تراث أحاديث القُصّاص، ودعوةٌ إلى توظيفه في تنمية الحسِّ النقدي
كتبَ العلماءُ في موضوع القَصِّ والقُصّاص كتباً هي:
1- أخبار القُصّاص: لأبي بكر محمد بن الحسين المعروف بالنقاش الموصلي (ت: 351هـ).
2- كتاب القُصّاص والمذكِّرين: لابن الجوزي (ت: 597هـ)، وقد طُبع عدة طبعات ، وأحسنها طبعة الدكتور محمد الصباغ.
3- القِصاص عن القُصّاص: لابن الجوزي أيضاً، ذكره لنفسه في أول كتابه "التبصرة" (1/9)، وقد تتبعتُ تراجم ابن الجوزي بتوسع فلم أجد له ذكراً، ونظرتُ في "مؤلفات ابن الجوزي" لعبد الحميد العَلَوْجي فما رأيته، وهل هو السابق أو غيره؟ الله أعلم.
4- أحاديث القُصّاص: لابن تيمية (ت: 728هـ).
5- الباعث على الخلاص مِنْ حوادث القُصّاص: للعراقي (ت: 806هـ).
6- تحذير الخواص مِنْ أكاذيب القُصّاص: للسيوطي (ت: 911هـ)[1].
وقد حققَ الكتبَ الثلاثةَ الأخيرةَ أيضاً الدكتور محمد الصباغ، إذ له بهذا الموضوع اعتناءٌ واهتمامٌ.
••••
وكان ابن الجوزي - رحمه الله - ممن اعتنوا بفن الوعظ كلَّ الاعتناء، واهتمامُه هذا جعله يتتبع هذا الموضوع وكلَّ ما يتصل به، وقد كتب فصولاً عن القُصّاص في أول كتابه "الموضوعات من الأحاديث المرفوعات" - إضافة لكتابيه السابقين - وذكر أنَّ مِنْ أول مقاصده في تأليفه تبيان أنَّ كثيراً من القُصّاص يوردون الموضوعات، وأنَّ خلقاً من الزهاد يتعبّدون بها، ثم ذكر خطرَهم البالغَ فقال:
"والقاصُّ يروي للعوامِّ الأحاديثَ المنكرة، ويذكر لهم ما لو شَمَّ ريحَ العلم ما ذكره، فيخرجُ العوامُّ من عنده يتدارسون الباطل، فإذا أنكرَ عالمٌ قالوا: قد سمعنا هذا بـ "أخبرنا" و"حدّثنا".
فكم قد أفسد القُصّاصُ من الخلق بالأحاديث الموضوعة؟! كم لونٍ قد اصفرَّ بالجوع؟! وكم هائمٍ على وجهه بالسياحة؟! وكم مانعٍ نفسَه ما قد أبيح؟! وكم تاركٍ رواية العلم - زعماً منه - مخالفةً للنفس في هواها في ذلك؟! وكم موتمٍ أولادَه بالزّهد وهو حي؟! وكم معرضٍ عن زوجته لا يوفيها حقَّها، فهي لا أيمٌ ولا ذاتُ بعل؟!"[2].
••••
وقال في كتابه "كتاب القُصّاص والمذكِّرين"[3] عن القُصّاص:
"أتوا المنكرات في الأفعال والأقوال والمقاصد... فأما الأقوال فعلى ضربين: قول من القُصّاص، وقول من الحاضرين، فأما القول الصادر من القُصّاص فمن خساستهم ورذالتهم مَنْ يكذب".
ثم أورد خبراً للشعبي معهم:
"قال الشعبي: بينما عبد الملك [بن مروان] جالسٌ وعنده وجوه الناس من أهل الشام، قال لهم: مَنْ أعلم أهل العراق؟
قالوا: ما نعلم أحداً أعلم من عامر الشعبي.
فأمر بالكتاب إليَّ فخرجتُ إليه حتى نزلتُ تدمر فوافقتُ يوم جمعة، فدخلت أصلي في المسجد فإذا إلى جانبي شيخ عظيم اللحية قد أطاف به قوم من أهل المسجد، وهم يكتبون عنه، فحدّثهم قال: حدّثني فلان عن فلان يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تعالى خلق صورين، له في كل صور نفختان: نفخة الصعق، ونفخة القيامة.
قال الشعبي: فلم أضبط نفسي أن خففت صلاتي. ثم انصرفت فقلت: يا شيخ! اتق الله ولا تحدثن بالخطأ، إن الله تعالى لم يخلق إلا صوراً واحداً، وإنما هي نفختان: نفخة الصعق ونفخة القيامة.. فقال لي: يا فاجر! إنما يحدّثني فلان عن فلان. وترد عليَّ؟! ثم رفع نعله فضربني بها، وتتابع القوم عليّ ضرباً معه، فوالله ما أقلعوا عني حتى حلفت[4] لهم أنَّ الله تعالى خلق ثلاثين صوراً، له في كل صور نفخة. فأقلعوا عني.
فرحلتُ حتى دخلت دمشق، ودخلتُ على عبد الملك فسلمتُ عليه فقال لي: يا شعبي! بالله حدِّثني بأعجب شيء رأيتَهُ في سفرك! فحدّثته حديثَ التدمريين، فضحك حتى ضرب برجليه...".
••••
ثم روى ابنُ الجوزي عن محمد بن يونس الكديمي قال:
" كنتُ بالأهواز فسمعتُ شيخاً يقصُّ، فقال: لَمّا زوج النبي صلى الله عليه وسلم علياً فاطمة أمر طوبى أن تنثر اللؤلؤ الرطب يتهاداه أهل الجنة بينهم في الأطباق.
فقلت له: يا شيخ! هذا كذبٌ على رسول الله عليه السلام.
فقال: ويحك اسكتْ، حدّثنيه الناس.
قلت: مَنْ حدّثك؟ قال: حدّثني يمان البحري عن حفص التستري عن وكيع الجراح عن عبد الله بن مسعود عن الأعمش عن عطاء عن ابن عباس"![5].
••••
ثم قال رحمه الله:
"وفي القُصّاص مَنْ يسمع الحديث فيخلطه إذا رواه ويزيد فيه".
وذكر عن أبي الوليد الطيالسي قال:
" كنتُ مع شعبة، فدنا منه شابٌّ فسأل عن حديث، فقال له: أقاصٌّ أنت؟ قال: نعم. قال: اذهبْ، فإنّا لا نحدِّث القُصّاص. فقلت: لِمَ يا أبا بسطام؟ قال: يأخذون الحديث مناً شبراً فيجعلونه ذراعاً"[6].
••••
ثم قال:
"وفي القُصّاص مَنْ يسمع الأحاديث الموضوعة فيرويها ولا يعلم أنها كذب، فيؤذي بها الناس، وربما سمعها من أفواه العوام فرواها، وربما سمع كلامَ الحسن أو سري السقطي فقال: قال رسول الله..."[7]، وأورد أمثلة على ذلك.
••••
وقال السيوطي في "تحذير الخواص":
"أخرج السِّلفي في "الطيوريات" من طريق الفضل بن زياد قال:
سمعتُ أحمدَ بن حنبل يقول: أكذبُ الناس السُؤال والقُصّاص.
وأخرج الخطيبُ البغدادي عن حنبل بن إسحاق قال: قلتُ لعمّي في القُصّاص فقال: القُصّاص الذين يذكرون الجنة والنار والتخويف ولهم نيةٌ وصدقُ حديثٍ، فأما هؤلاء الذين أحدثوا وضعَ الأخبار والأحاديث الموضوعة فلا أراه"[8].
••••
ومِنْ أقوال الشيخ ابن تيمية في "أحاديث القُصّاص":
• حديث: ما وسعني سمائي ولا أرضي، بل وسعني قلبُ عبدي المؤمن.
هذا مذكور في الإسرائيليات، وليس له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم.
• حديث: حبُّ الدنيا رأس كل خطيئة.
هذا معروفٌ عن جندب بن عبد الله البجلي. وأما عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس له إسناد معروف.
• حديث: مَنْ أكل مع مغفورٍ له غُفِر له.
هذا ليس له إسناد عند أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب المسلمين، إنما يروونه عن سنان! وليس معناه صحيحاً على الإطلاق، فقد يأكل مع المسلمين الكفارُ والمنافقون.
• حديث: مَنْ قدَّم إبريقاً لمتوضئٍ فكأنما قدَّم جواداً مسروجاً ملجوماً يقاتل عليه في سبيل الله تعالى.
هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف في شيء من الكتب المعروفة.
• حديث: أنه مدَّ رجليه في المسجد، فأوحى الله إليه: يا محمد ما أنت في منزل عائشة.
هذا الحديث لا يُعرف له إسناد[9].
•••
هذه لمحةٌ موجزةٌ عن القُصّاص وأحاديثهم، أردتُ منها لفتَ الأنظار إلى ضرورة العناية بهذا التراث، وهو تراثٌ يربّي وينمّي الملكة النقدية لدى طالب العلم والواعظ والخطيب، وحبذا لو أُدخِلتْ مادة تدريسية تحت هذا العنوان في الدورات التطويرية والتأهيلية التي تعقدها وزاراتُ الأوقاف ودوائرُها في العالم الإسلامي لمن يباشرُ الأعمالَ الإرشادية المهمة.
[1] للدكتور الشيخ عيادة بن أيوب الكبيسي بحث بعنوان: "القَصُّ.. بين الهدف النبيل والانحراف المسيء"، نشرته حوليةُ الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد بباكستان.
[2] "الموضوعات" ط1 (1/32) و(1/8) من طبعة د. نور الدين بويا جيلار.
[3] صـ 295، 302- 303.
[4] كذا وفي عبارة: "حلفتُ لهم" وقفة.
[5] "كتاب القُصّاص والمذكِّرين" صـ 306.
[6] السابق صـ 307-308.
[7] السابق صـ 309-322.
[8] "تحذير الخواص من أكاذيب القُصّاص" صـ 251.
[9] انظر "أحاديث القُصّاص" صـ 53-54، 58، 73، 83-84، 93.
وسوم: العدد649