كمال النجمى شاعراً ومؤرخاً
هو قمة كبيرة حلقت فى سماء الأدب والفن خلال النصف الثاني من القرن العشرين، له إسهامات كبيرة فى تاريخ الموسيقى وتقييم رجالها فى الصحف والمجلات التى كتب فيها، والمؤلفات القيمة التى خلفها، كان موسوعي الثقافة الأدبية والفنية وخصوصاً مجال الموسيقى والغناء .... الرجل الخبير الذى لا يشق له غبار، عليما بأنواع الموسيقى وتاريخها ومقامتها.
ولد عام 1923م فى صعيد مصر لأسرة نزحت من الجزيرة العربية فى الماضي السحيق، واستوطنت المكان المعروف باسمها "أولاد نجم" مركز نجع حمادي بمحافظة قنا، عشق الأدب منذ صغره وخصوصاً "الشعر" الذى برع فيه، إذ كانت للوراثة عاملاً أساسياً فى تذوقه للشعر، حيث كان والده الشاعر "محمد حسن النجمى" شاعراً مطبوعاً، كتب عنه الأمير شكيب أرسلان متعجباً أن لا يدوى اسمه فى آفاق العالم العربي، كما دوت أسماء: شوقي، وحافظ، ومحرم، ولعل من أسباب خفوته كما يرى الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومى أنه كان ملتزماً أشد الالتزام، فوجه شعره إلى اليقظة الإسلامية وأبطال الكفاح والنضال، وهو القائل:
زعم السفور والاختلاط وسيلة للمجد قوم فى المجانة أغرقوا
كذبوا، متى كان التعرض للخنا شيئاً تعز به الشعوب وتسبق
بدأ كمال النجمى حياته كما أسلفنا شاعراً حيث نشر بالصحف أوليات شعره فى سن الرابعة عشرة، ومازال يقرض الشعر حتى بلغ عهد الشباب، ثم انقطع فجأة عن النظم إلى غير رجعة، وفى هذا يشبه المازني الذى بدأ حياته شاعراً مجدداً وانتهى به المطاف قاصاً وباحثاً وصحفياً، وقد وصل النجمى إلى مكانة سامقة فى الشعر وهو دون الثلاثين، حيث كان ينشر شعره بالصفحة الأولى بالأهرام جنباً إلى جنب الأعلام الشوامخ مثل: على الجارم، وخليل مطران، وعلى محمود طه، وكان الأستاذ أنطون الجميل يراه فى شبابه الباكر يشير إلى مستقبل مرموق فى دنيا الشعر فيحرص على تقديم شعره فى أسطع معرض، وأول ما نشره بالأهرام عام 1947قصيدة بعنوان "فلسطين" حيث كان هذا الموضوع يشغل بال الناس ومازال يشغلهم، فأرسل النجمى عبر شعره صيحة كالرعد التى ألمت كل الناس، الطغاة منهم والمؤمنين على السواء، والخطر الداهم التى كان يتهددها منذ أمد، ولم يلق لدى ولى أمر بال، فيقول:
علت صيحة كالرعد دوى هزيمها تحامى صداها واتقاه غريمـــــها
هـــــفت من فلسطين ألينا فنبهت نياماً قلاها كهفــــها ورقيمــــها
لقد جحد الباغي فلسطين حــقها وأسرف فى جور عليها ظلومها
تقاعس عنها حين ضيمت وليها وأسلمها للحـــادثات حميمــــــها
وقد جمع النجمى شعره فى ديوان "الأنداء المحترقة"، وصدر فى سلسلة الألف كتاب (548) سنة 1964م، بتقديم الشاعر صالح جودت، وقد فاز هذا الديوان بالجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية عام 1951، وتنوع شعره بين القومي، والعاطفي، والرثاء، ومن أجمل المرثيات فى هذا الديوان تلك التى رثى بها المطربة الشهيرة أسمهان التى لقت حتفها وهى فى ميعة الشباب، فاشتد وجده لهذا الرحيل المفاجئ و هي فى ذروة المجد فبكاها فى قصيدة بعنوان "مصرع كوكب":
كوكب عوجل فى فجر الصبا وعلا الموت عليه فخبــــا
ضاء فى مصر فكانت مشرقاً وثوى فيها فأمست مغرباً
أسمــــــهان ! أي طير تعس غال أهاتك لما نعبـــــــــا
صوته صرخة عمر ذاهب وشباب آن أن ينتهبــــــا
أسمــــــهان قصة إن تليت ملأت قلب الليالي عجـــــبا
هي شمس أشرقت ثم خبت ورمى الموت عليها حجباً
كان النجمى يناصر الشعر العمودي إلى آخر حياته، مستلاً سيفاً على أتباع مْن يسمون بشعر التفعيلة، معتبراً شعراء هذا النوع "شعارير أدعياء" سوف يصابون بالصمم الموسيقى وسوف يعجزون تماماً عن تبين الفرق بين الشعر والنثر، والصمم الموسيقى عنده يشبه عمى الألوان حتى لونى الليل والنهار وفى هذا يقول: "فى منتصف الخمسينيات اشتدت حركة تحطيم الأوزان، واتخذت مساراً أيدلوجياً حاداً، فناقشنا التفعيلة والضرر الذى يحيق بالشعر العربي واللغة العربية من جراء تلك الحدة فى الدعوة إلى الأخذ بالتفعيلة وحدها ونبذ الأوزان المتكاملة، وانقلبت الحملة الشعبية التى يقودها العالم "محمود أمين العالم"، وأنيس "عبدالعظيم أنيس" وغيرهما منذ أربعين عاماً لتحرير الشعر العربي إلى حرب لهدم كل ما هو عربي والتي يقودها أدونيس.
وقد عمل النجمى طوال حياته بالصحافة فى "الجمهور المصري"، و"أبو الهول"، و"الفتح"، و"مصر الفتاة"، و"الرابطة العربية"، و"التحرير"، و"العالم العربي" التى كان يصدرها أسعد حسنى إلى أن انتهى به المطاف فى دار الهلال فى مجلة "المصور" منذ عام 1957، ثم يعين رئيساً لتحرير "الكواكب" عام 1971، ثم رئيساً لتحرير "الهلال" عام 1982، وقد ازدهرت هذه المجلات خلال إدارته لها، وضم لها الأبواب الرائعة، وكانت فترة نشاط وازدهار ، ولم تنقطع صلته بالهلال حتى وفاته فى 24أغسطس 1998.
اخلص كمال النجمى للموسيقى العربية وفن الغناء العربي كثيراً، ووقف حياته على البحث والتنقيب فى عيون الكتب العربية من: "الأغاني" لأبى الفرج الأصفهاني ، و"كتاب الموسيقى الكبير" للفارآبى، ومن سار على نهجهم من القدماء، استوعب هذه المؤلفات وهضمها واستخرج منها الدرر والفرائد التى كون منها أبحاثه ومؤلفاته منها كتابه "يوميات الجواري والمغنين" الذي أرادها تلخيصا لكتاب الأغاني الضخم للأصفهاني الذي يصعب على القارئ المعاصر ليس فقط اقتناؤه لكونه يتألف من حوالي 28 جزءا بل يصعب على الكثيرين قراءته حتى في حال اقتنائه بسبب الأسلوب الذي كتب به منذ حوالي ألف عام مضت، ولكن أعظم ما في تبسيط الأسلوب هذا أنه لم يأت على حساب البلاغة التي عرف بها أسلوب الأصفهاني، وإلى جانب “تسليس” وتبسيط الأسلوب القديم لهذا العمل الكلاسيكي عمد النجمي إلى تغيير طريقة عرض الكتاب فجاء ،إلى جانب تلخيصه الواضح، بطريقة سرد يوميات تأتي على لسان أبطال العمل أنفسهم إلى المغنيات والمغنين كما يدل على ذلك اسم الكتاب.
لنقرأ في مقدمة الكتاب ما جاء على لسان الكاتب في شرح أسلوبه: “بدا لي أن أحاول الاقتراب بأسلوب الكتابة قدر الاستطاعة من مؤلف كتاب الأغاني العظيم الذي هو إمام في البلاغة (…) مع التزامنا بتقريبه من قارئنا المعاصر، لهذا بقيت شذرات واضحة من أصول الكتاب العظيم (…) وحاولت تطويع النثر الفني في القرن الرابع الهجري لمقتضيات الكتابة في أيامنا كي لا يقع في كتابنا هذا تنافر بين طبقات التعبير أو تنافر بين القديم والحديث”.
إن طريقة النجمي هذه في الكتاب التي جمعت بين تملكه الكامل من بلاغة اللغة العربية الكلاسيكية وبساطة اللغة في أيامنا هذه تجعل من أسلوبه أسلوبا فريدا ليس في الكتابة النقدية الموسيقية وحسب بل وبين أساليب الكتابة الأدبية عامة أيضا. وبالتالي فإن من يملك هذا الأسلوب المطواع الجامع بين الأسلوبين الكلاسيكي والمعاصر لا يعجز عن تكوين مصطلحات دقيقة للتعبير عن أشياء في منتهى العلمية ليصيب المعنى المقصود في القلب. وبالتالي يوصله للقارئ بسهولة.
ويمتاز بنفسه الطويل وعزيمته الجبارة والصبر وعناء البحث حتى صار من أهم أعمدة نقاد الموسيقى والغناء ، فهو صاحب أسلوب شيق جذاب ودقيق، لا هو أكاديمي صعب، ولا صحفي متعجل يعتمد على الإثارة .. إنه كان يعتبر نفسه ناقد يؤدى رسالة غايته البحث عن الحقيقة، كان مرهف الحس، يكتب بعقل صاف، وإنصاف كبير ، فهو يقف فوق جبل شاهق من المعرفة بكل ضروب الموسيقى العربية ومقاماتها وأنواعها وآلاتها إلى المجالات الأدبية والتاريخية المختلفة، وهذا الضرب من المعرفة النادرة، ليس مجرد ثقافة عامة، بل لا يناله إلا مْن يمتلك ثقافة عالية .
فى السبعينيات من القرن العشرين أصيب الغناء العربي بموجة هابطة بوجود أناس لا ينتمون إليه , إنما اقتحموا هذا المجال (كسبوبة) تدر عليهم الربح الوفير، وكانوا لا يتمتعون بموهبة تدعم جانبهم، وإنما ظهروا خلسة بمساعدة شركات "الكاسيت" التى كان يملكها رجال بعيدون عن هذا المجال، وقد دعم هؤلاء نقاد كان همهم اهتبال الفرص، وأخذ الهدايا نظير تحسين القبح باللف والدوران ولىّ عنق مصطلحات النقد، فى حين كان هناك المخلصون الذى لا تغيرهم المغريات ومنهم كمال النجمى الذى وصف ما يحدث ( بالموجة الهابطة ) التى لم تستول على أرض الغناء العربي فقط ، بل استولت أيضاً على أرض الموسيقى الأوربية "الرفيعة" التى يطلقون عليها "الموسيقى العالمية"، كما أنها طردت الغناء الأوبرالى وحولت بعض أصواته إلى الغناء فى الملاهي الليلية وأشرطة الكاسيت، ويبين "أن هذه الموجة أضرت بالموسيقى العربية الأصيلة وأنها أحدثت التشوهات التى لحقت بجميع المقامات والإيقاعات العربية"، ويقترح حزمة من الإصلاحات لتطوير موسيقانا العربية "بأنه لابد من طريق مستقل لتطوير موسيقانا وغنائنا ، فليس التقليد (طبق الأصل) هو الطريق إلى التطوير وإن الطريق الصحيح لحفظ الموسيقى العربية هو تطويرها بطريقة تناسب تكوينها الخاص المستقل، لكي تصبح موسيقانا عربية وعلمية فى وقت واحد، من دون أن نقع فى هاوية التقليد الأعمى لما يسمونه الموسيقى العالمية".
كمال النجمى ناقدا فنياً:
وقد أضاف النجمى للمكتبة العربية العديد من الكتب التى أرخت للموسيقى فى عصورها القديمة والحديثة، وقد خص الغناء المصري خلال قرن بالعديد من الدراسات التى لم تعالج من قبل فى المكتبة العربية ..أهمها كتاب "الغناء المصرى" وهى موسوعة ضمت كتبه التى صدرت على فترات وهى : " الغناء المصري " عام 1966، و" أصوات وألحان عربية "عام 1968، و"مطربون ومستمعون" عام 1970، و"سحر الغناء العربي" عام 1972، و"الموجة الجديدة وما بعد الثمانينيات" عام 1993، سلسلة تلقى ضوءً قوياً على الغناء المصري وعناصره المختلفة من منتصف القرن التاسع عشر من عصر عبده الحامولي، وألمظ ومحمد عثمان، وعبدالحى حلمي، ويوسف المنيلاوى إلى عصر أم كلثوم التى كانت فى رأيه "أول مطربة عربية حقيقية أدت الغناء المتقن منذ انقطاع فن الغناء العربي بعد سقوط بغداد سنة 1258م أو منذ سقوط غرناطة فى أيدي القشتاليين الأسبان سنة 1492م، وكانت التقنية الغنائية لأم كلثوم هي المدرسة التى تعلمت فيها مطربات ما بعد عصر منيرة المهدية ومدرسة العوالم والغوازي القديمة المندثرة، وحددت طريقة أم كلثوم فى الأداء أصول الغناء العربي فى لهجته الجديدة التى كانت فى الحقيقة إحياء للهجة العربية التى طمستها عصور التدهور القومي والإجتماعى والسياسي والفني والفكري التى رانت على الأمة العربية بضعة قرون"، ويؤكد أيضاً على عظمة أم كلثوم قائلاً: "ومن الإنصاف أن نقول أن إحياء الطريقة العربية بدأ قبل أم كلثوم وملحنيها، وبلغ قمته فى أدوار محمد عثمان وموشحاته ، ثم فى أعمال سيد درويش ومعاصريه، وكان من الممكن أن تتوقف حركة الإحياء لولا أن قيضت الأقدار لها صوت أم كلثوم الذى فتح للملحنين الجدد – ورثة محمد عثمان وسيد درويش – أفاقاً شاسعة لم تكن تخطر لهم على بال ...فلولا صوت أم كلثوم لما كانت ألحان محمد القصبجى وزكريا احمد ورياض السنباطى، فهي التى ألهمتهم وشاركتهم فى الفكر الموسيقى، وفى مدرسة أم كلثوم تلقن الغناء كل صوت نسائي بين أواخر العشرينيات والثمانينيات ".
كما أبرز النجمى مكانة الشيخ زكريا أحمد ودوره فى التجديد مع المحافظة على الأصالة العربية والقوالب التقليدية للحن فقال: "كان زكريا في إنتاجه اللحني الغزير يجمع بين شيئين يتناقضان عند أصحاب المواهب المحدودة، ولكنهما لا يتناقضان عند ذوي المواهب الكبيرة كالشيخ زكريا، وهذا هما: وقوفه عند الأصول الفنية وقفة لا يتزحزح عنها.. ثم الابتكار في التلحين، تعبيرا وتصويرا، ودقة ورقة، وحلاوة وطلاوة، إلى حد لم يسبق له مثيل في الغناء العربي المسجل منذ بداية عصر “الاسطوانة” في مصر، أي منذ أوائل القرن العشرين إلى هذه السنوات الأخيرة منه!. لقد كان فنانا موهوبا متفردا بفنه ذي الطابع الخاص الذي تكاد خصوصيته أن تكون اختراعا وابتداعا لم يسبق له مثيل، مع حرصه على “الأصولية الفنية” حرصا شديدا، وكان في ذلك كله أبعد أهل الصناعة الغنائية عن التصنيع، ولم يصبه الإجهاد والإنهاك قط، ومن هنا جاءت الحكايات الكثيرة عن ليالي زكريا وجماعة أصدائه الذين كان يسميهم “أهل الهوى”.. وكانوا يزيدون أو ينقصون في سهرات زكريا، ولكنهم كانوا دائما قطعة من حياته، فلم يكن يستطع أن يلحن إلا في وجودهم حوله كأنه كان يستلهم صخبهم، ومن أجلهم صنع زكريا لحنه الرائع، الذي كتب كلماته بيرم التونسي وغنته أم كلثوم في الأربعينيات، وهو لحن “أهل الهوى يا ليل” من مقام النهاوند الذي يمكن أن يكون عربيا كما يمكن أن يكون إفرنجيا، ولا نعلم، ولم نسمع لحنا عربيا طوال حياتنا أعْرَب من “أهل الهوى” الذي جمع العذوبة والرشاقة والجزالة من أطرافها".
كمال النجمى مقال: "زكريا احمد وبيرم وأم كلثوم في اللقاء الأخير"
ثم يبين النجمى ولع الشيخ زكريا بمقام الصبا، وهو من أكثر الموسيقيين العرب ولوعا باستخدام هذا المقام فى ألحانه حيث يقول: "أثار مقام الصبا الذي صاغ منه زكريا لحن "هو صحيح الهوى غلاب" تعليقات الموسيقيين والمستمعين، فهذا المقام لا يتعامل معه الملحنون إلا قليلا، لصعوبته، وضيق نطاقه حتى إن عبدالوهاب لم يلحن طوال حياته إلا قطعتين فقط من هذا المقام، ولم يلحن السنباطي منه لأم كلثوم –في أربعين عاما- إلا بعض أبيات من شعر علي أحمد باكثير، غنتها في فيلم “سلامة”. أما زكريا فكان “يهجم” بجسارة وبراعة وفن عجيب على هذا المقام، وقد لحن منه لأم كلثوم وللمطربين والمطربات عددا كبيرا من الأغاني، وهو أكبر عدد من أغاني الصبا اضطلع بتلحينه أي ملحن مصري أو عربي في عصرنا كله!.. وجاءت ألحان زكريا من هذا المقام نماذج رائعة تستحق الدراسة بعدما استحقت التقدير وأثارت الطرب!.. ولا نعرف ملحنا أبدع شيئا في هذا المقام بعد زكريا إلا أحمد صدقي، تلميذ زكريا، وأبرع الناسجين على منواله…"
كمال النجمى مقال: "زكريا احمد وبيرم وأم كلثوم في اللقاء الأخير"
كما أبرز دور عبدالوهاب فى كل كتابته، وخصه بكتاب "محمد عبدالوهاب مطرب المائة عام" الذي يعتبر بدون أدنى شك وإلى الآن أهم كتاب صدر عن هذا الفنان العظيم. فمن الميلاد والحارة والحي ينتقل النجمي إلى بداية عصر الأسطوانة أي سنة 1903 وكأنه عايشها شخصيا فيحكي لك عن عبدالرحيم المسلوب وقصته مع عبده الحامولي الذي توفي سنة 1901 ويجمع حكايات في غاية الطرافة عن هذه الأيام. مع المرور على فن الدور وهو القالب الغنائي الأساسي في القرن التاسع عشر وكيف مر من عبدالرحيم المسلوب إلى محمد عثمان ثم إلى عبدالوهاب. ويصل إلى أهمية الأسطوانة التي لولاها لما استطاع عبدالهاب إتقان فن الدور والموشح والقصيدة والموال أي باختصار لما استطاع أن يتقن فن الغناء العربي الكلاسيكي، ويمضي "المؤرخ" النجمي مارا بالفرقة التمثيلية الغنائية في أوائل القرن، ويعرج على لقاء عبدالوهاب بشوقي سنة 1924 كل هذا بأساليب مختلفة. تارة بالسرد وطورا يتخيل الحوارات بين موسيقيي ذلك العصر حتى يصل إلى عصر الطقطوقة في العشرينات وعلاقة عبدالوهاب بسيد درويش و… و … و…. إن هذا الكتاب فيه من المعلومات الشيقة ومن المتعة الفنية والموسيقية والأدبية ما يجعله مثالا نادرا بين كل الأدبيات المعروفة حتى غير الموسيقية منها.
وقد أرخ فيه لحياته وجهوده فى خدمة الموسيقى العربية وتتبع مراحل تطور صوته فهو فى البداية بدأ يقلد الشيخ سلامة حجازي وكانت أمنية فى هذه الفترة أن يهتف الناس ذات يوم باسم "الشيخ عبدالوهاب"، وبعد وفاة سلامة حجازي وجد نفسه وجهاً لوجه أمام مشاهير المطربين فى ذلك الوقت، أمثال صالح عبدالحى، وعبداللطيف البنا، وكان قد كبر سناً فلم يبهره عبدالحى ولا البنا ولكن بهره الملحن الجديد الشيخ سيد درويش وانقلب عبدالوهاب من يمين الفن إلى يساره، ومن مطرب قديم إلى مطرب جديد، ومنذ أوائل العشرينيات أصبح صوت عبدالوهاب ناضجا، مكتمل النبرات، مصقول المساحة، ويفرق النجمى بين صوت عبدالوهاب والمحافظين قائلاً: "وفرق بين عبدالوهاب والمحافظين على الغناء القديم منشؤه تفرد عبدالوهاب بموهبة جبارة فى تذوق الألحان واختراع الجديد منها، ومزجها أو تفريقها وتفريغ غصن من أصل أو استنباط أصل من فرع فكان عبدالوهاب بهذه الموهبة متفوقاً عليهم تفوقاً لا سبيل إلى لحاقهم به ..وبذلك اكتملت له أسباب التفوق على معاصريه، فأطفأهم جميعاً، وتفرد وحده بالسيطرة على الأسماع".
ومازال يبحر فى رحلته التى عانى فيها أهوال البحث ليثمر عن صور فنية يضيء فيها الأصوات، ويرصد فيها مراحل تطور الموسيقى العربية ، ولم يدع موسيقياً أو مطرباً إلا وتعرض لأعماله واضعه فى مكانه الصحيح فهو لم يتملق أحداً، (لم يصنع من الفسـيخ شربات) أو يتقاضى هدايا نظير اختلاق الأمجاد، وتزيين صور من لا يستحق وإنما يضع هذا كله فى إطار النقد والموضوعية والبحث العلمي الرصين والتحرر من الهوى، فرصد تجارب عبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش، وفايزة أحمد، ووردة الجزائرية، وشادية، وفهد بلان، ووديع الصافي، وغيرهم ...
وأرخ لفن الدور والموشح وأخبار روادها وأعاد الاعتبار لهذا الفن " الدور " الذى نمى وترعرع على أيدي الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب ( 1797- 1938) هذا الرجل الذى عاش عمراً طويلاً سخره فى خدمة الموسيقى والغناء ، وعلى يديه تعلم أعلام الموسيقى والغناء خلال القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين ومن أشهرهم : عبده الحامولي ومحمد عثمان ومحمد كامل الخلعى ، واختفى هذا الفن الجميل فى بداية الثلاثينيات من القرن العشرين ، وإن واصل المطرب صالح عبدالحى على إحياء هذا الفن وتسجيله على أسطوانات بالإذاعة بعد تلقاه على خاله عبدالحى حلمي الذى أخذ مباشرة عن محمد عثمان والمسلوب.
ولم يقتصر دوره على أهل الفن ولكن تناول أيضا أصوات المقرئين، وبخاصة الشيخ محمد رفعت، والشيخ مصطفى إسماعيل، وعبدالباسط عبدالصمد، هؤلاء هم سدنة دولة التلاوة المصرية الأصيلة الذين قلما يشملهم عصر، لم يسرد الحواديت التى تسلى وتسامر القراء كما فعل غيره، وإنما حلل أصواتهم على نحو علمى رفيع لم يسبقه أحد،
وقد ظل النجمى مخلصاً لفن الغناء والموسيقى الأصيل راعياً له ، يستاء من اضمحلال دوره فى السنوات الأخيرة عندما هجم على الساحة واحتلها أرباب "الفن الهابط "، الذين كان الطريق مقطوع بينهم وبين الأصالة ، كان يتمنى أن يسترد الغناء الأصيل عافيته مرة أخرى ولكن هيهات فقد رحل دون أن تتحقق أمنيته، وأملنا ، بعد قامت الثورة الأخيرة فى مصر بالقضاء على الفساد السياسي والاستبداد أن تتحقق ثورة فنية تميز الطيب عن الخبيث، وهذا لا يتحقق إلا بدور المخلصين.
وسوم: العدد 633