رواية "بورسلان" .. والفساد السّياسيّ
عند انهيار القيم الإنسانيّة داخل النّفس البشريّة، ونشوب حرب دامية مع الرّوح الداخليّة، يُصبح ميزان المحاسبة يتأرجح ما بين الخير والنّزوات الشّريرة. متاهة الجسد هو مسّ من الجنون تتبعه كارثة ومصيبة، ويوشك الإنتقام من الذّات وقتلها الوسيلة البائسة الوحيدة، وأحيانًا يخرج الإنسان عن طوعه ويصاب بإنفصام في الشّخصيّة. رواية "بورسلان" السّياسيّة الإجتماعيّة للكاتب "أيمن عبوشي" الصّادرة عن دار الجندي للنّشر والتوزيع في القدس لعام 2015، والتي تقع في 194 صفحة من القطع المتوسّط، هذه الرّواية بدأت أحداثها في مكتب النّائب العام حيث التّحقيق جارٍ مع وزير التّعليم العالي بتهمة إنتحال شخصيّة، وتقمّصه دورًا مهمّا في الحكومة عن طريق التّزوير.
الكاتب "العبوشي" يستخدم أسلوب السّرد الرّوائيّ من ناحية، ويُتيح لشخصيّة الوزير الرئيسيّة التّحدث عن نفسه مع بعض الحوارات بينه وبين شخصيّات ثانويّة في الرّواية من ناحية أخرى. كما أنَّ الكاتب لم يذكر إسم الوزير، أو حتّى إسم المكان الذي إحتضن الأحداث، إلاّ أنَّ القارئ المُطّلِع سيُدرك في الحال إلى أين ستقودنا مجريات القصّة. كان معاليه يعيش وحيدا، ولكنّه كان يحمل معه رائحة كريهة تُنغّص عليه معيشته، وتحمله على الضّجر الدّائم منها. في إحدى الليالي وَجَدَ شخصا في شقّته يُشبهه ويتصرّف مثله تماما، وكأنّه مُستنسَخ عنه روحا وقلبا وقالبا، ليبدأ صراع وقتال وحديث وجِدال بينهما، إلى أن إنتهى به المطاف هربا إلى الشّوارع والأحياء الفقيرة النّائية خوفا من القتل. أمّا هذا المُستنسَخ، والذي أسماه الوزير "رجل السّردين"، لأنَّ الرّائحة إنتقلت إليه كلّيًا، أخذ مكانه في العمل الوزاريّ، وأخذ كذلك شقّته. شعور بالإنتقام وإرتكاب الجريمة أصاب معاليه، لكن كيف له أن يقتل نفسه، وهو أنا، وأنا هو؟ جارت عليه الدّنيا فترة من الزّمن تعرف خلالها على الشّيخ " عزمي" بائع الفول المُتجوّل، وقد أواه الأخير في خرابة يسكن فيها. لم يحفظ العهد وخان المعروف، ودفن هذا الشّيخ حيّا دون رحمة بعد أن إكتشف أنَّ بحوزته أموالا كثيرة، فسرقه وغادر المكان.
الكاتب هنا ينجح في إظهار شخصيّتين شبيهتين ومتناقضتين في المبدأ، وعلى القارئ أن يبدأ بالتّمييز بينهما، مع أنّهما شخص واحد ذو بصمة واحدة، إلاّ أننا نتكلّم عن الرّوح التي تسكنهما. يُصبح "رجل السّردين" مواليا للنظام والفساد ضد الشّعب، ومعاليه تشتعل في داخله نار الإنتقام، وذلك الوسواس القهريّ الذي انتابه، وهو الأخير أصلًا يعلم جميع أسرار وخفايا النّظام، لأنّه كان يعمل جاسوسا خاصًّا لرأس الهرم السّياسيّ. إستطاع أن يوقع بالشّبيه بتهمة النيّة لإغتيال الزّعامة، فيُسجن ويُعدم بطريقة بشعة.
عنصر التّشويق في الرّواية ما زال في أوجه ويبقى يتنقّل معنا، وعاطفتنا مُنصبّة على معاليه، كيف سيعود لحياته وهو ميت في نظر الحكومة! نجد أنَّ الكاتب كغيره من عامّة النّاس، فتح باب الإنتقاد السّياسيّ، ونَبَش عفن السّلطة الحاكمة، هذا الباب المُتآكل تفوح منه رائحة فساد نتنة لا تخفى على العيان. تتوالى الأحداث الجانبيّة إلى أن يُمسك به النّظام، ليواجه شرّ تعذيب وتنكيل في أبشع صور يُظهرها الكاتب عن سابق معلومات واردة من داخل السّجون. إنفجار الثّورات كان الفرج والأمل الذي لم يتوقّعه، فيخرج حرّا طليقًا كبطل ثورة، منتصبًا على أكتاف الجماهير، وتبقى حياته على شفا هاوية تائهًا ما بين الولاء للنّظام الفاسد، وبين مناهضة الإنقلاب، وذلك الإحراج الأمنيّ والسّياسيّ. "العبوشي" يولج في روايته دور الصّحافة، كسلطة رابعة في الدّولة، ترفع مَن تشاء وتُذلّ مَن تشاء، فكان الحظ من نصيبه وعُيّن وزيرًا للتعليم العاليّ. يعود بنا الكاتب إلى مكتب النّائب العام حيث البداية والتّحقيق، وخفقان معاليه في تبرئة نفسه من تهمة الإنتحال، فيستقيل مع ضمانات العيش براتب تقاعديّ وبيت ومركبة. غلاف الرّواية تعلوه صورة تمثال من البورسلان المُحطّم، وممّا لا شكَّ فيه للّوهلة الأولى، نشعر بدواخلنا نوعا من عدم الإرتياح، فكانت بالفعل تلك النّهاية المأساويّة لحياة معالي الوزير حين إنفجرت مركبته وتطاير أشلاء. وتُعاود تلك الرّائحة تغزو أجواء المكان وتُريع المُعزّين، في لفتة ذكيّة من الكاتب بأنَّ الظُلم أصبح مُتوارثًا بين النّاس! ولو قُدّر لهذا الوزير أن يعرف مصيره المحتوم، لنقش على تابوته كلمة "هَزُلَتْ" بدلا من جدران السّجن.
الحياديّة في الرأي كانت من سمات الكاتب، والصّورة الخياليّة التي إبتدعها أحدثت إضطرابا وتفاعلا غير مسبوق النّظير. وقد ظهرت الحبكة في أماكن متعدّدة تبعا للأحداث الدّراميّة المتلاحقة في الرّواية، ناهيك عن الكلمات المُستخدمة ذات المعاني المباشرة، واستحواذ فِكر القارئ ببعض النّصوص الحكيمة التي تُعطي مدلولات عميقة لطابع الإنسانيّة والحياة.
وسوم: العدد 657