قراءة في رواية الهروب لسليم دبّور

محمد عمر يوسف القراعين

clip_image002_39584.jpg 

أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام ثنائيان ظهرا في مصر في النصف الثاني من القرن الماضي، هذا يقول الشعر وذاك يغنيه، فانتشرت أغاني الشيخ إمام النقدية بين الناس عندها انتشار النار في الهشيم، ليس في مصر وحدها، لأن الشعر يُحفظ لموسيقاه، وهو يستحق أن يدعى ديوان العرب، بينما الرواية ليس لها ذلك التأثير، حتى لو كان بطلاها أيوب وصابر، وهما يتبادلان الأدوار، أحدهما يهاجم المسئولين والواسطة، والآخر يجد الأعذار لهم. والغريب في أمر هذه الرواية في بدايتها، أن صابر الذي يجسد المأساة باحتجازه في مصحة عقلية ظلما، بعد مقتل زوجته دلال، عاطلا عن العمل، متشردا خوفا من إعادة احتجازه، بعيدا عن فلذة كبده، كان يجد أعذارا تبريرية للمسئولين الذين ينتقدهم أيوب، الموظف في شركة استثمارية والذي يستضيفه في بيته.  وحتى بعد أن فقد إحدى قدميه نتيجة انفجار لغم، وأصبحت له قدم اصطناعية من خشب أولا، فإنه كان يعتبر أن صديقه أيوب ينظر للأمور السلبية، ويحقد على صناع القرار، لأنهم دمروا البلد، فزميله الحاصل على امتياز مع مرتبة الشرف في الهندسة المعمارية، يبيع قناني التمرْ هندي والسوس.

ظل صابر على موقفه هذا، إلى أن فشلت مساعي صديقه مصطفى، في الحصول له على وظيفة مدير، بعد توقيع الرئيس على كتاب بتعيينه، ولجوئه للعمل الشاق في الباطون ثم في بيع الترمس، فلم يعد يدافع عن المسئولين وكفر بهم. لكنه حول سخطه مع صديقه أيوب إلى الاحتلال، خاصة عند اندلاع الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى، التي لم تلق من الزعماء والحكام سوى التنديد والشجب، لأن النخوة استُشهدت كما الحق والمعتصم. وهنا بدت للعيان صنوف العذاب والإرهاب، التي يتعرض لها المواطنون بدون تمييز، حيث أصيب أيوب عند إحضار عروسه من نابلس، وتعرضهم لإطلاق النار من المستوطنين، وانهيار عروسه عصبيا، كما لم يسلم صابر من رصاص الدبابة، وهو يسلك الطريق الوعر، لتجنب مراكز التفتيش، التي تمنع الناس من الوصول للمدينة، حيث يتم إلقاء القبض عليه، واتهامه وهو الأعرج بالقفز على الدبابة، لإلقاء قنبلة بداخلها، فيستعرض طرق التحقيق والتعذيب المختلفة التي يتعرض لها السجناء بشكل بشع ومأساوي.

في منصف الرواية، يتمتع صابر بفترة استقرار مع ولده، وحصوله على وظيفة منسق ومترجم في إحدى مؤسسات المجتمع المدني، بدعم من الحاج محمد، الذي أعاد إليه ابنه صابر، وزوده بمبلغ من المال ليجهز نفسه للوظيفة وطفله للمدرسة. وهنا ينهي الراوي حكاية أيوب وصابر وينتهي الفيلم، ولكن يبدو أن هذه وقفة من وقفات الحكواتي في رمضان، فيما شهرزاد لم تسكت عن الكلام المباح، حيث أن الانتفاضة زادت عسكرةً، وتسارعت أعمال القصف من قبل الأباتشي واقتحام المدن، حتى أن المقاطعة في رام الله لم تسلم من هذاالقصف، فلم يكن أمام صابر بد من المشاركة في الكفاح، ولو على الأقل بمساعدة الجان الذي يزوده بطاقية الإخفاء، فشرع يطلق النار على الدبابات ويفرقها، فيظن من في المقاطعة، ويا للسخرية، أن طائرات الدول العربية هي التي فرقت الدبابات.

وكما يقولون" نجاح يجر نجاح وكذلك الفشل"، كما أن إصابة ابنه صابر برصاصة طائشة جددت نشاطه، فمضى في كفاحه أولا ضد التجار المستغلين الذين يرفعون الأسعار. أما محاصرة كنيسة المهد، والتوغل في مخيم جنين، وما لحقه من مجازر ودمار، وإصابة أيوب برصاصة انشطارية في قدمه أدت إلى قطعها، كل ذلك زاد في إشعال جذوة النضال لديه، ولو عن طريق وظيفته كمترجم للوفود التي تزور المخيم. وهنا يسرد المؤلف تفاصيل عن أحوال الناس في حياتهم العادية، بشكل قصصي يعطي معلومات عما يعانون، قد يعتبره البعض غير ضروري، ولكنه يدخل في الرواية بشكل طبيعي، مثل إطلاع الوفود على ما يجري، والمعاناة من الاحتلال والقنص والألغام، والتقصير في نقل هذه الأحداث للعالم؛ ولو أن الرواية تعود وتوضح أن عضو الوفد الذي زار المخيم، وكتب في الصحف عن مشاهداته، اتهم من قبل أعداء القضية الفلسطينية بمعاداة السامية وحُرقت سيارته. 

اكتظ الثلث الأخير من هذه الرواية الهادفة للنقد والتوثيق والتوجيه، بإبراز شتى الوسائل التي استعملها الاحتلال، في قمع الانتفاضة والمقاومة، من القتل والقصف وحظر التجول، لتجويع الناس بنقص المواد الغذائية، وإشاعة البطالة بإغلاق المؤسسات، وتأخير الرواتب وقطع التيار الكهربائي، وإطلاق النار حتى على خزانات المياه. ولكن من الناحية الأخرى، ظهرت بوادر إيجابية في التكافل الاجتماعي بين الناس، ونشاط مؤسسة رعاية الجرحى وأسر الشهداء، بالرغم من قلة الأدوية في المستشفيات وخاصة مسكنات الألم، كما ظهرت هَبّات أحيانا، بخروج جموع المواطنين يتحدون حظر التجول بالتكبير والتنديد، فيهرب الجنود، ويقوم الناس بإزالة الحواجز، وردم الخنادق للوصول إلى القرى المحيطة بالمخيم، وجلب المواد الغذائية، وإصلاح المولد الكهربائي، ومن هنا ربما ظهر عنوان الرواية " الهروب ".

يُبرز المؤلف على لسان البطل صابر بعض المفاهيم الإنسانية، مثل كرهه لقتل المدنيين عند استهداف الإسرائيليين، والتفريق بين اليهودية والصهيونية، وأحلامه بالعدل والسلام، إذ يؤكد على أن تحقيق السلام في كل العالم، رهن بتحقيق العدل والمساواة والحرية لكل الشعوب، هذا بالإضافة إلى قيام صابر بدور الواعظ الناصح لأيوب، عن التوافق الروحي، والإحساس العاطفي النبيل بين الزوجين، وعن ظلم الرجال للنساء. ومكافأة لعطفه على الرجل الفقير، الذي جرفت السيول خيمته واستئجار شقة له، حقق الله دعوة طفلته بأن يُرزق صابر نقودا يعجز عن عدها، فورث صاحبنا مبلغ ستة عشر مليون دولار عن شقيقه، فرح بها أولا، ووزع قسما منها مؤنا على العائلات المستورة. ولما تبين أنها مال حرام، عادت إلى من أتى بها. ومن المؤسف أن الفيلم انتهى بفقدان البطل إحدى عينيه من جراء رصاصة مطاطية، غير أنه بقي في نهاية المطاف شريكا لصديقه أيوب في حانوت للمواد الغذائية، ولا يدوم إلا الحلال. وأخيرا يقف المؤلف واعظا في خطبة لتحريك الشعوب لأخذ دورها في الوقوف مع العدل ضد الظلم، مكملا دور الرواية المطولة، التي كان بالإمكان اختصارها، فالعبرة ليست بالطول، فمائة عام من العزلة لغبراييل جارسيا ماركيز خمسمائة صفحة، يمل الواحد من قراءتها، كما أن الناس أيضا ليسوا بالطول، فقد قال أحد الحكماء: الناس في قريتي يقاسون من الرقبة فما فوق. 

"ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع"

وسوم: العدد 654