الاغتراب والانحراف في الأدب العربي الحديث
الاغتراب والانحراف في الأدب العربي الحديث
عبد العزيز كحيل
تميزت فترة الستينات والسبعينات باستحواذ النزعة اليسارية على الساحة السياسية في أغلب البلاد العربية،وشاعت في ظلها الاشتراكية التي أفرزت-مثلها مثل الليبرالية-المادية والإباحية والعلمانيةوانعكس ذلك على الإنتاج الأدبي بصفة واضحة فعجت أرضنا بخلق مستهجن غريب أطلقت عليه أسماء براقة لا يستحقها كالشعراء والروائيين والقصاص تجمع بينهم صفة أساسية هي التسبيح بحمد الفلسفة السائدة(القومية العربية،البعث, الاشتراكية)والنظام الحاكم،ولا غرابة في ذلك،فهؤلاء الأدباء ليسوا في أكثر الأحيان سوى مجرد صنائع تغدق عليها الألقاب والأموال لتملأ الساحة التي أفرغتها تلك الفلسفات والأنظمة من الأصوات الحرة والأقلام النزيهة،وملأ المستأجرون الدنيا بعجيج لا يطاق أذهب جمال اللغة وتجاسر على حمى القصيدة ومرغ القصة في وحل الغزيرة وأهان الفضيلة وشان الأدب والفن،ومازلنا نذكر موكب الفارغات(بتعبير سيد قطب)الذي تربع مند السبعينات على عرش الأدب في الجزائر،وهو عبارة عن مجموعة من الوصوليين والمرضى والعاجزين صيغوا على عين الحاكم لا يحسنون إلا المديح واقتحام الأبواب المشرعة لأنهم أعجز من أن يفتحوا الأبواب المغلقة،هؤلاء الناس وأشباههم في الجزائر ومصر وسوريا والعراق وغيرها تفننوا في ظل سطوة المذاهب الإلحادية في ذم ما يمت بصلة للإسلام وشريعته ورجاله،وراحوا يؤدون شعائر الولاء والعبادة والتقديس-على سبيل النفاق غالبا-لأصنام حديثة هي الوطن والثورة والحرية والتقدمية،فهؤلاء الأدباء يتميزون باغتراب حضاري صارخ نسوا في خضمه دينهم وقيمهم وروابطهم الأخلاقية والاجتماعية...وإلى جانب الاغتراب يتميزون بانحراف عقيدي شديد يمسخ آدميتهم،والغرض من هذا المقال هو إعطاء نماذج من هذا الاغتراب وهذا الانحراف حتى يتبين مدى الفساد الذي أصاب أمتنا حتى في النسق الجمالي والذوق والتفسير الشعوري للحياة،ولابد قبل ذلك من الإشارة إلى أن الاغتراب والانحراف ليسا وليدي الفترة التي تحدثنا عنها إنما ظهرا مع مرحلة الانهزام النفسي أمام الغرب وواكبا أحقابا من الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية اللادينية،من ذلك على سبيل المثال أن أحمد شوقي قال مخاطبا مصر:
لو أنني دعيت لكنت دني--أدير إليك قبل البيت وجهي
عليه أقابل الحتم المجابا--إذا فهت الشهادة والمتابا
فالوطن استبدل به الكعبة بيت الله.ونحن لا نظن بأمير الشعراء سوءا،لكنه الانهزام أمام هجمة الوطنية بالمفهوم الغربي جعل القلم يزيغ ويغالي.
ولعله من المناسب أن نذكر أن أحد كبار منظري البعث "منيف الرزاز" _ وكان يستقبل في الجزائر وغيرها استقبال الأفذاذ أيام الحزب الواحد _ قد قال(لو امتدت يد الله إلى البعث لقطعناها).
وانظروا إلى كاتب ياسين-رأس الأدب الفرنكوفوني-كيف أعطى لبعض ما كتب في السنوات الأخيرة من حياته هذا العنوان الموحي ((الأجداد يزدادون شراسة)) وهو يشير إلى قوة الصحوة الإسلامية التي تفرض على المجتمع نظرة الأجداد-حسب رأيه- أي قيم الماضي السحيق
أما بن هدوقة الذي سعوا إلى تنصيبه على رأس الراوية الجزائرية بالعربية فقطب الرحى في كتاباته هو تحرير المرأة من قيود الدين وأسر الدراويش كما يسميهم.
إذا انتقلنا إلى شهادات حية عن اغتراب أدبائنا وانحرافهم نورد مقاطع معبرة عن رواية للطاهر بن جلون وقصائد لبعض الشعراء المشهورين من المشرق العربي،وقد اعتمدنا في هذه النقول-خاصة-على البحث الممتمع الذي قدمه الأديب المغربي الإسلامي الدكتور حسن الأمراني لملتقى الفكر الإسلامي الثالث والعشرين بتبسة /الجزائر/سنة1989.
يقول بن جلون في رواية "الليلة المقدسة" وهو يتحدث عن المؤذن(قد ينخفض صوت هذا الغبي الذي ينهق،يجب أن يعاش الدين في صمت وتأمل وليس في هذه الجلبة التي تعكر صفو ملائكة القدر) ويقول(أحب القرآن كشعر رائع وأمقت الذين يستغلونه في تشويشات ويحدون من حرية الفكر،إنهم منافقون ويتحدثون عن الفاحشة قبيل منتصف الليل بأحد المساجد) ويقول أيضا(وكما في المسرح رأيت خمس نساء(...)لابسات بنفس الطريقة جلابة رمادية وشاحا أبيض يخفي الشعر ابتداءا من الحاجبين،اليدان في قفازين والوجه شاحب لا أثر فيه لأي تبرج،كن جميعا ذميما وينبعث منهن الضيق،لقد فهمت من كانت أمامي:طائفة من الأخوات المسلمات المتعصبات الشرسات(...)مجموعة من المخبولات).
1- رشيد سليم الخوري:
صياما إلى أن يفطر السيف بالدم--سلام على كفر يوحد بيننا
وسلاما إلى أن ينطق الحق يا فهمي--أهلا وسهلا بعده بجهنم
ألا يذكرنا هذا الاستهتار بقول ابن هاني الأندلسي يمدح بعض الأمراء:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار--فاحكم فأنت الواحد القهار
2-نزار قباني:يقول مخاطبا عبد الناصر بعد وفاته:
قتلناك يا آخر الأنبياء
قتلناك،ليس جديدا علينا قتل الصحابة والأولياء
ويقول في الديوان نفسه(لا): من بعد موت الله مشنوقا على باب المدينة لم يبق للصلاة قيمة،لم يبق للكفر أو الإيمان قيمة.
ويقول في ديوان الرسم بالكلمات:
أنا أرفض الإحسان من يد خالقي
قد يأخذ شكلا مفجعا
ويقول في ديوان 100رسالة حب:
حين وزع الله النساء على الرجال..وأعطاني إياك،،شعرت أنه انحاز بصورة مكشوفة إلي وخالف كل الكتب السماوية التي ألفها.
وختم بهذا الكفر البواح من الديوان نفسه:
لأنني أحبك،يحدث شيء غير عادي في تقاليد السماء،يصبح الملائكة أحرارا في ممارسة الحب،ويتزوج الله حبيبته.
3-محمود درويش:
هل نستطيع الموت في ميلادنا الكحلي؟
أم نحتل مئذنة ونعلن في القبائل أن يثرب أجرت قرآنها ليهود خيبر
الله أكبر
هذه آياتنا فاقرأ باسم الفدائي الذي خلقا
من حرمة أفقا
(فالشاعر التقدمي ينسخ آيات الله ويتلو قرآنا جديدا.)
4-صلاح عبد الصبور: وهو رجل جمع في شعره من الضلال ألوانا فيتغنى بالعبث والوجودية وتأليه الإنسان في تقليد غبي للفكر الغربي الوافد فيقول مثلا:
إن السأم هو جوهر إنسان هذا العصر
إنسان هذا العصر سيد الحياة
لأنه يعيشها سأما
يزني بها سأما
يموتها سأما (ديوان أقول لكم)
واسمع إليه يجمع بين النبوة والسحر في تخريف غريب(ديوان الناس في بلادي):
وقالت لي الأرض الملك لك
تموت الظلال ويحيا الوهج(...)
فيا صيحة لم يقلها نبي
ولا ساحر همجي..
وفي الكلام الآتي تلخيص لرؤية الشاعر عن الله تعالى والإنسان:ما غاية الإنسان من أتعابه؟ما غاية الحياة؟
يا أيها الإله كم أنت قاس موحش
يا أيها الإله (الديوان السابق)
وبعد،فهذه نقول تغني عن غيرها في بيان ما يعانيه أدباؤها من غربة حضارية وانحراف عقيدي وأخلاقي وغبش في التصور،ولعل ذلك ما جلب لهم الشهرة التي صنعتها لهم الأوساط التغريبية المستحوذة على ساحة الأدب ووسائل الإعلام،وقد تصدى لعبثهم أصحاب الأيدي المتوضئة والأقلام النزيهة،فأنتجوا أشعارا رائدة وأدبا يستحق اسمه،لكنهم مازالوا قلة يحتاجون إلى تنام ورعاية وتشجيع لينشروا عبر القصيدة والرواية والقصة التصور الصحيح عن الله والإنسان والحياة،ويحببوا للناس الفضيلة والعفة ويحاربوا القبح ويقيموا صرحا للجمال.