رواية بورسلان وفلسفة السياسة
صدرت رواية "بورسلان" للكاتب أيمن عبوشي عان 2015، عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، وتقع في 194 صفحة من الحجم المتوسط.
يدخلنّا الكاتب في صراع بين " الآنا" و "الآنا" الآخر في روايته. اختارالكاتب عنوان روايته " بورسلان" ليلخص أحداث الرواية وبطلها الضعيف الذي أخفى هشاشته بإفعاله الماكرة حتى سقط وتهشم، وأصبح فتاتا لا قيمة له .
فالوزير الذي حاول نكران نفسه، وجد نفسه يمتثل أمام لجنة تحقيق، ويسرد روايته مدافعًا عن نفسه ومكانته الاجتماعية المرموقة، أو التي ادّعى أنّها كذلك؛ ليتماشى مع المجتمع المخملي، موضحًا بأنّه كان مجرد رئيسًا لقسم التربية الرياضية، وخادمًا للوطن أوكلت إليه مهمة سرية وهي كتابة التقارير، وكان مخلصًا لعمله محبًا للنظام ورجالاته، فحاول أن يكون ملمًا بالفن التشكيلي والموسيقى العريقة؛ للتواصل مع المجتمع المرموق ذي الأجواء الباريسية الفاخرة، فارتدى أفخر الملابس والأحذية قبل أن يصاب بوعكة صحية ألمّت به، وجعلته طريح الفراش، ليفاجأ بعد ذلك بوجود شخص آخر طبق الأصل عنه في بيته يعبث بمحتوياته، ويأكل من طبقه ويشبهه في كلّ شيء، حتى رائحته النتّنه التي ظن نفسه أنّه تخلص منها، وبأنّ " المستنسخ" كان يحاول النيل منه وسلبه مكانته الاجتماعية والقضاء عليه، ليفكر الآخر بحياكة مكيدة للاطاحة به والتخلص منه إلى الأبد، ليعود إلى منزله وحياته الاجتماعية، محمّلا مسؤولية كل ما حدث معه بعد ذلك للرجل القادم من العدم، فوجد نفسه ينتقم من ذاته، ويطيح بها الى قعر الجحيم، ويدخل نفسه في دهاليز السجون والتحقيقات والتعذيب، سالبًا نفسه بنفسه حياته، فلم يكن "المستنسخ" إلا وليد ضعفه وخيباته، ولم يكن سوى نفسه الوصولية الوضيعة.
"الثورة يصنعها الشرفاء، ويستغلها ويرثها الأوغاد"
يأخذنا الكاتب الى عالم ليس ببعيد عنّا، بل يحيط بنا من كل جانب .. عالم السياسة وقوة النفوذ والهيمنة والاغتيالات، فالسمك الكبير يأكل السمك الصغير لا محالة، لم ينس الكاتب ما يسمى "بالربيع العربي" بل وضعنا في عمق أحداثه وصراعاته الدموية، التي باتت معروفة فيما بعد، بعد معارك استنزفت عقل وقلب المواطن العربيّ، الذي أصبح يعيش في ظلّ الفوضى والشك وخيبة الأمل، ولم يدرك أنّ عالم السياسة لا يوجد في قاموسه معنى لكلمة حرية، فلم تكن إلا شعارًا يخدع بها جيلاً حالمًا ملّ الفقر والتعاسة طامحًا بالتغيير، فاختلط كلّ شيء وانتشرت الفوضى، كانتشار النار في الهشيم، فاختلط الحابل بالنابل، والشريف بالخائن ومدّعو الوطنية والمتسلقين على أكتاف البسطاء، الذين خيّل اليهم أنّهم أمام ديمقراطية عادلة صنعوها بأيديهم في انتصارهم الوهميّ، بعد سقوط أنظمتهم، فوجدوا أنفسهم بين فكيّ الثعبان من جديد بإختلاف المسميّات وبعباءة جديدة ليس إلا.. ولم يحصدوا سوى المزيد من القتل والدمار وسلب الحريات .
يتحول بطل الرواية من قاتل ووصولي عديم المعرفة إلى بطلٍ ثوري ورمزًا للثورة،وبعد ذلك وزيرًا للتعليم العالي بعد سقوط النظام، وتشكيل الحكومة الانتقالية ..فلم يستطع ذلك الوزير وهو يسرد تفاصيل ماحدث معه اخفاء نرجسيته وساديته المفرطة، والتلذذ بأفعاله القبيحة مبررًا ذلك بأنّه لمصلحة الوطن .."فخائن تائب أفضل من مناضل ملّه الناس " ويا ليته تاب، فاستمرّ بعنجهيته متباهيًا حتى بعد إقالته من منصبه وإحالته إلى التقاعد .
" ما أسهل أن يحملوك على أكتفاهم "!
عبارة قالها الوزير المتّهم ضاربا بعرض الحائط كل المبادئ الانسانية، مفتخرًا بخداعه للجميع وتقمصه دور الوطني الذي يعشق الحرية، ويكره الظلم والاستبداد، وهو الذي لطالما انتمى لصميم النظام البائد، أمّا لجنة التحقيق فلم تكن سوى مسرحية ساخرة ليست غريبة عليّنا، وكيف لا وهو صنيع الحزب الذي يترأس كباره لجنة التحقيق التي مَثُل أمامها، وأداة كانت تعمل لصالحه، فكان التخلص منه أمرًا محتومًا، وذلك لمصلحة الحزب التي اعتبره آفة بقاؤها سيطيح بهم كأجحار الدزمينو واحد تلو الآخر، ولكن الانسان عدو نفسه، وكان الوزير ضحية نفسه، ضحية رجل السردين ذي الرائحة النتنة، التي بقيت حتى بعد مقتله وتهشيم عظامه، فظلت الرائحة تفوح بالأجواء معلنة أنّها باقية مهما حاول صاحبها الهرب منها، لم يعرف الكاتب عن الزّمان والمكان تاركًا للقارىء تلك المهمة السهلة، فالزّمان هو زمن الفيسبوك، وما يعرف بالربيع العربي والصحافة الصفراء، التي كان لها الدور الأكبر في خداعنا، وبثّ سمومها لصالح انتماءاتها السياسية، أمّا عن المكان فهو وطننا العربي ..امتازت الرواية بالتشويق والغموض، وباسلوب فني جميل وعمق فلسفي، وسرد مباشر، وامتازت أيضًا بالحبكة القوية، حيث تناولت قضايا كثيرة متتالية في عالم السياسة.
"ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع"
وسوم: العدد 657