أدب المقاومة
صالح أحمد
في الحديث عن أدب المقاومة الفلسطيني نجدنا أمام أفق لا محدود ملوّنٍ بألوان متعددة متمازجة من الثقافات والحيثيات وأحداث والأسماء والأجيال... أفق يحمل سمات وبصمات شعب تعاقبت عليه الأحداث تعاقُب الأيام والأجيال، وكل صوت لديه يحمل صبغته ويضع بصمته المميزة على مدى هذا الأفق الفريد .
إنه أدب تنبع ميزته وعظمته من استمراريته وتتابعه رغم كل العراقيل، جيل يبني فوق بناء جيل، وتستمر المسيرة، لتتسم خلالها صورة المقاومة بألوانها وخطوطها بعنفوان الشعب المقاوم الثابت على حقوقه وتاريخه وتراثه وجذوره...
أنه الأدب الذي يصوِّر واقع الشعب الفلسطيني الذي لم يجد له خيارا سوى المقاومة للتصدي للمؤامرات التي تحاك ضده، والممارسات التي تثقل عليه وتسلبه كل حقوقه الشرعية والانسانية والوطنية... والتحدي لكل محاولات التجاهل لحقوقه وكيانه وثوابته.
إنه الأدب الفلسطيني بآفاقه المتجددة أسلوبا وثقافة وتوجّها وتعبيرا وإبداعا... وعلى الرغم من تقصير حركة النقد الأدبي في متابعة روافده ورصد تياراته وتلوّناته وتطوّراته... بل حصرته وعلى مدى سنوات طوال؛ بالأسماء دون التيارات والتطورات. بمعنى: أننا لو تتبعنا ما كتب من دراسات حول الأدب الفلسطيني المقاوم؛ لوجدنا ان الدّراسات قد انحصرت في أسماء محددة (خمسة أو ستة) ولم تلتفت لبقية الروافد والتيارات المغذية والملوِّنة لهذا الأدب ولأفقه العريض العظيم. ولو طرحنا السؤال: من هم شعراء المقاومة الفلسطينية على أي إنسان. لكان الجواب الفوري: إبراهيم طوقان، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، راشد حسين ...)
وللحق نقول: أن أحدا لا ينكر أنها أسماء عمالقة في الأدب الفلسطيني، ولكن ؛ وللحق أيضا نقول: أن من الظلم أن نتوقف عند هذه الأسماء ولا نلتفت لغيرها ؛ متجاهلين عددا كبيرا من الأسماء الكبيرة والتي لها بصمتها الطيبة في مسيرة هذه الأدب الراقي؛ منهم من عاصر هؤلاء وزاملهم، ومنهم من لحق بهم ليكمل الطريق بكل محبة وإخلاص... ولم ينقصه الذكاء والإبداع . ولكنهم وللأسف لم تسخر لهم المنابر والصفحات والأقلام كما سخرت لهؤلاء الخمسة او الستتة المرموقين والعمالقة . بينما لا تقل إبداعات بعضهم أبدا عن إبداعات زملائهم ، بل لا أبالغ لو قلت أن البعض منهم كان أقوى لغة وتعبيرا وإبداعا من كل هؤلاء المشار اليهم أعلاه.
إن التوقف عند أسماء لذاتها، لأسباب لا نريد الخوض بها في هذه العجالة، والتقصير في متابعة بقية الأصوات في ادب المقاومة، وإعطائها حقها من الدراسة والتقديم، يعني التسليم بجموده ومحدوديته ! وهذا ما يسيء لأصالة هذا الأدب وقوة أصوله وتياراته وتطوره وامتداده... ويجب أن لا نقبل بذلك مطلقا.
نعم؛ علينا أن نعترف بمكانة الأدب الفلسطيني المقاوم في الأفق الأدبي العام... كما علينا أن نعترف بأن هنالك أسماء تعملقت على مدى مسيرة هذا الأدب الراقي العظيم ... وأيضا علينا ان نعترف بأن التقصير في متابعة هذا الأدب وروافده وتطوراته قد ألحق الغبن بالكثير من الأسماء التي لم تنل حقها من الدراسة والمتابعة ... ولم تعط من المنابر والفرص ما اعطي غيرها ...
وكذلك؛ نجد ان معظم الإهتمام قد صبّ على الشعر دون سواه، فلم تنل القصة الفلسطينية والرواية والمسرحية ؛ والتي تربع على عرشها غسان كنفاني؛ من الإهتمام والدراسة معشار ما ناله الشعر، ليبقى في الظل أو ما يشبه الظل! أسماء راقية لها إسهاماتها الراقية أمثال : توفيق فياض، سميرة عزام، محمود شقير وهارون هاشم الرشيد شاعرا وكاتبا مسرحيا راقيا ...
ولا ندّعي هنا أننا نستطيع في هذه العجالة سد الثغرات والإحاطة بهذا الأدب العظيم العريق تأملا ودراسة، فالأمر يحتاج إلى مئات الدراسات والأطروحات الجامعية . فجل ما نطمح إليه هنا ؛ أن نقدّم عرضا موجزا لمسيرة هذا الأدب الراقي الذي سنتناوله ضمن ثلاث تيارات أو أجيال .
الجيل الأول : "جيل الريادة"
لا شك أن الأمر بات مسلما به بأن وعد بلفور المشؤوم (1917) جاء كاشفا للغاية الأساسية للاستعمار البريطاني لفلسطين، وبذلك؛ فإنه ولا شك يشكل الحلقة الأولى في نكبة الشعب الفلسطيني، وسلب بلاده وتشريده ومحاولة طمس حضارته... هذا الاستعمار الذي أذاق العباد أصناف الذل والهوان، ممارسا بحق الشعب الفلسطيني كل وسائل التضييق والخنق والقتل لكل الجوانب الانسانية والحضارية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية... تمهيدا لزرع الكيان الصهيوني . تلك هي أهداف سياسة بريطانيا ومنذ اللحظة الأولى التي وضعت بها قدمها على هذه الأرض المقدسة. ولا عجب إذن أن نجد قصائد ومنذ مطلع القرن العشرين؛ تأخذ منحى المقاومة الفلسطينية، ناشرة أول بذرة في هذا الحقل البديع العظيم. فقد أورد د.سليمان جبران قصيدة للأديب الفلسطيني محمد إسعاف النّشاشيبي؛ يرى أنها قد تكون أول شعر فلسطيني يحمل روح المقاومة. جاء فيها:
يا فتاةُ جودي بالدِّما بدل الدّمع إن رُمتِ البكاء
فلقد ولّت فلسطينُ ولم يبقَ يا اختُ غيرُ الدّماء
إنّ الاستعمار قد جازَ المدى دونَ أن يعدوهُ عن سيرٍ عِداء
إنها أوطانكم فاستيقظوا... لا تبيعوها لقومٍ دُخلاء
أُذكروا إن غَرّكم ما لهم ، عزّة الأنفُسِ دومًا والإباء
وهكذا وعى المثقف الفلسطيني أن ما يسمى انتدابا؛ ما هو إلا احتلال واستعمار بأبشع صوره وغاياته ، يبطن عكس ما يبدي. وأن ليس له من هدف سوى سلب الأرض وتجويع وتجهيل وتركيع الشعب. فكان الرفض ردة فعل طبيعية للمثقفين الفلسطينيين، ومن ورائهم كل من وعى وتنبه من أفراد الشعب. ليكون الرفض هو عنوان أدب المقاومة في هذه الحقبة، حقبة الانتداب البريطاني الأسود. والرفض يتحول إلى مقاومة وبكل الإمكانات تصديا للمخططات الانجليزية الجائرة الغاشمة، ولتشكل هذه المقاومة محور الشعر المقاوم الذي بدأت تتضح ملامحه، وتقوى راياته في تلك الحقبة. وليكون الهدف الأسمى والرئيس لهذا الأدب (الشعر تحديدا) : تبيان أهداف الانجليز، وكشف مخططاتهم، وبث الوعي استنهاضًا للهمم لمواجهتها ومقامتها والتصدي لها... وكان من ابرز أعلام هذه الحقبة: إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي "أبو سلمى" اللذين تفتح وعيهما ونضج حسهما الوطني والأدبي على تورة القسام، وما سبقها من إرهاصات تمثّلت بجرائم الإحتلال البريطاني البغيض ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، والتي كان من أشد وأقصى أحداثها ثورة البراق (1929). ليهب كلاهما بعزم الباشق، ونباهة الحاذق، ليعلن الرفض ثائرا على كل ممارسات الطغيان الاستعماري الانجليزي، باذرا بذرة الوعي واليقظة في النفوس، وداقا لنواقيس الخطر في كل أذن، محذرا من بيع الأراضي، وحاثا على التمسك بالتراب والتراث والجذور بكل قوة وإرادة وعزم، مصوّرا ممارسات المحتل الأجنبي الظالم وخبث أهدافه، مؤرخا ومسجلا لأحداث الثورة المباركة، وموثقا لمجريات أحداثها ووقائعها. وينضم إليهما بالسلاح أولا، وبالكلمة ثانيا شاعر الثورة الشهيد عبد الرحيم محمود، مسجلا ملحمة خالدة من أدب المقاومة الراقي البديع .
وهكذا؛ نستطيع حصر مرامي وموضوعات شعر المقاومة في هذه الحقبة بالاتجاهات التالية:
1- رفض وعد بلفور والسياسة البريطانية الواقفة من ورائه.
2- كشف النوايا البريطانية والتصدي لها.
3- توعية الشعب لما يحاك له من مؤامرات، وتحذيره من قضية بيع الأراضي .
4- رصد الأحداث وتوثيقها، والتمجيد بالمقاومة الشعبية الباسلة؛ وخاصة في ثورة البراق (1929)، وثورة القسام (1936).
5- بعث روح النضال في النفوس، والحث على وحدة الكلمة والصف، ونبذ التحزب والفرقة.
6- تقريع الزعامات العربية، وحثها على اللحاق بركب المقاومة، والإصغاء لصوت الشعب، ونبذ التبعية للغرب المُستَعمِرِ الطاغي.
فهذا لإبراهيم طوقان يحذر قائلا:
وطني أخاف عليك قوما أصبحوا لا تـفـتَـحوا بابَ الشّقاقِ فإنّهُ واللهِ لا يُرجى الخَلاصُ وأمرُكُم | يـتـساءلون من الزّعيم بـابٌ على سودِ الحوادِثِ مُغلَقُ فـوضى، وشملُ الاملينِ مُمَزَّقُ | الأليقُ
ويتابع، وهو المشهود له بجرأته وصراحته وجهره بالحق دون مواربة، وبوطنيته التي تعلو على كل غاية وهدف، ووعيه الذي يرصد كل حركة وسكنة، وحسه الذي يكشف له مواطن الضعف ومواطن القوة :
مـا لكم بعضكم يمزِّقُ بعضا إذهبوا في البلاد طولا وعرضا والـمسوا باليدين صرحا منيعا كـلُّ هذا استَفادَهُ بينَ فوضى واشـتِـغـالٍ بالتُّرَّهاتِ وحبِّ شَـهِـدَ اللهُ أنَّ تـلـكَ حـياةً | !أفـرغـتم من العدوِّ اللدودِ وانظروا ما لخصمكم من جُهودِ شـادَ أركـانَـهُ بـعزمٍ وَطيدِ وشِـقـاقٍ وذِلَّـةٍ وهُـجـودِ الذاتِ .. عن نافِعٍ عَميمٍ مَجيدِ فُـضِّـلَـت فوقَها حَياةُ العبيدِ | ؟
وهذا أبو سلمى يطلقها صرخة مدوِّية شاملة تقرع كل أذن واعية :
يـا جيرة الوادي الحزينِ تحيّةً نَـتَـلَمَّسُ الماضي فنُبصِرُ ظِلَّهُ مـا تَملِكونَ؟ أفي النُّفوسِ حَمِيَّةٌ لـو كانَ في تلكَ النُّفوسِ حمِيَّةٌ لـو كـانَ في تلك الأنوفِ بقيَّةٌ لو تَسمَعون صدى القبورِ وَجَدتُمُ كَـرِهَـتـهُمُ الدُّنيا الدّنيّةِ حينَما ومـشى الزَّمانُ علَيهِمُ حتى إذا | حـمـراءَ أنـطَقَها دمُ خلفَ الدُّموعِ على شِفارِ العادي أبـقـيّةُ الأسيافِ في الأغمادِ عـربِـيَّةٌ شَدَّت على الأصفادِ لـتَـحَـطَّمَت حلَقاتُ لاستِعبادِ جـنَـبـاتِها تَبكي معَ الأجدادِ كَـرِهـوا حَـياةَ كَريهَةٍ وجِهادِ مـاتَ الإباءُ مشى على الأحفادِ | الأكبادِ
ويكفيه فخرا وشموخا رائعته على الزمان والتي أرخ بها لنضالات الشَّعب الفلسطيني ومعاناته وصرخته العارمة :
أنثر على لهب * * * إيـهِ فـلسطينُ اقحَمي لا تصهَرُ الأغلالَ غيرُ حَـلَـفَت دِماءُ الثائرينَ * * * يـا من يُعِزّونَ الحِمى بـل حَرِّروهُ من المُلوكِ | القصيدِشَكوى العَبيدِ إلى * * * لُجَجَ اللهيبِ ولا تحيدي جَـهَـنَّمِ الهَولِ الشَّديدِ على العُلوجِ بأن تَسودي * * * ثوروا على الظلمِ المَبيدِ وحَـرِّروهُ مـن العَبيدِ | العبيدِ
أما شاعر الثورة الشهيد عبد الرحيم محمود، الذي رضع مبادئ ثورة القسام، واختزن في قلبه مرارتها وشرارتها، فيعلنها صريحة:
واغصِب حُقوقك قَطُّ لا تَستَجدِها إنَّ الألى سَلَبوا الحُقوقَ لئامُ
هذي طَريقُكَ للحَياةِ فلا تَحِد قَد سارَها مِن قَبلِكَ القَسّامُ
وقد بَلَغ قمةَ صراحته، وقمة وعيه في قصيدته التي صَدَعَ بها الأمير سعود بن عبد العزيز حين قدم القدس في (1935514) ومما جاء فيها :
يـا ذا الأمـيـر أمامَ عينِكَ الـمـسـجِدُ الأقصى أجِئتَ تَزورُهُ حَـرَمٌ تُـبـاحُ لـكُـلِّ أوكَعِ آبِقٍ وغَـدًا، ومـا أدنـاهُ لا يبقى سِوى | شاعِرٌضُمَّت على الشَّكوى المَريرَةِ أضلُعُه أم جـئـتَ من قَبلِ الضَّياعِ تُوَدِّعُه ولـكُـلِّ أفّـاقٍ شَـريـدٍ أربُـعُه دمـعٍ لـنـا يَـهمي وسِنٍ نَقرَعُه |
وتبقى رائعته على الزمانِ تشهد على تفجّر وعيه وحسه ونبوغه في الشعر والثورة :
سأحمل روحي على راحتي فـإمـا حياةٌ تَسُرُّ الصَّديقَ ونَفسُ الشّريفِ لها غايتانِ | وألقي بها في مَهاوي الرّدى وإمـا مـماتٌ يغيظ العِدا ورودُ الـمَنايا ونيلُ المنى |
2- جيل النكبة :
النّكبة، ضياع فلسطين، النّزوح، الشّتات، الجرح المفتوح، بكاء الوطن السليب المُضَيّع، حلم العودة، الدعوة الى الصبر وتجاوز الألم ، وتجاوز المرحلة، والاستعداد لما هو قادم ... تلك هي حدود ومعالم النكبة في الشعر الفلسطيني ، شعر المقاومة الذي انقلب إلى شعر حزين باكٍ شاكٍ... يصوّر الجراح، يشرح الألم، يبث الشكوى إلى عالم فقد الحس والسمع والشعور، فهل من سامع؟ وهل من مجيب؟
فهذا ابو سلمى يصرخ
بينما الزّعماءُ والمُلوكُ في العالم العربي :
- أختَ صلاحَ الدّينِ عشتِ حُرَّةً تأبى لكِ الأمجادُ أن تَتَهَوَّدي
وطورا يصرخ:
- قف على اليرموكِ وانظُر هل ترى موكِبَ التاريخِ ميمون القيادِ
دَرَجتُ على ثَراكِ وملءُ نفسي عبيرُ الخالِدينَ من الترابِ
يا مَن جَهدتُم بالكلامِ فأزّ في الأفواهِ رَعدا
لا يَمَّحي جُرحُ العُروبَةِ مِن فُؤادٍ كادَ يَردى
بالقولِ نَمَّقَهُ اللِّسانُ فسالَ للأسماعِ شَهدا
ثمّ يوَجّه كلامه لإخوانه الفلسطينني:
جِدّوا وشِدوا واستَبِدّوا، ماتَ شعبٌ ما استَبَدّا
واستَرجِعوا ما ضاعَ من أوطانِكُم غَورًا ونَجدا
أو لا؛ فإنّ الموتَ مِن عيشِ الوَنى أهدى وأجدى
فالحُرُّ يأبى أن يُضامَ ولا يُطيقُ العيشَ عَبدا
ولكن ريح النّكبة المفجعة تظلّ تزحم ذاكرته فيصرخ:
يا رياحَ الجحيمِ هُبّي علينا والفَحينا فإنّنا جُبَناءُ
ولكنه يعود ليتمالك نفسه هاتفا:
سَـتَنجَلي الغَمرَةُ يا والأمَـلُ الطّّافي مًَهما ذَوى فـالـجَوهَرُ الكامِنُ في أمّتي هو الشّبابُ الحرُّ ذُخرُ الحِمى | مَوطنيويَمسَحُ الفجرُ غَواشي لَـسـوفَ يُروى بِلهيبٍ ودَم ما يأتَلي يحمِلُ معنى الضّرَم الـيـقِـظُ المستَوفِزُ المُنتَقِم | الظُّلَم
وهكذا... مدّ وجزر، بين جرح وألم، واقع وحلم، حقيقة أصعب على التصديق من الوهم، وأمل يصدعه الواقع المر، وواقع يخفف من وطأته حلم جميل وأمل مستبد في النفس...
فهذا الشاعر الفلسطيني الكبير هارون هاشم الرّشيد المولود في غزة عام (1927) والذي لقب بشاعر النكبة، يصوّر وضع الفلسطينيين في الخيام قاهرين الألم بالأمل ، بقوله:
أخي مهما ادلَهَمَّ الليلُ سوفَ نُطالِعُ الفَجرا
ومهما هدّنا الفقرُ غدًا سنُحَطِّمُ الفَقرا
أخي والخيمةُ السوداءُ قد أضحَت لنا قَبرا
غَدًا سَنُحيلها روضًا ونبني فَوقَها قَصرا
غدًا يومَ انطلاقِ الشَّعبِ يومَ الوَثبَةِ الكُبرى
غَدًا في زَحمَةِ الأقدارِ سوفَ نَحقِّقُ الأمرا
فلسطينُ التي ذّهَبَت ستَرجِعُ مرّةً أخرى
وفي قصيدة الغرباء؛ والتي صاغها بشكل حوار بين أب وابنته؛ يقول:
أتَت ليلى لوالِدِها وفي أحداقِها ألَمُ
إلى أن يقول:
وتـذرِفُ دمـعة وتمضي صرخة كبرى يـصرُخُ سوفَ نُرجِعُهُ ولـن نـرضى له بدلا | حرىوتـدفَـعُ خـلفَها دَمعة وتطرقُ في الدّجى سَمعَه سـنُـرجِعُ ذلكَ الوَطَنا ولـن نـرضى لهُ ثَمَنا |
ويتوِّج حنينه بقصيدته الرائعة: "سنرجع يومًا" (ينسبها البعض خطا الى "أبو سلمى") ومطلعها:
ويلخص أفكاره ، وبصورة مباشرة، بقوله:
يا أخوتي في كلِّ أرضٍ لا تُؤمنوا، هذا السلامُ خرافَةٌ مِن أينَ يأتينا السّلامُ وأرضُنا أوَ بَـعدَ هذا لا نَرُدُّ سلامَهُم | أنتُمُأهـلُ الـبـلادِ وأنتُمُ الثُّوّارُ إنّـا بـهِ وبـأهـلِـهِ كُفّارُ باسمِ السّلامِ يسودُها الأشرارُ عـارٌ عـلينا أن يَظَلَّ العارُ |
ولو أردنا أن نجمل الموضوعات الأساسية في شعر هذه الحقبة، سنجده شعر الفاجعة، أسهب في تصوير فاجعة النكبة: الرحيل، النزوح، الخراب، تخلي العالم عن أهل فلسطين الحقيقيين من العرب، هذا الشعب الذي تآمر العالم كله عليه، وتخلى عنه، بل خطط لنكبته ونفّذ، بِدْءً من بريطاني وفرنسا، ومن ثم العالم كله ممثلا بهيئة الأمم، الكل تآمر على الشعب الفلسطيني وخطط لنكبته وتفرّج على تشريده.
الجيل الثالث: جيل زمن المجازر: ما بعد النكبة:
هذا الجيل الذي ورث مسيرة المقاومة، ووعى الصوت، وطوّره، وتطوّر من خلاله، وخاصة أهل الداخل، الذين بقوا على أرضهم في الجليل والساحل والمثلث والنقب... يقفون وجها لوجه امام جبروت المحتل وقمعه وممارساته، هنا في قلب الوطن المنهوب، ليقولوا كلمة الحق في وجه السلطان الجائر المستبد، وليرفعوا كلمة الشعب المقاوم، وحقه في العيش وحقه في مقاومة الظلم والتشريد والنهب والسلب لحقوقه... وشعارهم الباقي بقاء أرواحهم واصواتهم وعدالة قضيتهم : هنا باقون، كأننا مليون مستحيل فوق ثرانا صامدون، فوق صخور بلادنا، عند قبور أجدادنا، عند مرمى أحلام أحفادنا، باقون، على صدوركم، ورغم أنوفكم، باقون... نشهد على بغيكم، ونأخذ من افواهكم وأعمالكم ومواقفكم ما يدينكم ويشهد على كذبكم وبهتانكم، ومن ممارساتكم ما يشهد على همجيتكم ووحشيتكم وإجرامكم... هنا باقون، ليظل يعمر هذه الأرض ريح أهلها، وطهر تراثهم وصفاء نواياهم ، وبراءة أيديهم ونفوسهم ، وزكاة أرواحهم ودمائهم...
إنا باقون لنصرخ في وجوهكم، ووجوه العالم من ورائكم : نحن أهل الحق، وأنتم أهل الباطل. نحن أهل السلام، وأنت من سلبنا السلام. نحن أهل العمار وأنتم أهل الدمار. نحن طلاب الحياة وصناعها، وأنتم طلاب البطش صناع الدمار زرّاع الموت... نحن الأكف الممسكة بالفأس والمحراث والمنجل... وأنتم الأكف التي تعشق الضغط على الزّناد، والضرب بالسوط، وتلوّح بالدمار والحصار.. وتشهد على ذلك مجازركم... يسجلها ويوثقها شعرنا وأدبنا.. كما تختزنها ذاكرتنا، وترددها على مسامع العالم أصوتنا العالية بالحق.
ومن أبرز أصوات هذه المرحلة: توفيق زياد، محمود درويش، راشد حسين، سميح القاسم ، فهد أبو خضره، جمال قعوان، إدمون شحادة، حنا أبو حنا وغيرهم... ممن عملوا كالمرصد، يتابعون كل خطوة، ويواجهون كل خطة، ويوثقون كل حركة وسكنة وفعل وسكون... وتبقى الروح المُتَوِّجَة لكل حيثيات المرحلة : شعارنا: هنا باقون... وإلى هنا سيعود من نزح من أهلنا ، طال الزمن أو قصر... ورغم الجرح، ورغم الحصار والدمار، ورغم المجازر والمؤامرات... ورغم كل ما كان أو سيكون .. هنا باقون ... وإلى هنا عائدون...
كما عبّر عن ذلك معين بسيسو في قصيدة المتاريس:
- " قد أقبلوا
فلا مساومة..
المجد للمقاومة...
لراية الإصرار شاهقة"
أو صرخة هارون هاشم الرشيد :
- "عائدون عائدون..
إننا لعائدون..
الحدود لن تكون
والقلاع والحصون
تصرُخُ إنا عائدون"
نعم: عائدون، باقون، راسخزن، ثابتون ... كما سجّل توفيق زياد:
- "يا شعبي يا عود النّدّ
إنا باقون على العهد"
باقون لنشهد على يوم الأرض، ومجزرة دير ياسين، ومجزرة كفر قاسم، ومجزرة الخليل، ومجزرة عيون قارّة، ومجزرة جنين، ومجزرة صبرا وشاتيلا ، والمجازر التي لا تتوقف في كل يوم بل في كل لحظة... ولسان حال الشعب الفلسطيني يقول كما قال راشد حسين:
سنُفهمُ الصّخرَ إن لم يَفهَمِ مهما صّنَعتُم منَ النيرانِ نُخمِدُها ولـو قضيتُم على الثُّوّارِ كُلِّهِمُ | البَشَرُأنَّ الشُّعوبَ إذا هَبَّت ألَـم تَـرَوا أنَّنا من لَفحِها سُمُرُ تَـمَرَّدَ الشّيخُ والعُكّازُ والحجَرُ | ستَنتَصِرُ
هذا هو سجل الشعر المقاوم المعاصر . نعم، قاده زياد ودرويش والقاسم وراشد حسين... ليحمل مشعله معهم وإلى جانبهم ... ومن بعدهم فرسان كثر...كانو جنودا على الطريق الطويل الأصيل.. مؤرخين لنهضة الوعي، في انتفاضة الشعب الأصيل الحر المقاوم... في الجليل .. في المثلث .. في النقب... في الضفة .. في غزة.. بل في كل ذرة تراب في هذا الوطن الغالي .. تملأ الأرض نشيدا يعلن للعالم أجمع: أنا الشعب الفلسطيني، أحمل تراثي وحقي في قلبي، أطبعه على جلدي... كما هتف درويش:
- "في البال
أغنية يا أختي
عن بلدي
نامي لأحفرها وشما
على جسدي"
إنها مرحلة تيقظ الوعي الجماعي... وذوبان الأنا في الكل.. الفرد في الشعب... الذات في المجموع... إنها مرحلة تماهي الأنا بالأرض بالتراث بالوطن.. كما يسجل شكيب جهشان من الناصرة:
أنـا قـمـحٌ وزعتَرٌ وخوابي وحنينُ الحُداتِ شوقُ المراعي وظـبـاءٌ وبـئر ماءٍ وراعٍ | وعـتـابـا ومـوقِدٌ وانـهـمار الغناءِ والشّؤبوب يـمـلأ الأفق لحنُهُ والوجيب | مَشبوب
إنها مرحلة ذوبان الأنا في الهوية التراثية والوطنية... بحيث أصبحت الأنا والنحن تعني الضمير الوطني، ضمير الشعب الحر والأمة الأبية، وصوت تراثها وتاريخها... كقول الشاعرة حنان عوّاد:
- "أنا بنتُ السّلاح
أقاتلُ الإعصارَ من اجلك
أنا بنتُ الجراحِ الخضر
جئت الكونَ في ظلك
أعود إليك من أعماق فرحتنا
أعود إليك في رايات ثورتنا "
فالضمير أنا أصبح يعني... أنا الشعب، أنا الثورة، أنا المقاومة، أنا المصير... والضمير نحن كذلك... كقول سميح صبّاغ:
- "أنا لست أدري يا عروسة يا خديجة
نحن جئنا كي نزفّك أو نبارك
بالهتاف وبالغناء
هذا الزواج
فليبتهج شجر البراري والحقول
بعروسة البطوف"
إنها العروس التي تزف إلى الأرض بحب الكل... ومباركة الكل وتضامن الكل... الوحدة هي العنوان... والأرض هي الهدف.. والوحدة في طريق المقاومة هي الوسيلة الوحيدة للنجاح... حيث يشكل يوم الأرض محطة من المحطات المركزية في المسيرة... فيها أصبحت الأرض روحا وجسدا وإنسانا... والسنبلة رمز خير وعطاء.. والجرح شلالا يهدر باسم الشعب المجروح حاملا روح التغيير المتولدة من رحم الثورة... وقطرة الدم سراجا يضيء عتمة الطريق لكل السائرين... كقول فتحي القاسم ...
- " أم الشّهيد تهزّني
وتصيح بي
مازال يمرح بيننا
دمه سراج في الليالي المعتمة
نهر جرى
يمحو الأسى
ويفك أسر العاشقين بفيضه
ويروي أقداس الثرى"
نعم هو دم الشهيد... الرسالة التي لا تضيع حروفها ولا تُجهل معانيها، وتظل صارخة في الضّمائر الحية، والقلوب النابضة، لا يمحوها الزمن، ولا تُنسيها الكروب والمحن.
دم الشهيد يقودنا إلى المرحلة الأخيرة ، المحطة الأخيرة... والتي نرجو لها أن تكون الأخيرة فعلا، وقد تُوِّجت بالنّصر، نصر الحق على الباطل، ونصر صوت السلام على صوت الحرب والدمار...
الانتفاضة، التي عمّقت الجرح، وأيقظت كل الغافلين. الانتفاضة وضعتنا جميعا كفلسطينيين على الطريق الواضح، اما المرآة، مرآة الواقع الصارخ، وأمام الخيار الأوحد: لا معنى لأي شيء مالم يتوقف شلال الدماء ويخرس صوت القهر والدمار والظلم.. وإلا فصوت المقاومة، صوت الرفض، صوت التمسك بالحياة، سيعلو ويعلو كما ارتفع صوت ابن جنين الشاعر خالد السعيد:
- "يا ابن شعبي..
أنت أقوى..
من سلاح البحر والجوّ فقاوم
لا تظن القوم بين صقور وحمائم..
فجميع القوم يا شعبي جنودٌ
كلهم سفّاح شعبي
لا تساوم...
لا تفرّق بين شارون وحاييم"
إنها الانتفاضة... التي كشفت كل الأوراق.. ووحدتها في ورقة واحدة.. عنوانها: (السلام العادل هو الحل)... وإلا : (فالمهاجم... يقابله المقاوم...)
الانتفاضة خلقت جوًا جديدا، ومنطقا جديدا في أفق الشعر المقاوم، أنه منطق النِّدِّيَّة. السلام يقابله السلام، فكما تدين تدان... فإما الكلمة والحوار والمنطق والحق والعدل... وإلا فكل فعل يقابله فعل من نوعه ...
أصبح شعر المقاومة يأخذ طابع الحوار الحضاري، وصوت المحاور والمقاوم ينطلق من حنجرة الشاعر والعكس صحيح... وقد قلت في هذا المعنى في قصيدة لي بعنوان "موت وأمنية ووعد"
"- لا تنسَ موتي حينَ تُبصِرُ من خِلالِ الموتِ موتَك
صمتَ الزّمانُ لِيَنثَني بحرارةِ النَّبَضات ينعى المَوتُ صَوتَك
بِيَدَيكَ صُغتَ مرارتي...
وغدًا يُعانِقُ نَعشَنا عَبَقٌ تَضوَّعَ من شذى وردي ووردَك
تسعى لموتي!
هل ستُنكِرُ أن تموتَ ببعضِ سعيك؟!
لا تَنسَ عهدي حينَ تسعى أن يكونَ العهدُ عهدَك
يستَنكِرُ التاريخُ:
لا... ما غابَ وجهي حينَ دُسَّ هُناكَ وجهُك!"
رموز هذا الشعر وعناصره أخذت تمتد من رموز الماضي السحيق.. إلى حدود المستقبل المنشود – رغم غموضه وضبابيته- عبر الحاضر المتأجج، ليبقي الباب مفتوحا لرسم الأمل على الشفاه، مصبوغا بلون الفرح في يقين المؤمنين به، والمتطلعين اليه بتفاؤل الثابت على حقه، الواثق بعدالة قضيته وموقفه، المتيقِّن من انتصار الحق على الباطل مهما طال الزمن... فما أروع ما سجله الشيخ رائد صلاح (شيخ الأقصى) من صرخة لشعبه في هذا المعنى، ومن قلب سجنه:
ـ جدد الإيمان في القلب ولا تخشَ العدا
واستقم في الدرب حرًا شامخًا لبِّ الندا
لا تقل لي يائسًا ضعنا مع الدرب سدى
أنت فينا يا أخي الرمز على طول المدى
أنت دومًا في سبيل الله عنوان الفدا
.......
ـ جدد العزم، وقاوم، ثم قاوم لا تنم
........
ـ جدد السير ونادِ المسجد الأقصى الأسير
..........
ـ جدد الهمة لا تصغ لغربان الظلام
..........
ـ جدد الصبر وصابر وانتظر نور الصباح.
.......
وتظل الشعلة ، وتظل الطريق... ولا ينقطع السائرون أبدا... والخاتمة للصابرين الصادقين ...