يوم اللغة العربية .. هل أننا نقول ما لانفهمه؟

بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية 18 ديسمبر يشغلني الموضوع التالي : هل أننا نقول ما لانفهمه؟ ونردد طول النهار ما لاندرك معناه؟ ونتفق ونتخلف على قضايا ومفاهيم في حالة ذوبان وسيولة فكرية وغير محددة؟ أظن- وأملي أني مخطيء- أن هذه"السيولة الفكرية " حقيقة تبدأ من أحاديثنا اليومية الاعتيادية وصولا إلي الأدب والسياسة والثورة، وأننا لا نتوقف لحظة لنسأل أنفسنا: ما الذي نعنيه على وجه الدقة؟!. وأنت إذا سألت أحدا ماذا نقصد بقولنا المتكرر" عمى حيسى"، أو قولنا" لا تقل لي كاني وماني" فإنه لن يجد جوابا محددا، لأننا نفهم المعنى العام للكلام بالتقريب ولا ندركه بدقة. والعمي " الحيسي" هو العمى الحسي، أي عمى حاسة الرؤية ذاتها الميئوس منه، عمى دائم ليس مؤقتا أو ناجما عن انفعال. لكننا حرفنا " حسي" في النطق لتصبح " حيسي". وعندما نردد" لا تقل لي كاني ولا ماني" نفهم على العموم ونقصد: لا تأخذني بعيدا إلي عالم الخيال أو شيئا قريبا من ذلك،إلي أن نعلم أن"كاني وماني" كلمتان فرعونيتان الأولى بمعنى السمن والثانية بمعنى العسل، فالمقصود بدقة هو: "لا تمنيني بالآمال المعسولة"! وهناك فارق بين الإدراك بالتقريب والإدراك المعنى بشكل محدد، الفارق بين"السيولة الفكرية" للمعاني وتحددها. الأكثر من ذلك أننا ننتقل من الكلام إلي الكتابة ونكتب الكثير من العبارات انطلاقا من مفهوم تقريبي غير محدد مثل قولنا:" وقع في حيص بيص" أو " لافض فوك"؟ نكتبها ولا ندري معناها بدقة. وتتفاقم المشكلة حين تنتقل السيولة الفكرية إلي مجال الأدب والثقافة، فنكرر كلمة مثل " أوبريت"، ونقصد بها على العموم العمل المسرحي المشتمل على أغنيات! وكل عمل من هذا النوع هو " أوبريت" حتى أصبح المصطلح يطلق على أرخص أنواع الاستعراضات الغنائية. ولدينا أن كل من أدار ظهره للجمهور وأمسك بعصا أمام فرقة عازفين هو " مايسترو" مع أن قيادة الاوركسترا علم خاص له أصوله ودراسته المتخصصة وشهاداته، لكننا نقصد دائما شيئا ما عاما، غير محدد، ونقول ما لانفهمه بدقة. ونكرر كثيرا " هذه دراما" نقصد مأساة حتى سرى هذا المفهوم في الحياة والأحاديث اليومية، مع أن الكلمة لا تعني ذلك على الإطلاق، فالدراما هي :" كل محاكاة لفعل الإنسان" سواء أكانت تلك المحاكاة في شكل مأساة أو ملهاة. وفي مجال الوعي السياسي نحن أيضا نردد الكلمات بمعناها التقريبي، العام، وعلى سبيل المثال نحن نقول الدولة ونقول النظام السياسي بالمعنى ذاته ، وأحيانا نصب غضبنا على الاثنين معا من دون تمييز، لأن المعاني لدينا في حالة سيولة فكرية. فالدولة مفهوم أوسع بكثير من " النظام السياسي"، فالدولة بمؤسساتها المختلفة كالجيش والشرطة وغيرهما قد تخدم هذا النظام السياسي أو ذاك. والآن انظر العبارات الأكثر شيوعا في حياتنا السياسية مثل" ديمقراطية"و" ليبرالية"و" اشتراكية"! ما الذي نعنيه بالضبط حين نقول عبارات كتلك؟ وهل يمكن للتطور أن يمضي إلي الأمام إذا كنا نشير إلي القضايا والأهداف والآمال على العموم، بشكل تقريبي، سواء في الحياة اليومية أوفي الفن والسياسة والثورة أيضا؟. هل نحن بحاجة إلي وقفة مع عقولنا أم لغتنا ؟ وإذا كنا نقول ما لانفهمه، فهل ثمة أمل في أن نفهم شيئا .. لنقوله؟! أو ندرك ما ننشده لنعبر عنه؟

وسوم: العدد 647