَعَتِه وَشُهْرَتِه يَجْري مَجْرَى الْحَقيقَةِ الَّتي لا يُشْكِلُ أَمْرُها ؛ فَلَيْسَ هُوَ كَذلِكَ أَبَدًا ، بَلْ يَدِقُّ وَيَلْطُفُ حَتّى يَمْتَنِعَ مِثْلُه إِلّا عَلَى الشّاعِرِ الْمُفْلِقِ ، وَالْكاتِبِ الْبَليغِ ، وَحَتّى يَأْتِيَكَ بِالْبِدْعَةِ لَمْ تَعْرِفْها ، وَالنّادِرَةِ تَأْنَقُ لَها ! |
فينبغي أن يتخيل المتلقي الفطن ، نشأة كل تعبير مجازي شاع وذاع حتى خمدت نار مَجازيَّته ، ليعرف نصيبه من الإبداع ، ونصيب مبدعه من المهارة ! |
تَأَمَّلْ هذا ( سر صلاح للمجاز الحكمي ) ، وَاعْتَبِرْهُ ؛ فهذِهِ التَّهْيِئَةُ ، وَهذَا الِاسْتِعْدادُ في هذَا الْمَجازِ الْحُكْميِّ - نَظيرُ أَنَّكَ تَراكَ في الِاسْتِعارَةِ الَّتي هِيَ مَجازٌ في نَفْسِ الْكَلِمَةِ ، وَأَنْتَ تَحْتاجُ فِي الْأَمْرِ الْأَكْثَرِ إِلى أَنْ تُمَهِّدَ لَها ، وَتُقَدِّمَ ، أَوْ تُؤَخِّرَ ما يُعْلَمُ بِه أَنَّكَ مُسْتَعيرٌ وَمُشَبِّهٌ ، وَيَفْتَحُ طَريقَ الْمَجازِ إِلَى الْكَلِمَةِ . |
الله ! ما أجَلَّ فتح طريق المجاز إلى الكلمة ! ثم كأنك تريد لهذا الكائن المجازي أن يكون رأسه في السماء ورجله في الأرض ! |