في الثقافة

محمد فريد الرياحي

[email protected]

الثقافة ما هي؟ هذا سؤال لا جدوى من إثارته. هكذا يقول من رضي ويرضى بالثبات في الفكر والفكر في الثبات، اعتقادا منه بأن الحقائق في مجال ما هو إنساني قارة مستقرة، موسومة بسمة الهدوء النفسي، والاطمئنان الروحي. غير أن هذه الرؤيا ، وإن استيقنت ذاتها في الرؤية المشتملة على الفضاء الفكري والإبداعي، لا تقوم للتحول الذي يلازم هذا الفضاء من جهة، ويوجه الثقافة الوجهة التي يريدها من الجهة الأخرى.

إن الفضاء الفكري والإبداعي لا يتحقق إلا في التحول، وإن الثقافة لا يتموضع وجودها، ولا يتموقف إلا بالتحول. ومن هنا يكون لزاما تحديد مفهوم هذه الثقافة في ذلك الفضاء المشدود إلى الزمان والمكان.كيف يجتمع التحديد والتحول؟ كيف ترتبط الثقافة بفضاء فكري وإبداعي مشدود إلى الزمان والمكان؟ هذا إشكال مؤداه أن لا تناسق بين التحول والتحديد والشد. إن التحديد معناه إعطاء الثقافة معنى واحدا قارا مستقرا، من بعد معرفة لحقائقها، ودقائقها التي هي أيضا موصوفة بصفة الثبات والقرار والإقرار. وإن فعل الشد معناه أن المكان والزمان لا يتغيران ولا يتحولان. ومن هنا فالثقافة واحدة، توجد لتبقى في وجودها من غير أن تكون عندها ولديها القدرة على إيجاد الأنساق الجديدة. وإن بقاءها في وجودها، ووجودها في بقائها، يمكنها من أن تلتف حول ذاتها، لتعلق بكينونتها في عشق وبعشق صوفيين، يريدان اتصالا وتواصلا في الثبات. إن الثقافة من هذا المنظور، إذن، ثابتة قارة مستقرة في مفهومها وبمفهومها، فلا مجال للبحث عن حقيقتها فيها، أو في غيرها من بعد أن اتضحت هذه الحقيقة، وأصبحت معلومة بالضرورة. وإن مثل هذا البحث، إن كان، يثير قلقا فيما هو مؤصل تأصيلي، فيقلب الموازين، ويحول المقاييس، وهذا أمر لا يخدم الثبات في الفكر والفكر في الثبات بحال. ما هو هذا المفهوم للثقافة الذي ينظر إليه من هذه الزاوية الفكرية والعقدية؟إنه مفهوم الأمة المتماسكة المتجذرة في ميراثها وتراثها بالطريقة التي تخلق لديها نوعا من الفخر والافتخار في المجال الثقافي والحضاري. هل يحقق هذا المفهوم الثابت للثقافة جوا من التحويل والتحول؟ إن هذا التحول وذلك التحويل في الإمكان من القدرة الفاعلة المبدعة، بل إن أصلهما في الثبات الجوهري الذي في روحه فكر الإبداع، وإبداع الفكر.وبهذه الطريقة يتحقق التحول باعتباره موقفا وموقفة للإنسان وبالإنسان في التاريخ الشاهد عليه، والمشهود منه.

ليست الثقافة، إذن، موصولة بالثبات الذي لا يحمل في ذاته ما به وفيه تجد الحياة سيرورتها وصيرورتها الطبيعيتين. وليست تحولا لا يستند إلى ثبات مبدع فاعل فعال، ولكنها الحقيقة السلوكية التي يتحقق وجودها في الجدلية التاريخية. إن الثقافة ،بهذا المفهوم، حسم للصراع المفتعل بين الثبات والتحول. إنه لا ثبات وبس، ولا تحول وبس، ولكن هما معا في المعترك الوجودي وعنهما تصدر الثقافة في أجلى صورها، موسومة معلومة بما تحمل من خصائص القديم والجديد. ولقد تنبه المبدعون في الحقيقة التاريخية إلى أن الثقافة هي الدفقة الدافقة التي من كيانها يخرج وهج الحياة.إن الهوية والكينونة والإنية والإبداع للإنسان ومن الإنسان وبالإنسان.وإن الثقافة هي الأصل الأصيل لحقيقة هذا الإنسان حين يعقل وحين يشعر، وحين يمنطق الأشياء  وحين يحلم بالعوالم، وحين يفعل ويُفعّل، وحين يموضع العلاقات، وحين يموقف التفاعلات، وحين يكون إنسانا واعيا لذاته في الزمان والمكان،غير أن الثقافة ليست واحدة، بل ليست مطلقة في المعقول والموجود الإنسانيين.وما يقال عن الثقافة الإنسانية الواحدة المطلقة، حديث خرافة.ولو كانت هذه الثقافة بهذه الميزة، لانتفت الصراعات الإنسانية، وتراجعت الخلافات البشرية، وكان الناس أمة واحدة في الشعور والاتجاه، وفي الكيان والهوية، ولكن الثقافة بما هي إبداع في الثبات   تنزع نزعتها إلى التنوع والتعدد اللذين بهما تقوم الحياة، ويقوم الوجود، وفيهما تستقيم الحقيقة الإنسانية. إن هذه الحقيقة في الأصل من جوهرها، والجوهر من أصلها، لا تجد فاعليتها إلا في الخلاف والاختلاف. وإذا كانت الجماعة الواحدة تحسم الإشكال من وجودها وفي وجودها بأن تفعل بل تفعّل العلاقة المبدعة  بين القديم والجديد، فإنها لا تستطيع فعل العلاقة ذاتها بينها وبين جماعة أخرى

في مجال ما هو ثقافي، فإن كانت هناك علاقة فهي من قبيل الطلاء البراق.

الجماعة قديم وجديد. وهي في وجودها إزاء جماعة أخرى، إما تجذر في ذلك القديم ، وتجذير لهذا الجديد، وإما قديم وبس، أو جديد  وبس. ومعنى هذا الذي نسوقه، أن الجماعة هي، أولا، ما تريده هي من سلوك تسلكه في وجودها، وهي، ثانيا، ما تريده لها الجماعات الأخرى في أحكامها وفي التصورات التي تحقق هذه الأحكام.وفي هذا النوع من العلاقة بين الجماعة والجماعة، يكون الحوار أو لا يكون.