أبو فراس الحمدانى .. ثورة الحُب

" ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ " هكذا وصف حاله ، وقال عنه الصاحب بن عباد: بُدِئَ الشعر بملك، وختم بملك؛ يعني: امرَأَ القيسِ وأبا فراس .

أبو فراس الحمداني الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي الوائلي 320 - 357 هـ / 932 - 968 م) أحد كبار شعراء العربية قاطبة والعصر العباسي تحديدا  ، الفارس الأمير الشاعر الأسير .. غادر الدنيا عن 37 عاما ، ورغم رحيله المبكر ترك العديد من القصائد التى تسجل انفعالات الروح فى شتى حالاتها ، لتشهد على نُبل وابداع قلما  يجود به الزمان .

لم يخرج الشاعر الأمير عن أغراض الشعر الرئيسية ، لكن تجربته العاطفية  شكّلت حالة وجدانية فريدة لما بها من حرارة وصدق ، واشتعلت تلك الحالة الوجدانية بوقوع أبى فراس فى الأسر ، ليُعاني مرارة السجن والابتعاد عن الأهل والديار حتى بلغ به الحال أن يُناجى حمامة استمع لصوتها وهديلها وهو فى زنزانته الكائنة بالقُسطنطينية فراح يبثها أحزانه ويشكو لها ما ألم به  :

أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَة ٌ *** أيا جارتا هل تشعرين بحالي ؟

معاذَ الهوى ‍! ماذقتُ طارقة َ النوى ***  وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ

أتحملُ محزونَ الفؤادِ قوادمٌ  *** على غصنٍ نائي المسافة ِ عالِ ؟

أيا جارتا  ما أنصفَ الدهرُ بيننا ‍***  تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الهُمُومَ، تَعَالِي!

تَعَالَيْ تَرَيْ رُوحاً لَدَيّ ضَعِيفَة ً***  تَرَدّدُ في جِسْمٍ يُعَذّبُ بَالي

أيَضْحَكُ مأسُورٌ، وَتَبكي طَلِيقَة ٌ *** ويسكتُ محزونٌ ، ويندبُ سالِ ؟

لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلة ً***  وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَالِ!

وبالنظر لأشهر قصائده على الإطلاق " أراك عصي الدمع " نرى شاعرنا وقد أحدث انقلابا ، فخرج عن التقليد بالوقوف على الأطلال والافتتاح بالغزل والنسيب ، ليفتتح القصيدة بسؤال يوجهه لنفسه ثم يرد وتتابع الأبيات تترى شارحة حاله وخلجات نفسه ، ويبوح بما لا يستطيع البوح به ، لتشكل قصيدته ثورة الحُب على النفس

أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ *** أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟

بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعة ٌ *** ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ !

إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى*** وأذللتُ دمعاً منْ خلائقهُ الكبرُ

تَكادُ تُضِيءُ النّارُ بينَ جَوَانِحِي *** إذا هيَ أذْكَتْهَا الصّبَابَة ُ والفِكْرُ

وإن جاز لنا التعبير ، فإن أبا فراس يمزج بين الرومانتيكية والتراجيديا ، فهو يتحدث عن حُبه ولوعته  ثم يذكر مأساته المتمثلة فى غدر الحبيبة به .. وهنا يجب أن ننوه إلى أن بعض النقاد استشف من الأبيات أن أبا فراس يقصد الوطن ويرمز للحرية ، خاصة مع مماطلة سيف الدولة فى فدائه واطلاق سراحه ..  لكنى أُرجح أنه يقصد حبيبته ، لوضوح الكلمات والعبارات التى تصوّر الموقف

وَحَارَبْتُ قَوْمي في هَوَاكِ، وإنّهُمْ *** وإيايَ ، لولا حبكِ ، الماءُ والخمرُ

فإنْ كانَ ما قالَ الوشاة ُ ولمْ يكنْ ***  فَقَد يَهدِمُ الإيمانُ مَا شَيّدَ الكُفرُ

وفيتُ ، وفي بعضِ الوفاءِ مذلة ٌ *** لآنسة ٍ في الحي شيمتها الغدرُ

ونلحظ اختيار الشاعر للألفاظ الرفافة الموحية فيما يُشبه التصوير الروائي كما فى قصيدته " كيف السبيل " موضحا فلسفته فى الحُب :

كَيْفَ السّبِيلُ إلى طَيْفٍ يُزَاوِرُهُ *** والنّوْمُ، في جُملَة ِ الأحبابِ، هاجرُهُ؟

الحبُّ آمرهُ ، والصونُ زاجرهُ ***  وَالصَّبْرُ أوّلُ مَا تَأتي أوَاخِرُهُ

أنَا الّذي إنْ صَبَا أوْ شَفّهُ غَزَلٌ *** فللعفافِ   وللتقوى مآزرهُ

وأشْرَفُ النّاسِ أهْلُ الحُبّ منزِلَة ً ***  وَأشرَفُ الحُبّ مَا عَفّتْ سَرَائِرُهُ

وعلى هذا الخط  ، تتجلى فى نفس أبى فراس رجع مواجد الشوق ، التى هى نهدات قلبه المُعذَب وحُبه الثائر، مسترجعا الماضي فى مشهد سينمائي  :

إنَّ الحبيبَ الذي هامَ الفؤادُ بهِ ***  يَنَامُ عَن طُولِ لَيلٍ، أنتَ ساهرُهُ

ما أنسَ لا أنسَ  يومَ البينِ  *** موقفنا والشّوْقُ يَنهَى البُكَى عنّي وَيأمُرُهُ

و قولها  ودموعُ العينِ واكفة ٌ *** هَذَا الفِرَاقُ الّذِي كُنّا نُحَاذِرُهُ

هلْ أنتِ  يا رفقة َ العشاقِ  ***  مخبرتي عنِ الخليطِ الذي زمتْ أباعرهُ ؟

وَهَلْ رَأيتِ، أمَامَ الحَيّ، جَارِيَة ً *** كالجُؤذَرِ الفَرْدِ، تَقفُوهُ جآذِرُهُ؟

و أنتَ ، يا راكباً  يزجي مطيتهُ *** يَسْتَطْرِقُ الحَيَّ لَيْلاً، أوْ يَباكِرُهُ

ويرسم أبو فراس بريشته البديعة ملامح الصراع الداخلى الذى يؤرقه ويضاعف همه :

وَإنّي لأنْوِي هَجْرَهُ فَيَرُدّني هوى ***  بينَ أثناءِ الضلوعِ، دفينُ

فيغلظُ قلبي ، ساعة ً ثمَّ ينثني *** وأقسوْ عليهِ ، تارة ً ، ويلينُ

خمس سنوات فى الأسر ، وحبيبة طبعها الغدر .. بينهما أشعار تُشكل سيمفونية وجدانية ، وتأتى المفارقة .. أبو فراس ينجو من الأسر .. ثم يقع فى شراك الغدر .. ! وهذه المرة يغدر به ابن أخته - ابن سيف الدولة -  ويقتله .. فيرثي نفسه قبل  لقاء الموت موجها صرخته لابنته الصغيرة فى شموخ وإباء :

 أبنيتي ، لا تحزني ‍ *** كلُّ الأنامِ إلى ذهابِ

أبنيتي ، صبراً جميـ *** ـلاً للجَليلِ مِنَ المُصَاب!

نُوحِي عَلَيّ بِحَسْرَة ٍ***  من خَلفِ سترِك وَالحجابِ

قُولي إذَا نَادَيْتِني، و ***  عييتِ عنْ ردِّ الجوابِ :

زينُ الشبابِ   أبو فرا *** سٍ، لمْ يُمَتَّعْ بِالشّبَابِ!

كتب أبو فراس نهاية قصة لا زالت أحداثها مستمرة حتى يومنا هذا !

________

ديوان أبي فراس الحمدانى ، شرح د. خليل الدويهي، دار الكتاب العربي – بيروت ، ط2

فى 30 أغسطس 2015م 

وسوم: العدد 631