تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 61

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 61

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " دَلائِلُ الْإِعْجازِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

اعْلَمْ أَنَّ هاهُنا بابًا مِنَ الْإِضْمارِ وَالْحَذْفِ يُسَمَّى الْإِضْمارَ عَلى شَريطَةِ التَّفْسيرِ ؛ وَذلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ : أَكْرَمَني وَأَكْرَمْتُ عَبْدَ اللّهِ ، أَرَدْتَ : أَكْرَمَني عَبْدُ اللّهِ وَأَكْرَمْتُ عَبْدَ اللّهِ ، ثُمَّ تَرَكْتَ ذِكْرَه فِي الْأَوَّلِ اسْتِغْناءً بِذِكْرِه فِي الثّاني ؛ فَهذا طَريقٌ مَعْروفٌ وَمَذْهَبٌ ظاهِرٌ ، وَشَيْءٌ لا يُعْبَأُ بِه ، وَيُظَنُّ أَنَّه لَيْسَ فيهِ أَكْثَرُ مِمّا تُريكَ الْأَمْثِلَةُ الْمَذْكورَةُ مِنْهُ . وَفيهِ - إِذا أَنْتَ طَلَبْتَ الشَّيْءَ مِنْ مَعْدِنِه - مِنْ دَقيقِ الصَّنْعَةِ وَمِنْ جَليلِ الْفائِدَةِ ، ما لا تَجِدُه إِلّا في كَلامِ الْفُحولِ .

عجبا !

لماذا لا يطلبه النحويون !

إن الجرجاني لَنَحْويٌّ مثلهم ، بل أخلص منهم نَحْويَّةً ، حتى كانت في نِسْبَتِه ! فلم لا يضيفون إلى أفكارهم الظاهرية أفكاره الباطنية ؟ يخافون على كثير مما يشتغلون به ويشغلون تلامذتهم ! ألا فليهلك كل ظاهر ليس له مثل ما ينبه عليه سيدنا أبو بكر الجرجاني ، من باطن شريف !

ثم لقد حاول الدكتور فاضل صالح السامرائي بكتابه " معاني النحو " ، أن يُنَزِّل مسائل علم المعاني على مسائل علم النحو ، بل رتبها على أبواب النحو الألفية الدارجة ، فدعوت إلى كتابه هذا تلامذتي وما زلت ، بل زرت الدكتور فاضلا نفسه بالإمارات سنة 2000م ، وكان أستاذا بجامعة الشارقة ، فأحسن ضيافتي ، وأهديته كتبي . لكنني لما دعوته إلى الاكتفاء في تدريس مسائل علم النحو ، بما يشفّ عن تلك المعاني الجرجانية العالية ، التي نَزَّلها هو في " معاني النحو " ، وكأنه يغري النحويين وهو نحوي - أبى الدعوة ، واستنكر الدعوى ، واستشكل بتفاصيل النحو المقررة الكثيرة ؛ إذ لا يشف كثير منها عن شيء ، وهي لا يمكن إهمالها ! وذكر طبيعة الجملة العربية مثلا ؛ ما الذي فيها من المعاني العالية ؛ فزَيَّفْتُ له اعتراضه بإمكان أن تشف تلك الطبيعة ، عن معنى خصائص اللغة العربية المتميزة من سائر اللغات ، والتفكير العربي المتميز من سائر التفاكير !

ثمت بعد سنوات أربع من لقائي الدكتور فاضلا - بارك الله فيه ونفع به ! - حاولتُ ما دعوته إليه - عسى ألا أبوء بضلال ما أدعو وأدعي - بما أعددته لطلاب الفرقة الثالثة من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ، وأَدَرْتُه على تَحاوُرِ أربعة نَحْويّين : ثلاثة تلامذة ظاهريين صوريين وأستاذ واحد باطني جوهري ، أما أول التلامذة فقَداميّ صِرْفٌ يتلو من المتون ، وأما ثانيهم فقَداميّ حَداثي يَتَوَسَّط للمتون ، وأما ثالثهم فحَداثي صِرْفٌ يُنَبِّه على الواقع ، وأما الأستاذ فجِسْمُ الكمال العلمي اللغوي ، ينبههم دائما على غفلتهم عن معاني التراكيب العالية ، ويشققها لهم بالقرآن الكريم والحديث الشريف والشعر النفيس !

إِذْ قَدْ عَرَفْتَ هذَا الْفَرْقَ ( بين الخبر الذي هو جزء من الجملة والخبر الذي لي بجزء منها ) فَالَّذي يَليهِ مِنْ فُروقِ الْخَبَرِ ، هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِثْباتِ إِذا كانَ بِالِاسْمِ ، وَبَيْنَه إِذا كانَ بِالْفِعْلِ ، وَهُوَ فَرْقٌ لَطيفٌ تَمَسُّ الْحاجَةُ في عِلْمِ الْبَلاغَةِ إِلَيْهِ .

ألا تمس الحاجة إليه في علم النحو ؟ وما الذي كنا فيه إذن منذ اليوم !

مَتَى اعْتَبَرْتَ الْحالَ فِي الصِّفاتِ الْمُشَبَّهَةِ وَجَدْتَ الْفَرْقَ ظاهِرًا بَيِّنًا ، وَلَمْ يَعْتَرِضْكَ الشَّكُّ في أَنَّ أَحَدَهُما لا يَصْلُحُ في مَوْضِعِ صاحِبِه . فَإِذا قُلْتَ : زَيْدٌ طَويلٌ ، وَعَمْرٌو قَصيرٌ ، لَمْ يَصْلُحْ مَكانَه يَطولُ وَيَقْصُرُ ، وَإِنَّما تَقولُ : يَطولُ وَيَقْصُرُ ، إِذا كانَ الْحَديثُ عَنْ شَيْءٍ يَزيدُ وَيَنْمو ، كَالشَّجَرِ وَالنَّباتِ وَالصَّبيِّ وَنَحْوِ ذلِكَ ، مِمّا يَتَجَدَّدُ فيهِ الطّولُ ، أَوْ يَحْدُثُ فيهِ الْقِصَرُ . فَأَمّا وَأَنْتَ تُحَدِّثُ عَنْ هَيْئَةٍ ثابِتَةٍ وَعَنْ شَيْءٍ قَدِ اسْتَقَرَّ طولُه وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَزايُدٌ وَتَجَدُّدٌ ، فَلا يَصْلُحُ فيهِ إِلّا الِاسْمُ .

كيف ذهب عنك قول صاحبك من لاميته الفاخرة :

" نَحْنُ أَدْرى وَقَدْ سَأَلْنا بِنَجْدٍ أَقَصيرٌ طَريقُنا أَمْ يَطول " !

أَوَلا ترى كيف استطاع أن يقول : طويل ، فلا يختل الوزن - فمَنَعَه نَظَرُه إلى معنى تَعَجُّله الوصول وفَراغ صَبْره !

مِنْ الْبَيِّنِ في ذلِكَ ( في الفرق بين الخبر إذا كان فعلا وبينه إذا كان اسما ) قَوْلُ الْأَعْشى :

لَعَمْري لَقَدْ لاحَتْ عُيونٌ كَثيرَةٌ إِلى ضَوْءِ نارٍ في يَفاعٍ تَحَرَّق

تُشَبُّ لِمَقْرورَيْنِ يَصْطَلِيانِها وَباتَ عَلَى النّارِ النَّدى وَالْمُحَلَّق

مَعْلومٌ أَنَّه لَوْ قيلَ : إِلى ضَوْءِ نارٍ مُتَحَرِّقَةٍ ، لَنَبا عَنْهُ الطَّبْعُ ، وَأَنْكَرَتْهُ النَّفْسُ ، ثُمَّ لا يَكونُ ذاكَ النُّبوُّ وَذاكَ الْإِنْكارُ ، مِنْ أَجْلِ الْقافِيَةِ وَأَنَّها تَفْسُدُ بِه ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّه لا يُشْبِهُ الْغَرَضَ وَلا يَليقُ بِالْحالِ .

الله الله الله !

قد يشتغل صغار الباحثين بفساد القافية الظاهر على العبارة المتخيلة ، ولكن سيدنا يتخيلها ولا يعرض لفسادها ولا يعبأ به ، لأنها لن تكون حين تكون ، إلا وقد أَهَّلَ الشاعر الكبير القوافي بعضها لبعض !

لَوْ كانَ الْمُبْتَدَأُ مُبْتَدَأً لِأَنَّه فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمٌ مَبْدوءٌ بِه ، لَكانَ يَنْبَغي أَنْ يَخْرُجَ عَنْ كَوْنِه مُبْتَدَأً بِأَنْ يُقالَ : مُنْطَلِقٌ زَيْدٌ ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَكونَ قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْخَبَرَ مُقَدَّمٌ فِي اللَّفْظِ وَالنّيَّةُ بِهِ التَّأْخيرُ ، مُحالًا ! وَإِذا كانَ هذا كَذلِكَ ، ثُمَّ جِئْتَ بِمَعْرِفَتَيْنِ ، فَجَعَلْتَهُما مُبْتَدَأً وَخَبَرًا - فَقَدْ وَجَبَ وُجوبًا أَنْ تَكونَ مُثْبِتًا بِالثّاني مَعْنًى لِلْأَوَّلِ . فَإِذا قُلْتَ : زَيْدٌ أَخوكَ ، كُنْتَ قَدْ أَثْبَتَّ بِأَخوكَ مَعْنًى لِزَيْدٍ ، وَإِذا قَدَّمْتَ وَأَخَّرْتَ فَقُلْتَ : أَخوكَ زَيْدٌ ، وَجَبَ أَنْ تَكونَ مُثْبِتًا بِزَيْدٍ مَعْنًى لِأَخوكَ ، وَإِلّا كانَ تَسْمِيَتُكَ لَهُ الْآنَ مُبْتَدَأً وَإِذْ ذاكَ خَبَرًا ، تَغْييرًا لِلِاسْمِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى ، وَلَأَدّى إِلى أَلّا يَكونَ لِقَوْلِهِمُ : الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ ، فائِدَةٌ غَيْرَ أَنْ يَتَقَدَّمَ اسْمٌ فِي اللَّفْظِ عَلَى اسْمٍ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما بِحُكْمٍ لا يَكونُ لِصاحِبِه ، وَذلِكَ مِمّا لا يُشَكُّ في سُقوطِه !

إن الرجل لنحوي من مهده إلى لحده ومن فرعه إلى قدمه ، ولكنه طمح إلى خُطًا متقدمة ودَرَجٍ عليا ، من التفكير والتحصيل والتعليم والتطوير ، لو وَجَدَتْ خَلَفًا !

تُثْبِتُ الْوِقايَةَ لِكُلِّ ذاتٍ مِنْ صِفَتِهَا الشَّجاعَةُ .

غريب أن تستعمل أنت هذه الكلمة ( ذات ) ، بمعنى نَفْس ، وأصل معناها صاحبة ؛ فقد ظننتها مقصورة في زمانك على المتكلمين في الذات والصفات ! ولكن لم لا تكون كلاميَّتُك فيها وأنت الأشعري ، غلبت لُغَويَّتَك !

لَوْ كانَ الْمَعْنى عَلى أَنَّهُ اسْتَغْرَقَ الشَّجاعاتِ الَّتي يُتَوَهَّمُ كَوْنُها فِي الْمَوْصوفينَ بِالشَّجاعَةِ ( في قولك : أنت الشجاع ) ، لَما قالوا : إِنَّه بِمَعْنَى الْكامِلِ فِي الشَّجاعَةِ ، لِأَنَّ الْكَمالَ هُوَ أَنْ تَكونَ الصِّفَةُ عَلى ما يَنْبَغي أَنْ تَكونَ عَلَيْهِ ، وَأَلّا يُخالِطَها ما يَقْدَحُ فيها ، وَلَيْسَ الْكَمالُ أَنْ تَجْتَمِعَ آحادُ الْجِنْسِ وَيَنْضَمَّ بَعْضُها إِلى بَعْضٍ !

ذاكم مبدأ قوي مستمر في كل قيمة يتنازعها الناس ؛ فليس كمالُ صِدْق الصَّدوق مثلا أن صَدَق في كل ما يصدق فيه الناس ، بل أن لم يكذب قط ! ولو عُلِّقَ كمال الصفة على استيفاء مظاهرها عند الناس ، لبَطَلَتْ بعد حين !

ثم إنني كنتُ إذا ووزِنَ بين علمائنا الخالفين وعلمائنا السالفين ، أدعي أن العالم منهم بسبعين عالما منا ، فيستطرد متلقي الدعوى إلى التَّخَصُّص ، ثم إلى أن تجويد السبعين هو السبيل ! والآن أدعي أن العالم منهم كان " هو العالم " ، أي المستولي من حقيقة العلم ، على ما لا تجده في السبعين عالما منا !

قالوا : إِنَّ السَّبَبَ فِي امْتِناعِ ذلِكَ ( وصف المعرفة بالجملة ) أَنَّ الْجُمَلَ نَكِراتٌ كُلَّها ، بِدَلالَةِ أَنَّها تُسْتَفادُ ، وَإِنَّما يُسْتَفادُ الْمَجْهولُ دونَ الْمَعْلومِ - قالوا - فَلَمّا كانَتْ كَذلِكَ ، كانَتْ وَفْقَ النَّكِرَةِ ، فَجازَ وَصْفُها بِها ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ توصَفَ بِهَا الْمَعْرِفَةُ ؛ إِذْ لَمْ تَكُنْ وَفْقًا لَها . وَالْقَوْلُ الْبَيِّنُ في ذلِكَ أَنْ يُقالَ : إِنَّه ( اسم الموصول ) إِنَّمَا اجْتُلِبَ حَتّى إِذا كانَ قَدْ عُرِفَ رَجُلٌ بِقِصَّةٍ وَأَمْرٍ جَرى لَه ، فَتَخَصَّصَ بِتِلْكَ الْقِصَّةِ وَبِذلِكَ الْأَمْرِ عِنْدَ السّامِعِ ، ثُمَّ أُريدَ الْقَصْدُ إِلَيْهِ ، ذُكِرَ الَّذي . تَفْسيرُ هذا أَنَّكَ لا تَصِلُ الَّذي إِلّا بِجُمْلَةٍ مِنَ الْكَلامِ قَدْ سَبَقَ مِنَ السّامِعِ عِلْمٌ بِها ، وَأَمْرٍ قَدْ عَرَفَه لَه ، نَحْوُ أَنْ تَرى عِنْدَه رَجُلًا يُنْشِدُه شِعْرًا ، فَتَقولُ لَه مِنْ غَدٍ : ما فَعَلَ الرَّجُلُ الَّذي كانَ عِنْدَكَ بِالْأَمْسِ يُنْشِدُكَ شِعْرًا ؟

في نصب " كل " في " أن الجمل نكرات كلَّها " ، فصل بين المؤكِّد والمؤكَّد ، والرأي أن يرفع لـ" نكرات " ، لا أن ينصب لـ" الجمل " .

ثم مما حفظناه في مثل ما حكى سيدنا ، من ضوابط النحويين - أو توجيهاتهم التي نبه عليها أستاذنا الدكتور تمام حسان في الأصول - قولهم : " الْجُمَلُ بَعْدَ النَّكِراتِ صِفاتٌ ، وَبَعْدَ الْمَعارِفِ أَحْوالٌ " ، وليس من القدم بحيث يغفل عنه سيدنا ، بل هو مما تأخر عنه !