رحلة عقل في دروب الفكر والأدب
"رحلة عقل فى دروب الفكر والأدب" صدر مؤخّرا من مكتبة جزيرة الورد للدكتور محمد يوسف عدس الذي اتسمت كتاباته بأسلوب عرض يجعلها مصدر نفع ومتعة عقلية لقارئها.
هذا الكتاب سياحة فى أعماق الحياة والكتب ؛ إنها تجربة عقل نَهِمٍ لا يتوقف عند الأشكال والظواهر البرّانية ، وإنما يغوص إلى الجذور والأعماق باحثًا عن حقائق الأحداث والشخصيات الإنسانية . ولأن مؤلّفه لا يزال مؤمنا بأهمية الكتب فى تحصيل المعرفة الإنسانية- سترى فى استعراضه ومصادره عشرات الكتب ، على جانب كبير من الأهمية .
بعضها ينطوى على قصص بالغة الغرابة -ربما- تلفت نظرك بالصياغة الأدبية لمضمونها؛ فتحسبها قصة من صنع الخيال ، ولكنك ستكتشف أنها تتناول وقائع وأحداث ، وشخصيات حقيقية ، غير أن كاتبها قد آثر استخدام أسماء مُنتحلة لهم : إمَّا تجنُّبًا للمساءلة القانونية- كما فى قصة "زنبقة النهار" التى يتحدث كاتبها عن علماء منخرطين فى بحوث وانتاج أسلحة سرية لحساب البنتاجون لأمريكي .. وإمَّا لأن الشخصيات الواردة -أغلبهم- ينتمون إلى أسرة الكاتب نفسه .. كما فى رواية "العالم الذى خلّفه وراءه" وهي رواية لأديب مصري فى المهجر الأسترالي ..
فى إطارالأدب والنقد الأدبي يطرح الكتاب قضية مثيرة للجدل ؛ فقد دأب بعض كبار الكتاب على الاستدلال بالأعمال الأدبية لتأكيد أو تفنيد قضايا سياسية معينة يسعوْن لترويجها ، وبعضهم يستتر باصطناع الأدب للنيل من شخصيات ورموز إسلامية .. متعلّلًا بحجة أنه يكتب قصة أو شعرًا ؛ ومن ثم فهو أو هي غير ملتزميْن بالحقائق الموضوعية أو التاريخية؛ لذلك يحاول هذا الكتاب الإجابة على هذا السؤال: هل يصِحُّ أن يتحول العمل الأدبي إلى وثيقة تاريخية..؟! وهو هنا لا يناقش القضية من الناحية النظرية فحسب وإنما يضرب الأمثال من الواقع ؛ حيث يستعرض أخطاء كُتَّاب مرموقين مثل محمد حسنين هيكل ، ويفنِّد مزاعمهم ..
ولأن بعض الانتاج الأدبي المتميّز يلقى من أجهزة الدولة الرسمية فى الثقافة والصحافة والإعلام إعراضًا وإهمالا ملحوظًا ، حرص هذا الكتاب على أن يستعرض بعض الأعمال الأدبية التى جنَى عليها النظام القمعي فغيّبها عن نظر المثقفين المتشوّقين لأعمال جادة فى الإبداع الفني .. فى الوقت الذى سمح للأعمال الهابطة بل التافهة أن تملأ الفراغ الأدبي . ومن ذلك أن تتولى أجهزته الثقافية الترويجَ لأعمال أدبية صادمة لعقيدة الأمة مجدّفة فى دينها ومقدّساتها .. لذلك ستجد نقدًا لرواية "وليمة لأعشاب البحر" وكتبًا أخرى أصدرتها وزارة الثقافة فى سلاسلها المشهورة مثل: كتاب "المختار من الأغاني للأصفهاني" .
أما نموذج الأدب الرفيع الذى تمّ حظر تداوله فوْر نشره ، فستجده فى عرض الكتاب لمسرحية شعرية بعنوان: "البعث ..." للدكتور صلاح عدس.. علمًا بأن مؤلفها قد تم اختياره مِنْ قِبَلِ وزارة الثقافية لتأليف مسرحية فى موضوع متّفقٍ عليه ، وبناء عليه منحته الوزارة "منحة تفرُّغ" لمدة عام لإنجازها ، ولكن المؤلف قدّم رؤيته الخاصة فى الموضوع ، التى لا تتفق مع تصوّرات الوزارة وتوقُّعاتها ، فأهالت عليها التراب.. وسيتضح للقارئ أسباب هذا وتفاصيله ..
ولأن الإنصاف فضيلة تكاد تكون مهجورة فى هذا الزمن الذى اضطربت فيه القيم الأخلاقية، واختلطت فيه معايير الخير بالشر ، حرص هذا الكتاب على أن يزيح بعض الالتباسات الفكرية التى أحاطت ْ بشخصية الأديب الكبير نجيب محفوظ ، وألصقت به صفة الإلحاد .. وسيندهش القارئ أن يطّلع –ربما لأول مرة- على حقائق موثّقة اكتشفتُ بعضها بالصدفة المحضة ، وبعضها الآخر بالبحث الدقيق ، تنفي عن نجيب محفوظ تهمة الإلحاد ، وترفع عنه شيئًا من الظلم وسوء الظن الذى تسبّبَ فيه أصدقاؤه العلمانيون، قبل أعدائه الإسلاميين.
ولا تعجب أن تجد –على نفس المنوال- محاولة لإنصاف شخصية أخرى فى مجال آخر وزمن آخر ، هي شخصية الفقيه والداعية والمجاهد "ابن تيمية" الذى توفّر على تشويه صورته عند الناس بعض الإسلاميين المعاصرين ؛ الذين نسبوا إليه كل الفتاوى والآراء المتشددة فى الدين ، وشاركهم فى تشويه صورته فقهاء السلاطين فى عصره ، والزنادقة المارقون فى عصرنا . لقد وصمه بعض معاصريه بالكفر فى كتاباتهم وأشاعوا مقولتهم بين العوام ..؟! حتى ليحتاج الأمر إلى أن يؤلف فيه أحد تلامذته المسمَّى "ابن ناصر الدمشقي" كتابًا يبرِّئه من تهمة الكفر بعنوان " الرَّد الوافر على من زعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية كافر". ستقرأ تفاصيل هذه القصة فى "ابن تيمية المفْتَرَى عليه".
وهكذا يطوف بك هذا الكتاب فى مختلف القضايا الفكرية والأدبية والسياسية طواف المتأمل المحلل المتأنّى ، الحريص على تجلية الحقائق وإزالة ما لحق بها من زيف وتحريف ..
ويفتح عينيك على قضايا وطنية وإسلامية وإنسانية قد تبدو لك غير ذات أهمية ، ولكنك ستكتشف بعد اكْتِناهِ حقائقها أنها ألزم ما تكون للمثقف المعاصر؛ وهل يمكن أن ينكر مثقف جاد معنيٌّ بهموم أمته فى هذا العالم الذى تصْطَخِبُ فيه الأفكار والقوى لتشكّل واقعنا العالمي الذى نتحرّك فيه ، ونريد أن يكون لحياتنا ووجودنا معنى وفاعليه..؟! هل يمكن أن نتجاهل أسئلة حيويّة كهذه:
- هل الصدام حتمي بين الإسلاميين والعلمانيين..؟
- الأموال المنهوبة من مصر.. هل يمكن استردادها..؟
- الديمقراطية البريطانية كأعظم وأعرق ديمقراطية: كيف نشأت وكيف تم تفكيكها.. وما هي الأسباب والدوافع التى تقف وراء هذا وذاك..!
- كيف تم بناء الاتحاد الاتحاد السوفييتي ، وكيف انهار..؟ وما العبرة فى هذا بالنسبة لنا..!
- وكيف تمكنت دولتان مسلمتان من العالم الثالث هما: تركيا وماليزيا أن تحققا نهضة مرموقة رغم الأنواء والمعوّقات .. وكيف استطاعتا الوقوف على أقدامهما بين الدول المتقدمة معتمدتين على مواردهما الخاصة ، وسواعد أبنائهما..؟
وقضايا أخرى كثيرة من هذا القبيل تطالعك فى ثنايا هذا الكتاب .. أرجو أن تتحقق الفائدة منها للقارئ الجاد ؛ الباحث عن الحقيقة وعن المتعة العقلية فى آنٍ واحد ..
وسوم: العدد 656