زمن وضحة وبداية التّنوير
صدرت رواية زمن وضحة للكاتب جميل السلحوت عن مكتبة كل شىء في حيفا، تقع الرّواية في ٢٢٤ صفحة من الحجم المتوسّط.
قرأت مقالين عن هذه الرّواية في الصّفحة الأدبيّة من جريدة القدس، كان آخرها للكاتبة نائلة أبو طاحون التي تقول إن رواية زمن وضحة تضع اليد على الجرح، حيث أعطت الرّواية حقها ولم تترك صغيرة أو كبيرة، فلم يبق إلا أن يشير الواحد إلى بعض انطباعاته كقارئ غير متمرّس في التقييم والنقد.
عندما يقول أحدنا أنه ولد زمن الثّلجة الكبيرة، يُفهم أنّه يشير إلى سنة 1929، وزمن الزّلزلة عام 1929 ، فهل "زمن وضحة" يدل على ما قبل وبعد النكبة؟ بالنسبة لي هذا مناسب، فقد عرفت وضحة كاسم مشهور في الأربعينات من القرن الماضي، عندما كنت أسمعهم يهزجون في السامر:
يا سلام يا سلام، وين وضحة تِنام، تحت ظلّ السّفرجل، فوق ريش النّعام.
وشيخ العرب عندما يعتزّ ويتفاخر يقول: أنا خو وضحة. استمر ذلك بالنّسبة لي حتى السّبعينات عندما تابعت المسلسل الشّعبيّ"وضحة وابن عجلان" على التّلفزيون الأردنيّ والذي يعاد بثّه الآن. ووضحة هنا فتاة نشميّة توفّق بين العربان، كما أنّ وضحة في روايتنا بنّوتة لطيفة ونِغشة، كانت حمامة سلام في العائلة في عصر ذكوريّ، وأجرأ من أخيها حمدان في مواجهة التّقاليد البالية، كما أنّها تمثّل حلّا وسطا بين رجعيّة حسن أبو بسطار وفرج أبو العلّيص، وتقدميّة الدّكتور ممدوح وزوجته ريتا والمختار أمين. وهكذا فإنّ زمن وضحة يبدأ بعصر ظلاميّ، وينتهي بنوع من التّنوير قد يكون بداية للوعي وتنبّه النّاس لحلّ مشاكلهم، وقد وفق المؤلف باختيارهذا العنوان للرّواية.
كانت الأمراض الاجتماعيّة النّاتجة عن الجهل والفقر مشتركة بين الجميع، عدا بعض الفوارق بسبب سهولة الاحتكاك أو ضعفه بالمدينة. فاجبار المرأة على الجلوس القرفصاء عند الولادة وكي كعب القدم لم أعايشها من حسن الحظّ.
أمّا المساج بالزّيت، فكانت والدتي رحمها الله تمرّج أطراف ابني الأوّل في منتصف الخمسينات حتى "تُقسيه" على رأيها، ثم تلفّه بالكوفليّة المقمّطة ويداه على جانبيه، معللة أن حركة يديه بدون كوفلية تجعله "ينقز" ويتقطّع نومه.
وعند خِطبة الفتاة كان لابن العمّ أن "يتبدّى بها"، لأنّ التّقاليد تعطيه الحقّ بانزالها من على ظهر الفرس، وقد تكون قرئت فاتحتها عند الولادة. ويوم الزّفاف، كثيرا ما يلجأون في الحيّ إلى ما يعرف "بشاة الشّباب"، حيث يعترضون الزّفة لإرضائهم ببعض النّقود، خاصّة إذا كان الزّواج لغريب عن القرية.
وفيما يخصّ حرمان القرى من الطّرق والمواصلات العامّة، فقد كان ذلك شائعا. ففي زمن الانتداب، لم يكن هناك شوارع داخل قرية سلوان الكبيرة نوعا ما. وكما يقولون: مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد اضطرّت البلدية بعد النّكبة إلى شقّ شارع يمرّ شمال منطقتنا، مرورا بباب المغاربة للوصول إلى القشلة مركز المقاطعة، وشارع آخر يخترق البلدة للوصول إلى أبو طور بسبب إغلاق طريق الخليل. أمّا الوصل بين الشّارعين لنستفيد منه، فقد تأخّر حتّى بداية 1967، لأنّ أصحاب الأراضي على جانبي الطّريق التّرابي كانوا يطالبون بالتّعويض، هذا عن شجرة الصّبر وذاك عن البئر أو شجرة التّين، مما جعل البلديّة تماطل، إلى أن تمّ رصفه بالطّريقة البريطانيّة قبل حرب الأيّام السّتّة، وظلّت المدحلة مكانها حتى تمّ تعبيد شريط منه بعد سنتين.
وبالمناسبة، فليت الوضع السياسيّ كان أوفر حظّا من الوضع الاجتماعيّ المتأخّر، فسيف الدّين الحاج أمين ولندن مربط خيلنا، وأحد القادة صرح أمام حشد قائلا: لو أمرني مولاي لرميتهم في البحر، وقد قلت لوالدتي عندما أشارت بالهجرة: في ظهرنا سبع دول عربيّة، ولا يمكن للانجليز بيع هذه الدّول مقابل عصابات، إذ أنّهم أذكياء في السّياسة، وعلى رأي البعض فإنّ إبليس تخرّج من جامعة أكسفورد؛ فكم كنت مضللا!
وثمة ملاحظتان، أولاهما شدّت إعجابي، فبجانب التّطوير السّريع للقرية في الرّواية اجتماعيّا وبنية تحتيّة، تحمّست للتّغيير الذي أحدثه الدّكتور ممدوح بحياة عارف، ونقله من مجنون القرية إلى عارف النّشمي شيخ الشّباب، على خلاف "أرود" في رواية "لفح الغربة" حيث بقي أرود مقموعا، في حين عاد عارف إنسانا جديدا، ليأخذ حصّته في إرث والده، ويضمّ أخته تحت رعايته. صدّقوني أنّ الدّمعة طفرت من عيني فرحا للقاء نعمة وعارف، فالإنسان هو رأس مالنا.
أمّا قصيدة جحيش بن مهاوش السّرحاني الطّويلة حول عقوق أبنائه، فقد ذكّرتني بقصّة أخرى عن"مْطيع" الذي وضع أباه المسنّ في شِقّ مجاور، على بابه لوح من الخشب. وعندما كان الأب يسمع رُغاء الضّبغ عند باب الشّق يهوش عليه بعود في يده قائلا:
إنقِل هالسّع ييجيك مْطيع، ثم يُقَصد:
يا ابنيي يا مْطيع، لا تِركِنى عالنْسا
يْخلين الليل يروح وييجي
يْودينْ لي العشا باضيق المغارف.
وقد أحصيت من الأمثال الشعبيّة أكثر من عشرين ثم توقّفت، وهي مناسِبة، وبودّي أن أشير إلى هذا المثل الذي جاء في الرّواية، " صحيح لا تاكل، ومكسّر لا تاكل..إلخ"، والذي أعرفه هو،" صحيح لا تِقسم، ومقسوم لا تاكل، وكل حتى تِشبع".
وسوم: العدد 643