رواية (قبل اكتمال القرن) (قرن الخراب العراقي العظيم)
تحليل خمسين رواية عربية نسوية :
رواية (قبل اكتمال القرن)
(قرن الخراب العراقي العظيم)
للمبدعة "ذكرى محمد نادر" (7)
د. حسين سرمك حسن
# تحطيم الأنموذج الأبوي الحامي :
إن تحطيم الأنموذج الأبوي الحامي هو من الإجراءات الأساسية التي يتبعها الطغاة الجلادون . يأتون بالسجين الذي يصمد ، ويدخلون أباه كي يؤثّر في فلذة كبده الذي ستحطمه عجلة القهر . أو يأتون بالسجينة ويغتصبون أمّها أمامها . هكذا يتم سحق كل الرموز المقدسة في حياة الفرد راسمين - وبدقة - ما ينتظر الفرد في مستقبل الخراب القريب. لقد وعد "نوّاف" سُبُل بأنه سوف يطلق سراح أبيها مرتضى. وقد برّ بوعده وأعيد الأب إلى البيت :
( كان مرتضى عاجزا عن الوقوف ، جلس على البلاط البارد متشبثاً بجسد "فضائل" الهزيل تفوح منه رائحة البول والعرق والخوف . هُرعت إليه زوجته العوراء وهي تولول :
-دَنْعَل أبو السياسة .. هاي الحَصَلْته منها ..
ستلعن العوراء السياسة على المدى المتبقي من عمرها لأنها ستعرف بعد ليلة واحدة أن الخوف أخصاه نهائيا ، وأنه لن يعتليها مجددا في تلك اللعبة الليلية المبهجة – ص 154 و 155 ) .
لقد تم إخصاء مرتضى الأب .. أخصاه الطغيان .. لقد أعطب سلاحه الذكوري ، وسيبقى تذكارا متدليا لا جدوى منه على الإطلاق . لكن هناك إخصاءَ الأنموذج المخلّص الذي سيملأ فراغه "نواف" بالتخطيط المتقن الغادر . حتى سُبل التي حبست دموعها بجَلَد لم تستطع إلا أن تلوم أباها على انهياره وخذلانه لها . كان نواف يقصّ عليها حكاية انحطاط أبيها وتهشمه المهين بتشف مُقرف :
( ضحك "نوّاف الضامن" من أعماقه وهو يسرد على سُبل تفاصيل التحقيق مع مرتضى :
- كان وشيش تبوّله عالياً ، وسمعت بوضوح اصطكاك أسنانه ، فينكسر الكلام بين شفتيه .. قرأت في أوراقه [ = أوراق البراءة القديمة ] شيئا مختلفا .. يا له من مسلٍّ عظيم .
إلتفت إلى سُبل يبحث في وجهها عن تأثير كلماته .. قال بصدق آخر ، يحمل نبرة رجل حكيم ومحايد :
- أهذا ممكن ؟ لقد تبوّل المسكين قبل أن يجيب عن اسمه .. أتعزين أن للخوف مبضعا يخصي البشر ببراعة أكيدة ؟
بلعت سُبل دموعها قبل أن تقول : لعله قد صار مسنّا أكثر مما ينبغي
لكنها لم تستطع كبح إحساس بالخذلان يجتاز خاطرها أوصلها إلى همسة عتب مؤلمة :
- لمَ هكذا يا مرتضى ؟ - ص 155 ) .
وهذه ، بالمناسبة ، ليست أول وقفة عتاب مع مرتضى من فرد - هو من أبنائه أو من جيل شاب يُفترض أن يمنحه هو حكمة السلوك والجسارة . قبلها عاتبه (الجهم) - إبنه الأصغر - عندما أصعدهما رجال الأمن إلى السيارة ، وكان الإبن أكثر تماسكا من الأب المفزوع ، وهو يصرخ :
- يابه .. والله ما عندي شي .. عيوني لقد وقّعِتْ .. بس ..
كاد يبكي فأحس الجهم بحنق كبير فصرخ به :
- كن رجلا يا أخا الصفوان – ص 143 )
وصيغة الإسناد هذه (أخا الصفوان) ليست بريئة من جانب الجهم . فهي امتداد لموقف أسبق أشد قساوة . فبعد سنوات طويلة من مقتل "الصفوان" سأل "الجهمُ" أباه مرتضى عن حقيقة مقتل عمّه ، فحكى له أبوه تفاصيل ما حصل وكيف سُحِل العمّ وأخوه يسدّ فمه بيديه كي لا يصدر صوتا يدل القتلة الرعاع عليه . فكانت ردة فعل الإبن مليئة بالإدانة والاحتقار :
( تعاظم إحساسٌ بالإزدراء في وجدان الفتى [ = الجهم ] ، فوجد نفسه يقول له وهو ينظر إلى عمق عينيه المنكسرتين :
- كان حريّاً بك أن تموت معه . فقط أستغرب من أمر : كيف للمرء أن يحيا مع خزي كهذا ؟! – ص 63 و64) .
وهاهو نواف يجهز - مرة واحدة وإلى الأبد - على صورة الأنموذج الأبوي الحامي أمام عيني سُبل الوحيدة العاجزة عن كل شيء. هكذا تتوالى خطوات إسقاط الضحية في براثن الجلّاد . صار الوضع النفسي للضحية مُمهّدا كي يطرح الجلاد ذاته كمخلّص . وهذه أخطر مراحل الترويض ؛ أن تجد الضحية الخلاص في جلّادها .
لكن ذكرى تتقن اكتشاف أسرار النفس البشرية العميقة . يقول معلم فيينا :
(إن الشعراء والروائيين حلفاء موثوقون وينبغي أن تُثمن شهاداتهم عاليا، لأنهم يعرفون أشياء كثيرة ما بين السماء والأرض ليس بمقدور حكمتنا المدرسية بعد أن تحلم بها. إنهم أساتذتنا في معرفة النفس، نحن الناس العاديين، لأنهم ينهلون من ينابيع لم نجعلها في متناول العلم بعد) . (سجموند فرويد - الهذيان والأحلام في قصة "غراديفا" جنسن- ) . وهي كمبدعة فذّة تمسك بما هو مخفي في شخصية الجلّاد ، ما يتستر وراء هذه الصورة الضخمة من القوة والسلطة والقسوة والوحشية . في علم نفس التعذيب تكشّفت حقائق تصدم العقل العادي الذي ألف المُسلّمات . مثل هذه العقول لن تستوعب حقيقة أن العنف في السلوك البشري قد يكون دفاعا . " آلية نفسية دفاعية - defence mechanism psychological" مداورة لتغليف مواطن الضعف في الذات .. وقد يصل أحيانا حدود أن يكون " صرخة استغاثة – cry for help " . تقول هذه "المحللة النفسية" عن الجلاد نواف الضامن : ( كان يعرف أنه يتوق إلى أن يكون محبوبا . ومنذ صعد دكة سنواته الأربعين كل صباح حين يطالع وجهه في المرآة مُحدقا في حاجبه الكث المائل وعينيه الصغيرتين اللتين لا تخلوان من مكر طفولي ، يشعر بحاجته لأن يرى وجهه في عيني شخص محب . كان يتوق للحظة تستولي عليه تدفقات قلبه لتخلق مناخا معادلا للقسوة اليومية اللامتناهية والمضطر على أن يحياها ، فكم من المرّات وجد نفسه مُتحسّرا على دموع المعذبين الواقفين تحت رحمته ، فكان يكفّر عن خطيئة الرحمة بزيادة جرعة العذاب – ص 152 ) .
وفي وقت لاحق ستشخص سُبل هذا "الاضطراب" النفسي المغلّف بالقسوة عندما تقول له متسائلة :
- ألا تظن أن القسوة هي تعبير عن جوعٍ أليم للإحساس بالحب – ص 153 ) .
وقد أدركت سُبل طبيعة التركيبة العجيبة لهذا الجلاد . وهي من أخطر التراكيب الشخصية . كارثة عندما ينطوي الجلاد على نزق طفل صغير وروح شاعر . لا يجتمع هنا الرحمن والشيطان أبدا ، بل يتراكم فعل الشيطان والشيطان . وتستفحل كارثة هذا التراكم حين يصبح الشيطان عاشقا !! /span>
وولا يمكن أن يضطلع أيٌّ منا بدور الجلاد دون أن يثير ذلك الشعور بالذنب في أعماقه ، وما يترتب عليه من محاسبة ضميرية مؤرقة . ليس يسيرا أن تصبح جلّادا . إنها طريق مكلفة خصوصا في مراحلها الأولى . ولكي يخفّف الطغاة من الإحساس بالإثم الذي ستنشأ في أعماق الجلادين الصغار ، فإن من المطلوب أن يصبح تعذيب الآخر "عملا" .. عملا عاديا يؤديه الفرد مثل الأعمال الأخرى فلا يثير شيئا في الذات . والأهم من ذلك هو أنه كلما توفر "مبرّر" لهذا العمل كلما صار أداء الجلاد أكثر اتقانا و "إخلاصا" .. كلما كان هناك إطار نظري يحيط بفعل التعذيب .. كلما شعر الجلاد بأنه إنما يقوم بفعله الوحشي من أجل " هدف " عادل ، كلما كان أكثر اندفاعا وحماسة في تدمير الآخر . ونواف يعتقد بقوة أن من يعذبهم هم أناس (ضالّون عن الطريق المستقيم .. ضالون عن الصراط ، فتزداد قناعته رسوخا عندما يسمع توسلاتهم بالتوبة أملا بالغفران . إن على الناس قاطبة أن تصدق أساليب رحمتنا ، كان دائما يقول :
- على الجميع أن يصدق ، قسرا إذا لزم الأمر ، أنهم يعيشون في جنة الرحمة السفلية التي وعد الله بها الصالحين . أنهم يجب أن يدفعوا الكثير ليستحقوا البقاء في هذه الجنة : جنتنا – ص 153) .
وخلاف ما يعتقده الكثيرون ، فإن الجلاد يصبح أكثر وحشية عندما يصبح مثقّفا !! فعن هذه السبيل سوف يمتلك الكثير من التخريجات النظرية التي تبرّر عمله . فوق ذلك أنه قد يخلق "نظرياته" الخاصة به . لقد قرأ نواف الكثير عن التاريخ واستخلص "نظرية " ، استخلص "حقيقة" جديدة عن علاقة الغاية بالوسيلة ، عن صلة النتائج بالأدوات التي تُستخدم لبلوغها ، وهي نظرية / حقيقة تشكل الإطار النظري لسلوكه الوحشي وتبرّره :
( إن الوسائل للوصول بالأشياء إلى ذروتها ستزول لتبقى النتائج وحدها في ذمة التاريخ المكتوب ، أما ما تبقى من مقدار الألم أو التضحيات سيمكث صامتا في تاريخ الوجدان الذي لا صوت له – ص 153 ) . /span>
ووهو في اجتراحه "نظريته" هذه ، والروائية من خلفه طبعا ، يضع اصبعه على منطقة ملتهبة لكن مغيّبة من التاريخ العراقي العجيب ، وهو "ضعف" الذاكرة الجمعية الذي يجعل هذا الشعب المازوخي يُلدغ من الجحر نفسه . يقول الضامن :
( نحن شعب لا ذاكرة . من يتذكر ماذا ؟ إنهم ينسون ! نحن برحمتنا ننسى خطايا المواطنين ونسامح أحيانا قدر الإمكان عصيانهم . تسهل الأمور أكثر حين تكون بلا ذاكرة . إنها دائما بداية جديدة – ص 153.
# الجلّاد الشاعر :
كان هتلر النازي فنّانا (رسّاما) مولعاً بالرسم ويكتب القصة أيضاً . أمّا (رامسفيلد) الأمريكي الوغد حارق بغداد فلديه مجموعة شعرية . والآن ... اقرأوا هذه الأبيات :
" متحولا إلى حشد إيماني الجديد أقدم لكم ما لم يعرضه أحد من قبل أقدم لكم عدم الرحمة والنبيذ الشخص الذي لا يجد الخبز سيتناول ضوء شمسي للناس لا شيءَ مُحرّم حسب يقيني
هناك هم يحبون ويشربون
ويتطلعون نحو الشمس حسبما تريد
وهذه الإلوهية لا تحرّم عليك شيئا
يا إخوتي .. أيها الحشد .. أطيعوا دعوتي " .
هل تعرفون لمنْ هذه الأبيات ؟ /span>
إإنها جزء من قصيدة طويلة للرئيس الصربي السفاح " رادافان كارادزيتش " الذي على يديه ذبح مئات الألوف من الرجال ( والكثير من الأحياء الذكور تم قطع أعضائهم التناسلية ) واغتصاب عشرات الألوف من النساء من المسلمين كنّ يُعدن عاريات مشياً إلى عوائلهن .. ورمي الأطفال المسلمين الرُضّع في خلّاطات الإسمنت أمام عيون أمهاتهم . هذا السفاح شاعر .. وفوق ذلك هناك ما هو أمر وأدهى .. فهو طبيب اختصاصي بالأمراض النفسية !! . وتطيح ذكرى بأنموذج نواف الضامن - والغالبية من الحالات العملية تسند ذلك - بأطروحة الشاعر المكسيكي " أوكتافيو باث " القائلة :
" إن رأس السياسي إذا خلا من الشعر تحول إلى طاغية " . /span>
صار الطاغية شاعرا .. بل يكتب شعرا جميلا !! .
وسلوك نواف فيه الكثير من الشاعرية . ها هو يقدم طلبا مكتوبا لسُبل : صاحبة العصمة كما يلقبها ، يلتمس فيه أن يقبّل يدها ، لكنها تقترح عليه أن يقبّل قدميها ، فوافق وبدأ بلثم أصابع قدميها إصبعا إصبعا بامتنان يشبه التقوى . تُعقب المُحللة :
( كان للمرة الأولى يستمتع بلا قيود بجذور ضعف لذيذ كان يخشى أن تمر السنون دون أن يلتذ بممارسته – ص 151 ) .
ولعل أكثر الأوصاف دقة التي استخدمتها ذكرى على لسان بطلتها سُبل لوصف شخصية نواف هو :
" طفل نزق يلهو بحبل مقصلة " .
وفي وصف دقيق آخر قالته سُبل لأختها مراثي قالت فيه :
(- كان يبدو كقاتلٍ في ثوب شاعر ، أو ربما شاعر بأصابع قاتل ، أكرهه ... مراثي كم أكرهه – ص 154 ) . ولكن ستثور هنا تساؤلات خطيرة هي : إذا كانت سبل تكره نواف الضامن ، فكيف تزوجته ؟ كيف ترتبط الضحية بجلادها برباط مصيري مثل الزواج ؟ هل تمارس سُبل "سلطتها" على نواف عبر جسدها الفاتن وجمالها الساحر بعد أن مارس نواف "سلطته" السياسية عليها ؟ هل كان سلوكها شكلاً مراوغاً ومنكّراً من أشكال تمرير حكمة الحكيمة السلطانة عاهرة بغداد ؟ ومن المؤكد أن المصائب الشخصية والعائلية التي أحاطت بسبل في تلك المرحلة - ومن كل جانب - كان لها دور في تليين إرادتها وفي قرارها العجيب . لقد قُتل عمّها الصفوان بسبب السياسة .. ومات زوج عمتها ( عبد الجليل ) وهو يهذي بأسماء رفاقه من واقعة القطار الشهيرة التي أرسلت فيها أعداد كبيرة من الشيوعيين بقطار ذي عربات مقفلة مليئة بالقار فأوشكوا أن يموتوا عطشا وجفافا .. أخوها الجهم مُعتقل بمصير معلق ومفتوح وبأمل إطلاق سراحه من قبل نواف .. أبٌ محطم مخصيّ عليه أن يدفع ديونا نفسية ثقيلة .. ابن عمتها عامر هارب ، وهو مطارد أيضا .. ثم سلسلة تجارب الحب التي تحطمت وكان أطرافها الأشخاص المقربين جدا منها : أختها مراثي هجرها عامر بعد أن خذلها عندما اصطادهما عمّها "عباس" متعانقين وتعرضت لضرب مبرح من أبيها .. أخوها الجهم في حبه العاصف لابنة عمّته "هانيا" والذي لا رجاء منه لأنّ أمها رفضت رفضا قاطعا هذا الحب المحكوم بالخسران .. هجرة عمتها "الوضّاءة" إلى بلدان الثلج والاغتراب .. هروب أختها "عميرة" التي غازلها عمها "عباس" جنسيا ثم قلب الأمر ضدها ، فهربت لتصبح مومس المدينة الأولى (الباشا) .. وانتحار أخيها (تغلب) بسبب هذا العار ... إلتحاق أخويها ، الوضاح والوليد ، بالخدمة العسكرية وبقاء البيت خاويا بلا رجال ( يقول المثل العامي : الرجل رحمة حتى لو كان فحمة !! ) ....
ثم ، وهذا هو الأهم ، تجربة حبّها الملتهبة التي انتهت بالفشل بعد سنوات من العلاقة الغرامية العجيبة .. تركها حبيبها فجأة فبقت تنتظره كل يوم إثنين لمدة ( ست ساعات وعشر دقائق ) . وقد اتبع ماركيز هذه الطريقة العددية في تأريخ قصة حب بطل روايته (الحب في زمن الكوليرا ) لحبيبته ( فرمينا داثا) . لقد هجرها حبيبها واختار يوم الأثنين – يوم انتظارها المنهك اللذيذ - موعدا لزواجه ، وكان سبب الهجران هو أن على العائلة شبهة سياسية أخطر من شبهة الدعارة . وقد ترافق هذا الهجران مع خيبة (هانيا) في علاقتها مع حبيبها الضابط . لقد قال لها أن الموافقة على زواجه منها لم تتم . تصوروا أن البلاد وصلت حدّا أن الحكومة هي التي تحدد زواجك !! :
(-إنهم يقولون .. إنكم .. أعني العائلة .. ليست .. أعني مشكوك في ولائها .. أتفهمين ؟ .. أخوك .. عمّك .. ليس العيب !! جاء الخبر كالصاعقة ليهشم تماسك "هانيا" النفسي والعقلي .. عادت إلى البيت وتمددت على ظهرها لتفض بكارتها بسبابتها ، غضبا وعصيانا ويأساً ، فهي لا يمكن أن تستوعب لماذا لا تحصل الموافقة على زواج ضابط من فتاة يعشقها وهي في منتهى الجمال والشرف ؟!
( تستعرض الإصبع المغمس بالدم تشهره بوجه "فضائل" الذاهلة : - ليس هناك رجل على هذه الأرض يستحق غشائي . إنه لك خذيه . بكتْ بلوم وقهر وحرقة وهي تتمتم : - لسنا إلا تهمة سياسية .. لا شيء سينقذنا .. لا شيء سينقذنا البتة حتى لو وقّع "مرتضى" تحت اسمه للمرة الألف – ص 194 ) . إنهم مشبوهون .. الأولاد والأحفاد مشبوهون بشبهة السياسة التي وصمت آباءهم وأجدادهم .. والأخوات مشبوهات بشبهة السياسة التي وصمت أخوانهن .. وهي فعلا – وهذا ما لمسته سُبل بوضوح – شبهة تماثل شبهة الدعارة .. بل تفوقها ضراوة وتدميرا . لقد عبّرت سُبل عن هذا الموقف الشائك بوعي عال عندما عادت من الاعتقال في إحدى المرات : ( - لا فائدة نحن متورطون رغما عنّا أكثر منهم . ألم أقل لك ذلك من قبل .. لا بُدّ لنا من دفع الضريبة ردّدت مرارا : نحن متورطون .. متورطون حتى الأعناق . كتبتْ مراثي بسبابة كفها اليمين على ضباب النافذة : لا مفرّ – ص 170 ) . وفعلا هي مصيدة مميتة هذه الورطة .. ولا أبلغ من وصف مراثي لها : لا مفرّ . فهل وجدت سُبل الخلاص ، بفعل كل تلك العوامل مجتمعة ، مع تكتيكات الجلاد المدروسة ، في الزواج من "نواف الضامن" وبصورة سرية ؟؟
هناك مقترب آخر للإجابة على هذا التساؤل ، المرير والمعقد ، وهو أن ندع سُبل نفسها تسرّنا بالإجابة ، وذلك عندما أُطلق سراح الجهم بتأثير نواف ، وجاء أخوها منفعلا ليسألها عن "عذريّتها" .. كان يخشى أن وساطة نواف ثمنها بكارة أخته فطمأنته خجلة :
( - بخير .. أنا وهي بخير ..
انتظر "الجهم" برهة قبل أن ينصرف . لم يكن يعرف أنها بعد أسابيع لا بأس بها ستمنح
راضيةً بكارتها لنواف الضامن وهي واقعة تحت تأثير مشاعر متضاربة لم يكن الإكراه
بينها . وأنها بدافع الفضول لمعرفة حكمة الجسد وقليلٍ من الامتنان لرجل الخلاص من
عذابٍ مُحتّم وبعض اليأس من أنها لن تتزوج برجلٍ ما ، ترنّ في رأسها أجراس كلمات
الرجل البائس الذي أحبّته :
- يُقال إن لكم انتماء سياسيا مختلفا . أتدرين ؟ قد يدفع المرء مستقبله ثمنا لارتباطه بكم ! أنت ورطة لأي رجل طموح !
مضاف إلى كل ذلك الاعتياد على ملمس أصابعه على جسدها ، وعلى سماع قصائده وترنيماته وتنهداته الحارة ، وإيمانها بصدق محبّته ، وأنه كما كان يقول - بعد أن صارت زيارته تشتد - يسترسل بساعات طويلة مختلسة في الليل والنهار – ص 187 ) .
تحليل خمسين رواية عربية نسوية :
رواية (قبل اكتمال القرن) ( قرن الخراب العراقي العظيم ) للمبدعة "ذكرى محمد نادر"
# رواية " ما بعد الحب " :
وهذه الرواية - كما قلتُ - هي رواية موت وخراب بامتياز ، لكنها رواية حب بامتياز أيضا . هي رواية ( ما بعد الحب ) . يا إلهي كم أنا ممتن للناقد الذي وصف قصة حب (جون هيثكليف) و(كاثرين إرينشو) في فيلم ( مرتفعات وذرنج) بأنها قصة ( ما بعد الحب ). ولكن كل تجارب الحب العظيمة – في الحياة وفي الفن - لا تأخذ مدياة عظمتها إلا حين يلقي شبح المُثكل ظلاله عليها . لا يتألق الحب إلا عندما يُهدّد . ولا تستغربنّ من النهايات البائسة التي نسمعها لعلاقات الحب العظيمة التي تتكلل بالزواج . لكن لتجسيد هذه العظمة عاملاً آخر يتعلق بمهارة المبدعة .. عظمة التجسيد اللغوي الرائع .. انتقاء المفردة المُميتة والصورة المذهلة التي تمزق الروح وتعصف بالعقل . تنتقي ذكرى مفردتها بخشوع ومهابة ، وترسم صورها بجلال . ذكرى تحب أبطالها ، وبطبيعة الحال هناك روائيون يكرهون أبطالهم ويعاملونهم بروح سادية . أبطال ذكرى قطعة من وجدانها وروحها . تفزع لفزعهم ، وتحزن أكثر من حزنهم . تشعر وأنت تقرأ ما تكتبه عن آلامهم أنها متألمة حتى أكثر منهم . وكأنثى ، كانت باهرة الكفاية في تشخيص ورسم انفعالات بطلاتها بدرجة أكبر . طبعا هذا لا ينفي قدرة المبدعين من الذكور على تجسيد عواطف المرأة وصراعاتها الداخلية عندما يكون الظل الأنثوي في شخصياتهم قوياً . خذ فلوبير في (مدام بوفاري) مثلا . لقد التحمت الخبرة الأنثوية والمقدرة السردية واللغة الشعرية والاحتدام النفسي والتعاطف مع الشخوص لتقدم رواية متخمة بالحب المميت . حب يًعبُر فيه كل فرد إلى موضع الفرد المحبوب .. يتلبّسه ويفنى فيه أناه منا يقول إبن الرومي . نوعٌ من الالتحام الصوفي برغم أن جميع الأشخاص – رجالا ونساء – بسطاء لا يعرفون غير أن يحبوا حتى الموت . وهذه البساطة هي التي تضفي روح التلقائية والصدق العنيف على هذه التجارب . إنهم يحبون وكأنهم سيموتون بعد ربع ساعة . وكأنهم إن لم يحبوا هذا الشخص فإن الكون والحياة لا معنى لهما . وكلما كان جرح الخيبة واسعا وداميا وباهضا ، كلما كانت الاندفاعة أعظم والإحساس بالإمتنان - لله والمحبوب - أكبر : - من تجربة حب مراثي : ( لاحظ "المُهلّب" أنها [ = مراثي ] برغم ازدهار وجهها وتألُق البريق الأسود في عينيها إلا أنها تذوي ، فحدس أنها عاشقة ولكنه لم يحدس بمن . وغرق في عذاب صمته وعدم جرأته على البوح . ولم يكن يعلم أن حبّه يطوّق دم "مراثي" المبتلى ، وأنها عندما جرحت إصبعها بسكين المطبخ في ظهيرة جمعة وجدت اسم أستاذها يتسق داميا على نصل السكين ، فعرفت منذ تلك الظهيرة أنه احتل كل مسارب دمها ، وأنها ستموت دون هواه ، فقالت لـ (سُبل) :
-لو أنهم فحصوا دمي سيجدون فئته باسم المهلب – ص 175 ) .
هل تحتاج هذه التجربة إلى شرح وتفسير . سيفسدها الناقد - حتما - لأنها من تجارب ( ما بعد الحب ) وهذه التجارب لا تُشرح بل يُشعر بها أو (تُتذوق) حسب المنهج الصوفي لمولانا جلال الدين الرومي .
( يبقى أن أشير إلى أن الذوق هو ، في ذروته العليا ، نوع من الحيرة ، ذلك أنه لا يُفسر . ولعل خير ما يفصح عن هذه الحيرة في التفسير نجده في رواية لابن عربي عن زليخا امرأة فرعون ، في علاقتها مع يوسف . تقول الرواية إن زليخا جُرحت مرة فسال دمها على الأرض . وسرعان ما تحول هذا الدم إلى كتابة . ولم تكن هذه الكتابة إلا تكرارا لاسم يوسف ، وللحروف التي يتكون منها . والسر في ذلك ، كما يقول ابن عربي ، هو أن زليخا كانت تحب يوسف إلى درجة أن اسمه كان يجري في عروقها مجرى الدم) (أدونيس : الكتاب الخطاب الحجاب ) .
- من تجربة حب مراثي أيضا : لقد تزوجت مراثي أستاذها الحبيب بعد تجربة حب فاشلة مع ابن عمتها فضائل : (عامر) . اعتقدتْ أنها قد نسيته وسقط في مجاهل ذاكرتها . لكن في ليلة زفافها تعرّت لعريسها "مهلب" فاتسعت حدقتا عينيه وهو ينظر إلى جسدها وقال : -هذا فوق احتمالي ثم سقط فاقدا الوعي : ( كانت تنظر إلى جسده المطروح على السجادة القرمزية بعين نصف مفتوحة . بلحظات ما قبل افتضاح الفجر هجست على نحو مفاجيء بوجه عامر يقفز إلى ذاكرتها . وجه زائغ النظر يائس الأمل . استغربت أن يحضرها طيفه وهي في غرفة عرسها . كان وجهه يلح في وميضٍ خاطف مرتجفٍ كأنه واقع تحت بريق سماوي مقدّر له الحدوث . وعيناه الواسعتان تستغيثان بصوت يائس لا يُسمع . لو كانت لديها القدرة - كما لدى "الوضّاءة" - لعرفت أنه في تلك الليلة بالذات تسلق إليها بمحاولة مشلولة ستكلفه حياته ... وحدها "الوضّاءة" البعيدة هجستْ - وهي تحلم صاحيةً - أن الطريق قد انقطع بعامر ، فأرسلت مواساتها على نبض تلغراف قلبها إلى أختها فضائل - التي لن تحزر أبدا ، أنّهم - الآن توا - قد أخذوا منها ولدها إلى الأبد . وحدها سُبل عرفت أن عامر قد اقتُلع للمرة الأخيرة . رأت كيف أنه لم يقاوم . لم يهرب كأنه متعب من قدر أنهكه . سمعته يصيح : أخبريها أنها الوحيدة . أخبريها أنني تقصّدتُ بأن أبعدها عني لما قد أسببه لها من ألم .. أمران اخترت بهما حتفي : حبّها والحزب – ص 180 و181 ) .
- من تجربة حب فضائل : أحبّ "عبد الجليل الجراخ" فضائلَ ، وتزوجها ، لكنه وقع في حب أختها "الوضاءة" التي تزوجت من محامٍ وسافرت معه إلى الخارج . ظلّ عاشقا لها حتى الموت . في لحظات احتضاره تزاوج الروائية بين تداعيات الموت والحياة .. الذكرى السوداء لقطار الموت الذي نقل عبد الجليل ورفاقه الشيوعيين في عملية إعدام مُبيّتة في عربات مُقفلة ومليئة بالقار ، وبين حبّه القاتل للوضاءة :
( أشدّ ما عذّب موته الخشن تلك الرحلة اللعينة التي لن يكررها التاريخ مرة أخرى ، وحبّه القاتل . كان يروي - بصعوبة - كيف ضاق بهم الصفيح السميك الملتهب بنيران الشمس الصحراوية ليتُركوا هناك للعطش المتعمد ، ينشبون أظفارهم بمفاصل العدو الحديدي الساخن الأخرس . يتبولون القطرات القليلة المتجمعة في مثاناتهم بحرص مأساوي ليتناوبوا شربها لاعقين حبات العرق المالحة فتكوي شفاههم المتشققة اليابسة ملوحتها – ص 133 ) .
هذه هي السياسة في العراق .. هكذا تلاحق الصور المفزعة ضحاياها حتى وهم على فراش الموت . وعبد الجليل يهذي كالمحموم وهو يصرخ :
- سيأتون ..
ستلحقه أشباح الطغاة والجلادين حتى بعد موته !!
ومع تقطّع أنفاسه الأخيرة طلب كاساً من الخمرة وسيجارة .. ثم طلب أعز ما في حياته .. طلبه من زوجته التي كانت تضم رأسه إلى صدرها . وهذا مشهدٌ آخر من مشاهد ملحمة (ما بعد الحب) يفسده تفسير الناقد اللعين :
( كان يبحث في الوجوه لاهثا ، يدور في عينيه سؤال خارق ، سؤال وحيد مؤلم ، معادل للحياة ذاتها ، ولا يجسر على البوح به حتى وهو على حافة الموت . كان صدره يتشنج بالحسرة ، وبخار تنفسه المضطرب مُثقل بالأشواق المخنوقة . كشفت "فضائل" عن أكثر رغباته صدقا وحرارة . تجردت من كبريائها وقدّمت إليه في اللحظة الأخيرة قربان المرارة لآلهة قاسية ، فمسحت الغبار عن الصورة الوحيدة لـ "الوضاءة" تلمع عيناها الواسعتان بابتسامة نبوءتها . حدّق في عيني غرامه الجبار ، ومن أعماقه الخربة تسربت الأنة الأخيرة لقلبه ، ويداه تضغطان بعرفان كبير يدى فضائل . استعاد - بومضة هاربة قبل موته بلحظات - ماضيه السري لذيذ الألم ، فانهمرت عليه أمطار لوعته حتى أغرقته في فضاءٍ أبيضَ رحبٍ وبعيد . اقترب مرتضى من أخته :
- أهناك ما يمكن عمله ؟
أسدلت فضائل الجفنين فوق عيني عبد الجليل ، وقد انطبعت في مائهما المنحسر صورة "الوضاءة" راسخة كبصمة أبدية . هزّت فضائل رأسها بالنفي ، وهي تمسح دموع هزيمتها . عندما حضر الطبيب المتأخر شخص سبب الوفاة : سرطان الرئة .. وحدها فضائل كانت تعرف - بشكل قاطع مرير - أنه مات بسبب : لوعة الحب . كانت تعرف أنه حتى لحظة موته الأخيرة ، عندما ارتخت دقات قلبه وتوقفت عن الحياة ، لم يتوقف حبه للوضاءة على الإطلاق . في فراش وحدتها الجديد بكت سنواتها المهزومة بحبّ ثابرت على حمله بين جوانحها النحيلة . حب خذلها حتى النهاية – ص 136 و137 ) .
تصوّر امرأةً تعيش مع رجلٍ لأكثر من عقدين .. رجل تزوجته لأنها تحبه وهي تعلم أنه حتى موته يحب شقيقتها !! وتحرص على تنفيذ رغبة الموت الأخيرة ، فتجلب له صورة (غريمتها) لينطبع طيفها في ماء عينيه بعد رحيله !! أيّ بشر هؤلاء ؟! بل قل أيّ نساء ؟! الأنثى هي عماد الكون وأم الحياة وأسها .. أمّا الرجال فزيادة أو استطالة ..
- من تجربة حب الضرير : و"الضرير" هو عازف الربابة المخلص لقائده الراحل الرضواني ( الملّا ) الذي فقد بصره بفعل الشيخوخة . كان هذا مُلتماً على ذاته ، صموتا ، حانيا على تجربة حبٍ دامت أكثر من خمسين عاما لزوجة قائده (الشمرية) !! :
( تذكرت سُبل بتحفز شديد الشيخ الضرير عندما سُئل عن غرامه ، كيف جفل وهب يزحف إلى بئر عتمته خائفا عبرةً أفلتت منه عنوة في ظلمة الدهليز ، فلم يُفلح في إبقائها في صدره . عندما استقبلته الرطوبة اللذيذة أطلق - للمرة الأولى - مُرّ بكائه الملتاع في حبه الطويل المذبوح على صخرة الوفاء ، وصاح من عمق فؤاده - وهو يعتصر رأس عصا الملا بقوة - ونطق قلبه للمرة الأولى والأخيرة :
- آه .. آه .. يا شمّرية .. يا ثمرة القلب .. قال بصوت سمعته سُبل الزاحفة إلى سرّه العميق ، يحمل نذير حكمة قاسية ، يخاطب موتى الدهليز : - نحن أكثر موتاكم .. إنكم في القلب أحياء أكثر منا !! تجرّأ للمرة الوحيدة أن يبكي غرامه المستحيل للمرأة العنود ، واستعاد وميض عينيها .. سمعته سُبل يعاتبها : - آخ .. لو أنك يا "شمرية" ذكرتني لمرة وحيدة – ص 149 و150 ) .
- من تجربة حب سُبل : تزوجت سُبل من نواف الضامن بعد تجربة حب فاشلة ، لكن عنيفة ، استمرت ثلاث سنوات تخلى في نهايتها حبيبها عنها بسبب ( الشبهة السياسية ) ؛ هجرها بصورة مفاجئة دون أن ينذرها فظلت تنتظره لستة اشهر ، كل يوم اثنين ، انتظارا ممضا خمس ساعات وعشر دقائق . لكن بعد أن أجهضها نوّاف ، وضربته بالحذاء ( لا تستغربوا فقد نشرت مذكرات عن عشيقات لهتلر كان يتذلل لهن ويطلب منهن أن يضربنه – راجع كتاب إريك فروم : تشريح التدميرية البشرية ) . قابلت حبيب الأمس الغادر مصادفة :
( تساءلت ، حالما سمعت صوت اصطفاق الباب ، عن عدد السنوات التي مضت دون أن تراه . بسرعة استعاد نشاطَ دأبِه المحموم في الإنضمام إلى المنعطف الوحيد . حدست سُبل أنها لو تحدثت معه لثانية واحدة ، لانهارت حصانتها . كان كل ليلة ، حتى يتساقط حفيف الساعة الثانية عشرة ، يقف وحيدا . وحين يغادر ، تراقبه سُبل من خلف ستارة نافذتها . يتسلل إليها الأرق ، يتقلب بين جفنيها ، ينبئها أنّ خريفا آخر قد حلّ فتسمع همس الأوراق الذهبية المقتولة في حوش الدار ، فتتفتح في صدرها نجوى احتراق امرأةٍ تكابر على وجعها . كان برد الخريف قد تسلق الهواء ، فلسع وجهها عندما فتحت الباب لتواجهه . استعد في وقفته مختلسا ابتسامة بائسة . كان قلبها ينزف دقاته بعجالة وخفة :
آه يا حبي المغفل !
شيطانٌ صغير كان يلهو في ضميرها حاثا إياها لارتكاب بعض الحماقات . أمام المرآة ، وهي تطالع وجهها ، حرّضت نفسها مجددا :
إن بعض الحماقات ضرورية لجعل احتمال الحياة ممكنا ! – ص 208 و209 ) .
# المشهدية البليغة :
--------------------- وتتجلى براعة "ذكرى" في مناحٍ كثيرة تجلّ على الوصف والتأطير النقدي الذي قد يبدو باختصاره متعسفا ومجحفا في حق هذه الرواية العظيمة . على سبيل المثال ، لا الحصر ، هناك قضايا كبرى تلخصها الروائية في مشهدٍ على القاريء ان يتفحص ممكناته الدلالية ، ويستخرجها بمعرفيته المختزنة وباستجابة محددة وليست سائبة ومفتوحة حسب أطروحة ( استجابة القاريء ) الحداثية . القاريء لن يموت مثلما أن المؤلف لن يموت أيضا . هذه أطروحات فقاعية الطابع .. انفجرت ولفت انفجارها الإنتباه ثم تلاشت . ولعل الشعور بالتبعية المعرفية والدونية النقدية هما السبب في تمسك بعض النقاد العرب بها بعد أن غادرها أصحابها الأصليون . البعض مازال يبحث بروح مازوخية كريهة في سلة نفايات النقد الغربي . والقاريء العراقي تحديدا سيسهل عليه فهم الأبعاد الواسعة والمضامين العميقة لتلك المشاهد التي تبدو موجزة ضمن سياق الرواية الطويل (247 صفحة) . لكن بالرغم من الإيجاز ، وهو في حقيقته تكثيفٌ بليغ جعل الرواية بهذا الحجم ، وكان من الممكن أن تمتد لمئات الصفحات الإضافية ، يستطيع المتلقي العراقي المُمتحن بقرون من البلاء الذي لا مفر منه ( هذا ما كتبته مراثي : لا مفر ) أن يدرك حتى الإشارات السريعة التي تطلقها الكاتبة ضمن سياقات سريعة وقد تكون غير مألوفة . رُزق "الرضواني" بإبنة لديها قدرات تنبؤية هي ( الوضّاءة ) .. كانت تشعر بما سيحصل من كوارث ستمزق وجود العائلة الكبيرة قبل وقوعها . استشعرت بدهم زوّار الفجر البيتَ بحثا عن مرتضى والصفوان .. كانت تتململ وتغرق عرقا منفعلة بما هو آت . أغلب مصائب العائلة كانت (تستشعرها) قبل وقوعها ، وتحذّر أهلها من قرب حصول ضرباتها المدمرة . حتى بعد أن تزوجت للخلاص ، وسافرت إلى الغرب ، استشعرت - هناك - بواقعة اعتقال "عامر" ابن اختها "فضائل" وغيابه أو تغييبه إلى الأبد . أرسلت رسالتها على نبض تلغراف قلبها كما تقول الكاتبة . لكنني أعتقد أن معاني زواج الوضّاءة وهجرتها أوسع من هذه الدلالات . هذه البلاد التي هي موطن الجريمة الأولى في التاريخ .. والتي تتكرر فيها وقائع هذه الجريمة تفصيليا كل يوم لا كرامة لـ (نبي) فيها . بلاد لا تتعض من تجاربها الأكثر دموية في التاريخ .. وحتى في مراحل ما قبل التاريخ .
لنسأل : ما هي الغاية من وجود "الوضّاءة" المتنبئة في بلاد لا يتعض أهلها بأي نبوءة ؟؟ وحتى في ثيمة إقبال "عبد الجليل" على فضائل - أخت الوضّاءة - وارتباطه بها وزواجه منها ، ثم شعوره بحبه المميت للوضاءة دلالة عميقة ؛ فالفرد العراقي لا يعرف الإختيار ؛ إنه يقوم باختيار (إرادي) لموضوع حب وهو ، من دون أن يعلم ، يخطط لاشعوريا لتدمير حياته من خلال اختيار موضوع آخر مُضمر . هذه سمة سادومازوخية مدمرة من سمات شخصية الفرد المواطن العراقي . إنها سمة خلّفت دمارا شاملا على المستوى السياسي خصوصا ، وهذا الخراب السياسي كان مفتاح الخراب الشامل على الصعد كافّة . يشرح "السجّاد" الكيفية التي ألقى بها القبض على السجينين الهاربين وهو يبتلع ملاعق الرز بلهفة مع عبارات تفاخر أمه العوراء بظَفَر ابنها :
( كانا يرتديان أسمالا لا لون لها ، واستطال شعر ذقنيهما حتى البطن ممتزجا بشعر رأسيهما ، واعوجّت من استطالتها أظافر يديهما . حُفاةٌ التصق جلدهم بالعظم حتى يظن المرء أنهما خرجا توا من قبر ما ... الآخر لم يظهر من وجهه إلا عينان واسعتان عسليتان أرعبني حتى الموت عندما مدّ يده إلي . لقد حاول لمس وجهي – ص 200 ) .
# مشهد بليغ آخر
:
تُمعن "ذكرى محمّد نادر" في تصوير تأثيرات الطغيان من خلال مشاهد سريعة وموجزة ،
لكنها شاسعة الإرسال لشفرات سريعة مدمرة : ما الذي يفعله الطغيان والدكتاتورية
بالإنسان ؟ حول هذه التأثيرات كتب دينو بوزاتي وميلان كونديرا ونجيب محفوظ وغيرهم .
في العراق قد تكون هذه أهم وأوسع رواية تتناول هذه التأثيرات بمثل هذه الرؤية
الشاملة والفنّية العالية . لاحقنا ما فعله الجلاد "نواف" بسُبل وكيف خرّب حياتها
وحياة عائلتها . لكن زواج نواف من سُبل أدخل جرثومة الطغيان (الشعرية) في جسد
العائلة فأخلّ بقيمها وأشاع في صلاتها الاضطراب . قال له الشيخ الضرير وهو الشاهد
المُبصر في الواقع : أنت المستفيد من كل ما يجري من خراب . فنهره نوّاف وأيده
"عباس" ابن الأم الزنجية مُهدّدا بإلقائه في الشارع . بدأت الأمهات : ( القادرية
زوجة الشهيد الصفوان ، والعوراء زوجة مرتضى ) يقدمن أبناءهن لنواف ، كي يرعاهم
ويقوم بتربيتهم وفق (أصوله) ، ويجعل لهم متكأ في السلطة . رعى أولا (السجّاد) ابن
العوراء ، وهو في الواقع ابن مرتضى الذي رتّب نوّاف اغتياله . فما الذي أنجبته
(الأم) الطاغية حين أرضعت هذا الولد من ثديها المسموم ؟
لقد جاء - ذات يوم - إلى البيت ليتناول طعام الغداء ويسرد على الجالسين كيف انهم
بُلّغوا بالبحث عن مُعتقلَين سياسِيّيْن هارِبَيْن . سألته فضائل الأم عن مواصفات
السجينين اللذين ألقى القبض عليهما وحظى بالتكريم من أجل ذلك ، فقال - وهو يبتلع
ملاعق الرز بلهفة :
( كانا يرتديان أسمالا لا
لون لها ، واستطال شعر ذقنيهما حتى البطن ممتزجا بشعر رأسيهما ، واعوجّت من
استطالتها أظافر يديهما ، حفاةٌ التصق جلدهم بالعظم حتى يظن المرء أنهما خرجا توا
من قبر ما .. سهم "سجّاد" متطلعا في الجدار قبالته تُعلّق عليه صورةٌ مبتسمةٌ لـ
"عامر" قبل أن يكمل :
- الآخر ، لم يظهر من وجهه إلا عينان واسعتان عسليتان أرعبني حتى الموت عندما مد
يده إلي . لقد حاول لمس وجهي . كان ينظر إليّ وكأنه يعرفني .. رفع "سجّاد" كأس
الماء ليشرب حتى استقرت عيناه على صورة "عامر" يبتسم فيها بقدر يجهله . جمد الماء
في حلقه . لحظتها أدركت فضائل ( أم عامر ) أن قَدَرَها - بصلفه المتعالي - مازال
يحتفظ بوجيعة ما أمسكت قلبها واستغاثت بولده – لاحظ توظيف اللغة العامية العظيم
التأثير - :
- يمّه عامر اسم الله عليك – ص 199 و200 ) .
ما الذي ستنفع معه الحكمة الجريحة والمستغيثة التي أطلقتها "فضائل" :
ليس من ضلع الرضوانية من يُبعد الأبناء عن أحضان الأمهات – ص 200)
لقد دخل الجلاد - بفعل وتبريرات سُبل المحطمة الرحم الأمومي العائلي وخصبه بسمومه فلن يلد بعد الآن إلا سفاحا . لقد اعتَقل "سجاد" (أخاه – ابن عمته ) بفخر ، وسلمه لآلة الطغيان كي تسحقه . لم يفته أن ينظر إلى صورة عامر معلقة على الجدار وهو يأكل فيلحظ الشبه .
اسمعوا الآن حادثة حقيقية من عيادتي النفسية : كنت أستقبل في عيادتي عددا من السجناء السياسيين السابقين الذين تحطموا نفسيا ، وصارت حاجتهم للعلاج ضرورية جدا . تحصل رغبتهم في العادة بضغط من زوجاتهم الصابرات العظيمات ، وإلا فإن للطب النفسي (وصمة – stigma ) لا يمكن تحمّلها في مجتمعاتنا خصوصا حين يصيب الاضطراب النفسي شخصا يعد أنموذجا في الكفاح والتصدي . كنت بعد الفحص أتلاطف مع المريض السجين السياسي السابق فأسأله : هل ضحكت مرة وأنت في المعتقل ؟ وهل بكيت مرة ؟ وما هو السبب ؟
لديّ سجلٌ كامل بحوادث لا
تصدق منها هذه الحادثة :
قال لي ( آ . س ) ، وهو مهندس وشقيقه من شيوخ عشيرة شمّر ، اعتُقلت في كركوك
وأخذوني إلى مديرية أمن كركوك ، وعُذبت تعذيبا شديدا .. ثم ألقوني في (القاووش) مع
سجناء كثيرين كان من بينهم شاب اعتُقل لأن أخاه اتُهم برمي قنبلة على مقر المخابرات
، واختفى في سجون بغداد منذ أكثر من سنة . بسبب كبر سني وموقعي العشائري "أنعم" علي
السجانون بأن أكون مسؤولا عن السجناء . ذات ليلة فُتح باب القاعة الحديدي ، وأُلقي
شخص شبه ميت .. بلحية طويلة تصل ركبتيه ورائحة قذارة مُنفرة . قالوا أنه من سراديب
بغداد . كان لدينا تحذير من الاتصال بأي سجين جديد . جاءني الشاب التركماني وقال لي
:
أستاذ .. هذا السجين من سراديب بغداد .. هل أستطيع أن أسأله عن أخي المحتجز هناك منذ سنة ؟
فقلت له :
إسأله في الليل ، وكن حذرا .
وفي الليل ، ارتفع صوت بكائه الوحشي . ذهب الشاب التركماني ليسأل سجين بغداد عن أخيه .. فوجد أنه هو أخوه ، ولكن كل منهما لا يعرف الآخر . لقد غيّر القهر والطغيان والتعذيب حتى ملامحهما ، فأصبح الأخ لا يعرف أخاه . لقد فرّق الطغيان أبناء الرضوانية عن أمهاتهم .. ومزّق شمل العائلة العراقية !!