الكناشة الحموية (2) هموم شعرية
تحكي القصة المشهورة عن الخليل بن أحمد الفراهيدي أن رجلاً جاء يتعلم على يديه علم العروض ولكنّه لم يستطع أن يهضمه ولا أن يتقدم فيه فكتب له الخليل بيتاً من الشعر لعمرو بن معديكرب ليقطّعه عروضياً وهو:
إذا لم تستطع شيئاً فدعهُ *** وجاوزه إلى ما تستطيعُ
ففطن الرجل إلى الإشارة وخرج من المجلس ولم يعد إليه.
ويحكي بشارة الخوري بداياته مع الشعر حين كان يتردد في صباه، وهو دون العشرين من العمر، إلى حلقة الشيخ اسكندر العازار شيخ الحلقات الأدبية في ذلك الزمان. كان يقرأ على الشيخ قصائده فيتناولها بالنقد اللاذع وهو يردد: لن تكون شاعراً يا بشارة، أنت صحفي، دع الشعر لسليم، مشيراً بذلك إلى سليم العازار أحد أعضاء الحلقة. يكمل الأخطل الصغير القصة ويقول: ذات ليلة كنا في مقهى من مقاهي بيروت البحرية نجلس حول الشيخ. فالتفت إليّ فجأة وقال: هات ما عندك يا بشارة.. فقرأت عليه قصيدة لا أذكرها. فلما انتهيت تبسم وهو يحمل صدفة من صدفات التوتيا يعمل سكينه فيها ويتناول لحمها اللذيذ وقال: شعرك مثل التوتيا هذه، جزء من اللحم اللذيذ وتسعة وتسعون جزءاً من الصدف الشائك الذي لا يصلح لغير.. وهنا توقف عن الكلام ونظر إليّ ساخراً ورمى الصدفة في البحر. إلى أن جئت الحلقة ذات يوم بقصيدتي التي مطلعها:
عشت فالعب بشعرها يا نسيمُ *** واضحكي في خدودها يا نجومُ
فصفق لها الشيخ وهلل، ثم ربّت على كتفي قائلاً :"ظل بشارة يهذي حتى نطق بالشعر أخيراً"
وكان عباس محمود العقاد يصف الرواية - وكانت يومها فناً جديداً على آداب العرب - بقوله : "قنطار خشب ودرهم حلاوة" فهي برأيه تستهلك قنطاراً من من الورق الذي يصنع من الخشب من أجل درهم من الحلاوة وهو الفكرة أو المغزى أو المقولة التي ستخرج بها من هذه الرواية بخلاف الشعر الذي يعطيك الحلاوة في كل بيت تقرؤه.
-----------------
بعد كل هذه الأمثلة أقول: هل سينفضّ عن الشعر مَن لا يعرفون كامله من وافره ويفهمون الإشارة كما فعل ذلك الرجل اللبيب إن نحن أعطيناهم بيتَ عمرو بن معديكرب ليقطّعوه أم ستمدهم أوهامهم في غيهم الشعري ؟!
وهل سنطمع أن نسمع ممن ما زال يهذي ويهذي بيتاً كبيت الأخطل الصغير أم أن الهذيان سيبقى سيد الموقف؟!
وهل سنمنّي النفس في درهم من حلاوة الشعر ضائعٍ في قناطير مقنطرة من الخشب الشعري الجاف أم أن ذلك دونه خرط القتاد؟
وسوم: العدد 657