التفرد الشعري

في البدء كانت الكلمة. وكان الشعر في اندفاعه البدائي، وضراوته الوثنية. وكانت الحقائق في التحامها بالعوالم الغيبية، واحتدامها في الذوات الشاعرية. وكان الشاعر إنسانا  يواجه الوجود بطريقة  فاعلة، تنتفي معها وبها وفيها شروط التردي في عالم السطحية والرتابة. ذلك بأنه أعطي –في الأزل- قدرة على اكتناه الخفايا،  واجتلاء الخبايا، ومعرفة ما وراء الظاهر من الحقائق والدقائق، فكتب عليه من ثمة بأن يحيا الحياة  بكل امتداداتها وأبعادها، وبأن يشقى بهذه الحياة في رحلته المضنية بحثا عن الجمال والجلال. ولا مجال في هذه الحال لما يقال من أن الشاعر في إبداعه، إفراز من الإفرازات المجتمعية، توجده مكانيزمات الحياة الواقعية. ولو كان هذا الهراء من القول كلاما (يحسن السكوت عليه) لوجب أن يكون الناس كل الناس شعراء. ولما كانت هذه الكينونة ممتنعة، كان لا بد من التمييز والتميز، تمييز الشاعر عن الإنسان العادي، وتميز هذا الشاعر بكينونة مبدعة. والإبداع في كل الأحيان، يدعو إلى العجب ، ويدفع إلى الاستغراب، لأنه من صنع قدرة خفية  لا يملكها  إلا الشعراء، وما ينبغي لأحد من العالمين  أن يملكها  في المجال الحياتي. ومهما حاول المبلسون رد هذه القدرة إلى الواقع الذي يعيشون فيه، فإن محاولتهم  تذهب سدى، وتصبح  عند الحقيقة صدى. ذلك بأنها  محاولة  تريد أن تساوي  بالشاعر الإنسان العادي. لقد عز على أصحابها أن يتفرد هذا  الشاعر بميزة الإبداع، فقالوا إن الإنسان، أي إنسان،  يمكن أن يصبح شاعرا شريطة أن تتوافر له الظروف.ومعنى هذا –بلغتهم- أن الشعر كلام يمكن أن يصاغ كما تصاغ  المنتجات في المعامل إذ تخرج من جو تتفاعل فيه مجموعة من التقنيات الآلية. غير أن مثل هذا الرأي لا يقوم للواقع  الشعري الذي تتحكم فيه أجواء يحس بها الشعراء، ولا يقدرون على تفسيرها، يحسون بها  في لحظة  الإبداع  جميلة جليلة عرضها الذات الشاعرة التي وسعت كل شيء شعرا وإلهاما، ويكشفون عنها حين القول وحين الكتابة  لتتحول في نهاية المطاف  إلى آيات هي السحر. والسحر من قدرة الشاعر على الإ بداع، والقدرة على الشعر.  والكتابة الشعرية  قدر الشعراء، ولن تفهم هذه القدرة في مجال ما يمكن أن يكتسب، لأنها ترقى فوق الحدود، وتتجاوز التفسير بطبيعتها المطلقة التي تحتوي العالم كله، وتستقطب الموجودات بأجمعها ، فماذا بعد الشعر إذن إلا الهراء . ؟           

الكتابة عند الشاعر  تفتيق للحقائق والدقائق، وتجلية للمشاعر والسرائر، وتوليد للإشراق في مواطن الإغراق. ولا سبيل إلى الكشف إلا سبيل القدرة الشعرية. غير أن الشاعر على الرغم من فرحه بالإبداع رزقا، والكتابة حقا، يشقى بهذا المآل الذي استبقته طبيعته، وعجلت إليه سريرته. أليس هذا المآل هو نزل الحميم، وتصلية الجحيم في هذه الحياة الدنيا؟ أليست محاولة تفسير القدرة الشعرية تفسيرا آليا أصله في الواقع التاريخي والاجتماعي دليلا على ما يعانيه الشاعر الحق من ظلم، ويلاقيه من غبن؟ كانت يونان تعتقد بأن مرجع الشعر إلى الآلهة. ألم يؤكد سقراط ومن بعده أفلاطون حقيقة الإلهام؟ وكانت العرب تؤمن بأن الشاعر ملهم موحى إليه. ولهذا قدست له، واتخذت من الكلام الشعري وثنا تعبده. لقد ارتبط  الشعر قديما بالجن والسحر والكهانة، وأحيط  منذ البدء بهالة تعبدية، لإيمان الناس، ورسوخ هذا الإيمان بقدسية الشاعر، وانبجاس الشعر من منابع الحكمة وفصل الخطاب. كانت العرب  تفرح  بمولد الشاعر، وتصوغ فرحها في أجواء الفروسية والشعر. وكانت يونان تربط الفيض الشعري بتجلي ديونيزوس في موكب الخصب والسكر. وكان الناس كل الناس يقفون موقف الانبهار والدهشة أمام الآيات الشعرية. ذلك بأنهم كانوا لا يعرفون سرا لهذا الانفجار اللغوي والتفجر الكلامي. حاولوا أن يجدوا أصلا لهذه القدرة الإبداعية، فأغدقوا عليها من خيالهم دون أن يرقى بهم هذا الخيال، أو يرقوا به إلى آفاق الإبداع  لعجزهم عن اقتحام العالم الشعري الذي لا يدخله إلا المقربون أولو الحس الرهيف، والشعور الوريف. وكانت محاولتهم  التفسيرية للقدرة الشعرية لا تتساوق والمنطق، ولا تنسجم مع الفكر، ولكن متى التقى الشعر بالفكر ، واتحد الخيال الشعري بالمنطق العقلي؟ المنطق العقلي يميل إلى الإقناع في حين أن الخيال الشعري يجنح  للإبداع. وبمكنة  العقل أن يبدع، ولكن إبداعه من طينة غير طينة الإبداع الشعري. المفكر يضع آراءه في ساحة تحدها حدود، وتفصل بين مراحلها قيود وسدود. والشاعر يجري الشعر في حال الفيض الشعوري، ويحس بوجوده الذي يقبل ويدبر إحساسا دافقا، ويصوغ  هذا الإحساس كلاما رائقا وهو في حال الإحساس والكتابة، يتلقى  في موقف الانفعال دررا وغررا تمتاز بالإشراق والغرابة، يسوقها مساقا، ويبدعها سياقا، ويركبها قلائد وأطواقا، بالفعل الإلهامي الذي يتدفق من خلال حال شعورية  تنثال فيها المعاني انثيالا، ولا يزيدها الانفعال معها إلا اشتعالا. لقد خلق الشاعر ليصوغ العالم أو ليعيد صياغته، وما الكتابت الشعرية، كتابته،  إلا تركيبة معنوية تتدفق إبداعا، وتشكيلة لفظية تتألق إشعاعا، فيهما وبهما ومعهما  تتحد الكائنات ، وتتداخل الموجودات، في موكب تتسامى ألحانه وأنغامه، وتعرج في العلياء أنباؤه وأحلامه. أفلا ينظر الإنسان إلى القصائد كيف كتبت، وإلى المعاني والألفاظ كيف رُكّبت، وإلى الأحلام  والأنغام  كيف زفت إلى الشاعر في لحظة الفيض، فرعى  الإلهام أشواقها، وبارك فيها أرزاقها. '' إن الكلام لفي الفؤاد'' وإن الفؤاد هو الكيان الذي يشعر ويسمع ويعي ويبدع. أما الأصم الأبكم الأعمى  فلا نصيب له في الحياة الشاعرية.  فليعد إلى كهفه، ذلك بأنه لا يفقه الشعر. ومن لم يفقه الشعر فأولائك هم السطحيون المسطحون .

وسوم: العدد 632