تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 57
مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " الْمُعَلَّقَةُ الْعَرَبيَّةُ الْأولى " لِلدُّكْتورِ نَجيبْ مُحَمَّدُ الْبَهْبيتي]
د. محمد جمال صقر
قالَ |
قُلْتُ |
شَهِدَتِ الْأَيّامُ التّالِيَةُ ثَلاثينَ أَلْفًا مِنَ الشُّيوخِ وَالْأَطْفالِ وَالنِّساءِ ، يَمْشونَ في صُفوفٍ مُنْتَظِمَةٍ عَلَى الطُّرُقِ الْخارِجَةِ مِنَ الْمَدينَةِ ( تيكسكوكو إحدى مدن كوبا ) ، وَقَدْ أَبْلَتْهُمُ الشَّدائِدُ . وَيَقولُ ديلْ كاسْتِيُو الَّذي حَضَرَ هذِهِ الْأَحْداثَ : كانَ مَنْظَرًا يُمَزِّقُ الْقُلوبَ ! |
هي هي العبارة التي سمعتها أمس ببرنامج النكبة بفضائية الجزيرة ، من شيخ هِمٍّ كان أحد جنود البغي الإنجليزي على فلسطين ، قالها في مثلهم من الفلسطينيين الذي أخرجهم اليهود من قراهم بعدما ترك لهم أمرها الإنجليز ! هي هي العبارة الغبية في الموقف الغبي ! |
وَراءَ ذلِكَ أَنَّه لا يَزالُ إِلَى الْيَوْمِ يُكْشَفُ عَنْ نِظامِ الْقَنَواتِ الْمائيَّةِ الْماضِيَةِ تَحْتَ سَطْحِ الْأَرْضِ في أَنْفاقٍ ذاتِ أَطْوالٍ مُذْهِلَةٍ أَحْيانًا . وَبَعْضُ قَناطِرِهِمْ لا يَزالُ يَكْشِفُ عَنْ جُرْأَةٍ ، وَقَدْ بُنِيَتْ لِلْبَقاءِ ، حَتّى إِنَّ بَعْضَها لا يَزالُ يُسْتَخْدَمُ إِلَى الْيَوْمِ . |
هو نظام الأفلاج الذي كان وما زال في عُمان ، وأهلها عرب أزديون كهؤلاء ، يمنيون أصلا يفتخرون بيمنيتهم ! |
التَّبَدُّلاتُ النّابِعَةُ مِنْ جُذورِ الشُّعوبِ لَيْسَتْ في حاجَةٍ إِلى تَدَخُّلِ الْجَيْشِ الرّوسيِّ وَمَواليهِ هذِهِ الْمَرَّةَ ؛ فَإيرانُ لَمْ تَحْتَجْ لِتَدَخُّلِه لِأَنَّها تَبَدُّلاتٌ تَنْبَثِقُ مِنْ قَلْبِ الشَّعْبِ حَقَّقَها بِدَمِه وَجُهْدِه ، حَتّى لَوْ أَنَّهَا انْسَجَمَتْ مَعَ مَصالِحِ الرّوسِ فِي الْقَذْفِ إِلَى الْخارِجِ بِحَليفٍ فاسِدٍ لِلْوِلاياتِ الْمُتَّحِدَةِ ! |
كأن الثورة الإيرانية لم تنجح إذن إلا بمقدار من معاونة الروس على الشاه حليف الأميريكان ! |
مِنْ أَجْلِ هذِهِ الصَّلاحيَّةِ الْكامِنَةِ وَالظّاهِرَةِ لِلْإِسْلامِ ، عاشَ الْإِسْلامُ ، وَانْتَشَرَ انْتِشارًا لَمْ يَقُمْ عَلَى الْبَطْشِ أَوِ الْإِرْهابِ أَوِ الْقوَّةِ الْمُرْغِمَةِ لِلنّاسِ عَلَى اعْتِناقِه أَوِ الْخُضوعِ لَه - عاشَ ، وَامْتَدَّ بِصَلاحيَّتِه لِلْحَياةِ وَبِنَقائِه ، وَلَيْسَ بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ ؛ إِذْ إِنَّه لا دَوْلَةَ لَه تَشُدُّ ظَهْرَهُ الْيَوْمَ ، أَوْ تَدْعو إِلَى اعْتِناقِه ، أَوْ تُبيدُ مِنْ شُعوبِها مَنْ أَبَى اعْتِناقَه ، وَمَعَ ذلِكَ فَهُوَ ماضٍ في قوَّتِه . |
أَجْزَلُ من ذلك أن يقول : بنقائه لا بسيف الدولة ! ثم قد أراد السخرية ممن يبيدون الشعوب لتبقى الحكومات ، لا أنه من منهج الإسلام ! |
مَنْطِقُ التّاريخِ يَقْضي بِأَنْ يَكونَ ارْتِدادُ الْعالَمِ إِلى مَجْرى تَيّارِهِ الْأَبَديِّ بِعَمَلٍ يَنْهَضُ بِهِ الْجِنْسُ الْبَشَريُّ الَّذِي ارْتَسَمَتْ هذِهِ السّيرَةُ الْحَضاريَّةُ بِما فيها مِنْ فَضائِلَ وَأَخْلاقٍ وَنُظُمِ مُعامَلاتٍ ، مِنْ تَجارِبِه عَلَى الْحِقَبِ الطِّوالِ الَّتي قَطَعَها تاريخُه ، ثُمَّ زَكَّتْهَا الرِّسالاتُ السَّماويَّةُ ، وَخَرَجَ بِهَا الرُّسُلُ مِنْ بَنيهِ يَهْدونَ بِهَا الْعالَمَ كُلَّه ، وَخَرَجَتِ الْأَجْناسُ الْأوروبّيَّةُ تَعْمَلُ عَلى هَدْمِهَا الْيَوْمَ بِاسْمِ الْفِكْرِ وَبِاسْمِ التَّقَدُّمِ . وَقَدْ رَأَيْنا نَوْعيَّةَ التَّقَدُّمِ في تَطْبيقِها لَه فِي اسْتِعْمارِها وَفي إِذْلالِهَا الشُّعوبَ وَفي تَرْضيخِها وَفي تَفْكيكِ قُواهَا النَّفْسيَّةِ وَالْبَدَنيَّةِ وَفيما سَفَكَتْهُ مِنَ الدِّماءِ في هذَا السَّبيلِ . فَالْعَرَبُ الْيَوْمَ هُمُ الْمُرَشَّحونَ لِاسْتِئْنافِ مَسيرَتِهِمُ التّاريخيَّةِ ؛ فَهذَا الَّذي عَصَفَتْ بِه أوروبّا هُوَ التُّراثُ الْحَضاريُّ الْحَقيقيُّ الَّذي قَدَّمَهُ الْعَرَبُ لِلْإِنْسانِ ثَمَرَةً لِعَمَلِهِمُ الْحَضاريِّ التّاريخيِّ فِي الْقَديمِ وَالْحَديثِ . وَلَيْسَ ما قَدَّمَهُ الْعَرَبُ مَقْرونًا بِهذَا التُّراثِ الْحَضاريِّ الْإِنْسانيِّ ، مِنَ الْهَنْدَسَةِ الرَّفيعَةِ ، وَمِنَ الْفُنونِ ، وَفِي الطِّبِّ ، وَفِي الْكيمِياءِ ، وَفِي الْميكانيكا ، وَفِي الْفَلَكِ ، وَفِي الرِّياضيّاتِ ، وَفِي الْجُغْرافْيا ، وَفِي التَّعْريفِ بِالْعالَمِ ، وَفي وَصْلِ أَجْزائِه وَأَطْرافِه وَشُعوبِه وَتَصْييرِه كُتْلَةً واحِدَةً - لَيْسَ ما قَدَّمَهُ الْعَرَبُ مِنْ هذا عَلى هَوْلِه وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ كَوْنِهِ الْقاعِدَةَ لِلتَّقَدُّمِ الْماديِّ الْحاليِّ ، بِالَّذي يَرْتَقي مِنْ حَيْثُ الْقيمَةُ الْباقِيَةُ إِلى مُسْتَوى هذَا التُّراثِ الْحَضاريِّ الْمَعْنَويِّ الْإِنْسانيِّ الَّذي خالَطَ نَفْسَ الْإِنْسانِ وَمَضى مُتَغَلْغِلًا في دَمِه وَثابِتًا في ضَميرِه يُحَرِّكُه نَحْوَ الْخَيْرِ حينَ تَسْتَيْقِظُ فيهِ غَرائِزُهُ النَّزّاعَةُ بِه وَالْحامِلَةُ لَه نَحْوَ الشَّرِّ ؛ فَهذا هُوَ الْخُلاصَةُ الْباقِيَةُ الثّابِتَةُ فِي الضَّميرِ الْإِنْسانيِّ ، عَلى حينِ تَتَبَدَّدُ ، وَتَتَضاءَلُ ، وَتَتَصاغَرُ الْآثارُ الْباقِيَةُ لِكُلِّ حَضارَةٍ مادِّيَّةٍ مَرَّ بِهَا الْإِنْسانُ بَعْدَ ذَهابِ عَصْرِها ، وَيُديرُ نَحْوَهَا الْعالَمُ ظَهْرَه إِلَّا الثُّمالَةَ الَّتي يَنْتَفِعُ بِها في إِقامَةِ بِناءٍ مادِّيٍّ يَأْوي إِلَيْهِ لِيُواصِلَ سيرَةَ تَقَدُّمِهِ النَّفْسيِّ الَّذي هُوَ جَوْهَرُ الْحَضارَةِ (...) وَما كانَتِ الْحَضارَةُ يَوْمًا إِلّا حَبْسَ النَّفْسِ عَنْ الِانْطِلاقِ مَعَ أَهْوائِهَا الْقائِمَةِ عَلى قاعِدَةٍ مِنْ تَضارُبِ الْمَصالِحِ وَاللَّذائِذِ الْآنيَّةِ . وَلكِنَّ بُلوغَ هذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَقْتَضِي الْبَلاءَ الطَّويلَ وَتَمْحيصَ النّافِعِ مِنَ الضّارِّ عَنْ طَريقِ تَجْرِبَتِه في ظِلِّ التَّقَدُّمِ وَالِاسْتِقْرارِ عِنْدَه . وَالْيونانيُّ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَحَضَّرَ إِذْ ذاكَ ؛ وَإِنَّما دَخَلَتْ عَلَيْهِ هذِهِ الْقُيودُ مِنْ خارِجِ نَفْسِه وَمِنْ خارِجِ تَجْرِبَتِه ، فَهانَتْ عَلَيْهِ كَما يَهونُ الْمالُ عَلى وارِثٍ لَمْ يَبْذُلْ في تَحْصيلِه جُهْدًا وَلا عَرَقًا ؛ فَهُوَ عَلَيْهِ أَشَدُّ جُرْأَةً وَإِقْدامًا . أَمَّا الْعَرَبيُّ الْقَديمُ فَقَدْ حَصَّلَها عَنْ طَريقِ الْبَلاءِ الطَّويلِ وَالتَّجْرِبَةِ النّاصِبَةِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْها بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ فائِدَتَها لِلْمُجْتَمَعِ وَضَمانَهَا التَّوْزيعَ الْمُتَوازِنَ الْعادِلَ لِلْمَصالِحِ ؛ فَالْمُجْتَمَعُ الْمُتَكامِلُ لا غِنى فيهِ لِلْقَويِّ عَنِ الضَّعيفِ ، وَلا لِلْغَنيِّ عَنِ الْفَقيرِ ؛ وَلِذا فَإِنَّه لَمْ يَتَشَكَّكْ في قيمَتِها ، وَلَمْ يَجِدْ نَفْسَه في حاجَةٍ إِلى فَلْسَفَتِها . وَالْعَرَبيُّ في هذِهِ الْمَرْحَلَةِ التّاريخيَّةِ مُكَلَّفٌ بِاسْتِئْنافِ مَسيرَتِه في بِناءِ حَضارَةِ الْإِنْسانِ ، لِأَنَّها حَضارَتُه ، وَلِأَنَّها سيرَتُه ، وَلِأَنَّ تَنازُلَه عَنْ هذِهِ الْمُهِمَّةِ تَقْصيرٌ مِنْهُ في حَقِّ نَفْسِه وَفي حَقِّ تاريخِه وَفي حَقِّ الْإِنْسانِ . وَلَعَلَّنا في غَمْرَةِ الشِّقاقِ الْقائِمِ الْيَوْمِ بَيْنَ بَعْضِ الرُّؤَساءِ نَتَوَقَّفُ حائِرينَ ؛ فَكَيْفَ نَسيرُ إِلى هَدَفٍ أَبَديٍّ كَبيرٍ وَنَحْنُ مُشَعَّثونَ هذَا التَّشَعُّثَ ؟ بَلْ إِنَّه إِذا نَجَحَ رَئيسٌ في تَوْحيدِ قُطْرَيْنِ عَرَبيَّيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ هوجِمَ وَحورِبَ ، وَإِذا فَرَّقَ رَئيسٌ بَيْنَ قُطْرَيْنِ عَرَبيَّيْنِ مُتَّحِدَيْنِ عُظِّمَ وَوُضِعَ في مَوْضِعِ الْكَرامَةِ وَالزَّعامَةِ ! الْواقِعُ أَنَّ كُتْلَةَ أُمَّتِنا سَليمَةٌ قَدْ وَحَّدَتْ بَيْنَ صُفوفِهَا الْآلامُ وَالتَّضْحِياتُ وَالْإِحْساسُ الْمُسْتَيْقِظُ بِدَفْعِ التّاريخِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهِيَ تَعي تَمامًا أَنَّها قَدْ قادَتِ الْحَضارَةَ الْإِنْسانيَّةَ قَبْلَ الْيَوْمِ وَوَضَعَتْ أُسُسَها وَتَتابَعَتْ عُصورُ قِيادَتِها لَها ، فَلَيْسَتْ بِالْجَديدَةِ عَلَيْها ، وَلا هِيَ بِالطُّفَيْليَّةِ فيها ، وَأَمْسُ أَمْجادِها غَيْرُ بَعيدٍ ، وَلَمْ يَكُنْ أَمْسًا واحِدًا ، وَإِنَّما كانَ مُتَكَرِّرًا . وَالتَّفَرُّقُ الْواقِعُ لَنَا الْيَوْمَ لابُدَّ أَنْ يَزولَ ، لِأَنَّ عَناصِرَه وَأَسْبابَه طارِئَةٌ وَعابِرَةٌ وَمُصْطَنَعَةٌ ، وَالْعَوامِلُ الدّافِعَةُ إِلى الِاتِّحادِ أَقْوى مِنَ الْعامِلَةِ عَلَى التَّفَرُّقِ . وَمَرْحَلَةُ التَّفَرُّقِ الْقائِمَةُ الْيَوْمَ هِيَ الْمَرْحَلَةُ الَّتي تَقومُ في تاريخِنا عادَةً قَبْلَ الِاتِّحادِ تَمْهيدًا لَه ، وَلَيْسَتِ الْمَرْحَلَةَ الَّتي تَنْزِلُ بِه وَهُوَ قائِمٌ فَتَصيرُ عامِلًا عَلى هَدْمِه ، وَهِيَ في ذلِكَ أَشْبَهُ بِالتَّفَرُّقِ الْجاهِليِّ الَّذي قادَ إِلَى الْوَحْدَةِ الْإِسْلاميَّةِ . وَإِذا كانَ النَّبيُّ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - قَدْ وَحَّدَنا قَبْلَ الْيَوْمِ وَكانَ خاتَمَ الْأَنْبِياءِ ، فَإِنَّ رِسالَتَه باقِيَةٌ فينا ، وَهِيَ خاتَمُ الرِّسالاتِ ، أَبَديَّةُ الدَّفْعِ . وَهِيَ الْيَوْمَ النَّواةُ الَّتي تَتَجَسَّدُ حَوْلَهَا الْوَحْدَةُ كَما كانَتْ بِالْأَمْسِ ، وَكَما كانَتْ بَعْدَ مَوْتِ الرَّسولِ في صَدْرِ الْإِسْلامِ ؛ فَالْوَحْدَةُ الْعَرَبيَّةُ الْكُبْرى لَمْ تَتِمَّ في حَياةِ الرَّسولِ ، وَإِنَّما تَمَّتْ حَوْلَ كِتابِ اللّهِ وَدينِه بَعْدَ أَنْ قَيَّضَ اللّهُ إِلَيْهِ رَسولَه . وَالْوَحْدَةُ الْعَرَبيَّةُ هِيَ النَّواةُ الَّتي تَسْتَديرُ بِهَا الْوَحْدَةُ الْإِسْلاميَّةُ ما دامَتِ الرِّسالَةُ باقِيَةً فينا ، وَحَديثُ الرَّسولِ في ذلِكَ مَشْهورٌ باقٍ . وَحَيْرَةُ الْأَفْرادِ في ذلِكَ طَبيعيَّةٌ ، لِأَنَّنا نَعيشُ في دُوّاماتٍ جُزْئيَّةٍ مِنْ تَيّارِ التّاريخِ الْكَبيرِ ، وَهُوَ لا يَعْمَلُ بِحِسْبَةِ الْأَفْرادِ ، وَإِنَّما يَعْمَلُ عَلَى الصَّعيدِ الْإِنْسانيِّ ، وَتَبَعًا لِناموسٍ كَوْنيٍّ شامِلٍ ، وَهذا هُوَ سِرُّ السَّكينَةِ الْكامِنَةِ فِي الْقُلوبِ ، لِأَنَّ الشُّعوبَ تَتَحَرَّكُ بِغَرائِزَ جَماعيَّةٍ ، وَذلِكَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ ضَخامَةِ الْقوَّةِ الَّتي يَتَمَلَّكُها عَدوُّنَا الْيَوْمَ ؛ فَهِيَ قابِلَةٌ لِلزَّوالِ بِأَسْرَعَ مِمّا وُجِدَتْ ، وَلَمْ تَتَأَبَّدْ فِي التّاريخِ الْإِنْسانيِّ قوَّةٌ إِنْسانيَّةٌ ، وَلَمْ تَدُمْ فيهِ إِمْبِراطوريَّةٌ ؛ وَإِنَّما هُوَ غُرورُ الْحاضِرِ بِنَفْسِه ، وَلَمْ تَقَعْ فِي التّاريخِ نِسْبَةُ إِمْبِراطوريَّةٍ ، وَإِنَّما ظَلَّ الِانْتِسابُ أَبَدًا إِلَى الْأُمَّةِ أَوْ إِلَى الْفِكْرَةِ الْخالِدَةِ ، بِصَلاحيَّتِها وَحْدَها ، لا بِالْقوَّةِ الْعاتِيَةِ الْقائِمَةِ مِنْ وَرائِها . وَلَيْسَ قَوْلي بِعَوْدَةِ الْعَرَبِ إِلَى اسْتِئْنافِ قِيادَتِهِمْ لِلْإِنْسانِ غَريبًا عَلى أوروبّا وَتَشَعُّباتِها ؛ فَلَقَدْ ظلَوّا يَتَوَقَّعونَها عَلَى الرَّغْمِ مِنْ ضَعْفِنَا الْمادّيِّ بِإِزاءِ قوَّتِهِمُ الْمادّيَّةِ ، كَحَتْميَّةٍ تاريخيَّةٍ لا يُمْكِنُ مَنْعُها . |
تلكم هي العولمة الحقيقية الوحيدة التي تيسرت من قبل لهذا العالم المسكين ، وعلينا جميعا - أيها العرب المسلمون - تيسيرها مرة أخرى ، على ألا يفكر أي منا في مصلحته الخاصة القريبة وإلا هلك وهلكنا ، وألا يترك أيٌّ مِنّا أيًّا مِنّا يفكر في مصلحته الخاصة القريبة ، وإلا هلكنا وهلك ، أو كما ذكرت قديما في محاضرة بكلية دبي الطبية ، ضمنتها خاتمة كتابي " مهارة الكتابة العربية " : " يَرى أبناؤنا المدارس والجامعات وأهلَها ، ونُغريهم ؛ فَتَتَعَلَّقُ أفئدتهم . يدخلون مع الداخلين ، ويخوضون مع الخائضين ، وغايتُهم التي يرونها غاية أهل المدارس والجامعات ونغريهم بها ، أن يختطفوا شهادة تؤهلهم لعمل مُريح مُربح يضمن لهم حياة ناعمة ! تَطْبَعُهم هذه الغايةُ ( نَعيمُهُمْ ) من مُبتدئهم إلى مُنتهاهم ، بطابعها الذي يُصَرِّفُ شؤونهم ، فيمضون إليها على مَنهجٍ مُرَبَّعٍ واضح لا يزيغ عنه إلا أحمق : لا عُذْرَ لتَعَبٍ = لا عُذْرَ لخَسارَةٍ لا ذَنـْبَ لراحَةٍ = لا ذَنـْبَ لرِبْحٍ ولما كانوا في أصولهم مختلفين طاقة فطرة الله التي فطرهم عليها ، صاروا في أعمالهم مختلفين درجة ، ولكن بقي كلٌّ منهم يحسد الآخر على نصيبه من النعيم ! ويَرى أبناؤنا المدارس والجامعات وأهلَها ، ونُغريهم ؛ فتتعلَّقُ أفئدتهم . يُداخلون ويُمازجون ، وغايتُهم التي يرونها غايةَ أهل المدارس والجامعات ونغريهم بها ، أن يستوعبوا حضارتهم على الوجه الذي يَكْفُلُ لها حياة ناعمة ! تَطْبَعُهُمْ هذه الغايةُ ( نَعيمُ حَضارَتِهِمْ ) من مبتدئهم إلى منتهاهم ، بطابعها الذي يصرف شؤونهم ، فيمضون إليها على مَنهجٍ مُرَبَّعٍ لا يزيغ عنه إلا أحمق : لا عُذْرَ لراحَةٍ = لا عُذْرَ لرِبْحٍ لا ذَنـْبَ لتَعَبٍ = لا ذَنـْبَ لخَسارَةٍ ولما كانوا في أصولهم مختلفين طاقةً فِطرةَ الله التي فطرهم عليها ، صاروا في أعمالهم مُتعاونين خِدمةً ، ولكن بقي كل منهم يغبط الآخر على نصيبه من خدمة الحضارة . تلك الأولى حال الغفلة حين تضرب أطنابها على الناس فتُرْديهم ، وهذه الآخرة حال الوعي حين يبسط حُلَلَهُ للأمة فيُنْجيها . فإن كانت هذه حالنا وجب أن نتمسك بها ، وإن كانت الأخرى وجب أن نَتَحَوَّلَ عنها ، وإن اجتمعت في حالنا صفات منهما وجب أن نصطنع من الدواء ما نعالجها به ؛ فإن غلبت عليها صفات الغفلة ، استخلصنا صفات الوعي وحميناها حتى تشتد ، وإن غلبت عليها صفات الوعي ، انتزعنا صفات الغفلة وحبسناها حتى تضمر . لا ريب في أن أبناءنا أصغر أحيانا من أن يدركوا جلال الغاية الجليلة ، ولكن لا ريب في أنهم بذور المدركين التي إن أُهملت عَطِبَتْ وفَسَدَ الزرع ، وإن رُعيت سَلِمَتْ وصَلَحَ الزرع . إن أبناءنا ينابيع التَّخَيُّل الثَّرَّةَ ، إن خَيَّلْنا لهم ثمرةَ الغاية الجليلة تَخَيَّلوها وطلبوها وتمسكوا بها ، فلم لا نفعل ؟ حَضارتنا كغيرها ، شجرة حية ، جذرها المعنويات ( الثقافة ) وفرعها الماديات ، ولا حياة للفرع إلا بالجذر ، ولا سُطوع للجذر إلا بالفرع ، ولا يخرج ما يعرض لنا نحن وأبنائنا كل يوم ( خبر ، هاتف ، مقال ، صحيفة ، حديث ، مذياع ، خطبة ، تلفاز ، قصيدة ، كتاب ... ) - عن أن يكون من معنويات الحضارة أو من مادياتها ، فلم لا نحفز أبناءنا كل يوم بالأعمال المُوفَّقة إلى أن يعملوا مثلها ، وبالعمال المُوَفَّقين إلى أن يكونوا مثلهم ، وبافتقار الماديات والمعنويات كلٍّ منهما إلى الأخرى ، إلى ألا يحقروا منها شيئا أو ينسوا بشيء منها شيئا " ؟ ثمت المؤلف العلامة الحبر الفذ الجليل ، أحد رادتنا المحدثين في ذلك ، بالعقيدة الراسخة والحمية المتقدة ، إلى الإخلاص والفهم والعمل والجهاد والزهد من المهد إلى اللحد ! |