فانتازيا البحث عن الحقيقة

clip_image002_3ba90.jpg

صدرت رواية "فانتازيا" للأديب المقدسيّ سمير الجندي قبل أيّام عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي العراقيّ فاخر محمد، في 152 صفحة من الحجم المتوسّط.

"جلست على طرف مقعد حجريّ في ظلّ زيتونة روميّة شاخت منذ عقود، بيدي كتاب كنديد "التفاؤل" وبقربي صحيفة قديمة متروكة بغير قصد، فتحتها على صفحة الوفيات، فخيّل إليّ أنّ نصف أهل القرية قد فارقوا الحياة."

يكفي أن نقرأ هذا النّصّ من رواية فنتازيا للكاتب سمير الجندي  (ص 20) حتّى ندرك أنّنا سنحلّق في رحلة فلسفيّة، طابعها التّشاؤم وانعدام الأمل، في خضمّ رواية فلسفيّة بامتياز، وشخصيّة ترتحل تبحث عن الحقيقة التي "لها وجوه كثيرة لكنّها مغيّبة."  (ص 106). يحذو الكاتب حذو فولتير في روايته العالميّة كنديد، التي يرتحل بطلها في أرجاء الدّنيا بصحبة معلّمه المتفائل الذي كان يؤمن أنّ الأمور ستنتهي نهاية سعيدة دائما، ليكتشف أن العالم مليء بالنفاق والكذب والشّر، فتزداد خيبة أمله، ويصل إلى نتيجة أنّ الحياة السّعيدة لا تكون إلا حينما "ينصرف الإنسان إلى زراعة حديقته الخاصّة."

الشخصيّة الرئيسيّة في رواية فنتازيا هي شخصيّة الرّاوي، وهو تائه حائر حالم، يبدو أنّه مرّ بتجارب مريرة وخيبة أمل؛ فيحاول أن ينزوي في جوف الليل ويبتعد عن الحقيقة المرّة، ويشعر بالغضب والسّخط والاحباط. لكنّ نفسه، التي تظهر في الرّواية كأنّها شخصيّة أنثى مستقلّة، تقوده في رحلة بحث عن الحقيقة المفقودة، وتفسّر له ما يبهم عليه من الأمور، فينقاد خلفها، ليدرك في النّهاية أن هذه الحقيقة، والتي مثّلها الكاتب بشخصيّة حبيبته التي تبعث له الرّسائل الغامضة وتخبره أنّه سيجدها في إحدى العواصم العربيّة، غائبة ليس لها أثر في أيّ مكان، فيعود من حيث بدأ (إلى حديقته الخاصّة) لينتظر مرّة أخرى، تاركا فسحة من الأمل وإن كانت باهتة.

تبدأ رحلة الرّاوي من قريته، والتي ترك الكاتب اسمها ومكان وجودها مبهما لأنّه يرمز بها إلى كلّ البلدان العربيّة، والتي ترزح تحت ظلّ الظلم والطّغيان والاستبداد، فيصف أشجار القرية وقد شاخت، وطبيعتها وقد تغيّرت؛ لأنّ أهلها استسلموا للذّلّ والاحتلال، فمجتمع القرية ظاهره البراءة، لكنّه يرزح تحت أرث ضخم من المثالب الاجتماعيّة والمظالم. فهذه القرية التي مات نصف سكّانها؛ لأنهم جمدوا وتنازلوا عن حقّهم في الحرّيّة، أمّا النّصف الآخر فهم نيام، يصفهم الكاتب بأنّهم حيوانات ناطقة؛ تعبيرا عن سخطه. وهذه القرية احتلّها الغرباء وداسوها ببساطيرهم، وأصبحت سوقها كاسدة، وساسها ذاك الصّياد قبيح الوجه. فالقرية التي ابتدعها الكاتب تمثّل بحقّ كل البلدان العربيّة التي استمرأت الظّلم والهوان، وعندما بدأت تتململ مشرئبّة نحو الحريّة المنشودة، داسها الظّلمة والطّغاة ببساطيرهم العنيدة.

يقودنا الكاتب في هذه الرّواية في رحلة مضنية في خلجات نفسه، بأسلوب فلسفيّ لا يخلو من التّعقيد، يعبّر عن حالة التّيه الّتي يمرّ بها الإنسان العربيّ، خاصّة في هذه الأيّام حيث أصبح فهم حقيقة الأمور صعب للغاية، وبلغة مجنونة بقدر جنون الأوضاع في بلادنا. ويطرح الكاتب في روايته الكثير من القضايا الفلسفيّة التي لا يجد لها جوابا، منها: هل هناك حقيقة خالصة أم أنّ الحقيقة لها وجوه مختلفة وتفسيرات متباينة؟ وما هو سبب الشّر في هذا العالم؟ ولماذا لا يسوده الخير؟ وهل يتحرّك النّاس من أجل مصالحهم فقط، أم أنّ الخير موجود في النّاس بغضّ النّظر عن دينهم وأصلهم؟ وهل هناك ضوء في نهاية النّفق؟ وهل نحن نخترق عاصفة رمليّة عاتية لنصل في النّهاية إلى ما نصبو إليه، أم أنّنا سنبقى حائرين ضائعين؟

ولا يبدو الرّاوي مؤمنا بوعي الشّعوب العربيّة وقدرتها على الاختيار، ويغضّ الطّرف عن العرق الحيّ فيها، وعن أصالتها وتشبّثها بدينها وعقيدتها، والذي هو القلب الذي ما زال ينبض ببعض حياة، والرّوح التي تدبّ في أوصالها. يقول إنّ الغرب تقاطر على هذه الأمّة ليجهض سعيها نحو الحريّة، ونراه يقف في صفّ واحد مع هذا العدوّ! فنجده يكيل التّهم إلى الإسلاميّين الذين حملوا على عاتقهم شعلة الحريّة والمقاومة على مدى عقود طويلة، وكانوا هم الرّوح التي أبقت على بعض حياة في هذا الجسد المنهك، وما زالوا يدفعون ثمن حبّهم لهذا الوطن ويضحّون من أجله، فيقول في صفحة 25 "ولماذا أطاح الإسلاميّون بالعدالة في الشّام ومصر وبلاد ما بين النّهرين؟" وأتساءل، متى كانت تلك العدالة التي أطاح بها الإسلاميّون؟

 إنّ مَن جعل الإسلام نبراسا يهتدي به، وفهمه بعيدا عن أنظمة الحكم الفاسدة في العالم العربيّ، هم الذين يحملون رسالة الحريّة، ويتصدّرون المقاومة في كل مكان من وطننا العربيّ، بينما كثير من الذين يصفون أنفسهم بالعلمانيين كانوا وما زالوا الوقود الذي يسيّر الحكومات العربيّة المتخاذلة الخائنة، وأصبحوا يؤمنون بدين جديد أهمّ أركانه إقصاء الآخرين، وكفروا بالدّيمقراطيّة التي طالما تغنّوا بها، وطعنوها بخاصرتها لمّا عبّرت عن ضمير الأمّة الحيّ وأتت بغيرهم إلى سدّة الحكم. فكانوا هؤلاء بحقّ هم المسمار الذي وضع في نعش الرّبيع العربيّ، الذي لم يأتِ كما يشتهون.

وإن كانت رحلة الرّاوي في العواصم العربيّة غير مجدية، فهو لم يجد الحقيقة الضّائعة ولا الحريّة والعدالة المغيّبة، لكنّه وجد التّاريخ والأصالة، فدار في حواري القدس واصفا إيّاها متمثّلا قدسيّتها، وعرج إلى بغداد وتونس والقاهرة وأعطانا صورة تدلّ على تاريخ موغل في الحضارة، يُبقي بعض الضوء يشتعل بفتيل ذابل في كوّة الأمل.

وسوم: العدد 650