محبرة الخليقة (63)
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً
وتعبّر لازمة التساؤل المفتوح : تُرى من تكون ؟ عن الأزمة الدوّامة المرآوية التي تُظهر العجز الفادح لدى صاحب السؤال . فلو كان اليقين مؤكّداً حول كينونة الـ "أنتَ" لأنهت العودة المشتركة أو البدء المشترك من "الملح" – "أبيض" الخليقةِ – شكوك فارق الاصول الذي يعذّب الشاعر الذي يشعر في قرارة نفسه بأنه لا يحوز مثل هذا الأصل "الملوكي" إذا جاز الوصف ، وأن غريمه في الوجود "الأنتَ" لا يتبع السلسلة التحوّلية الطويلة التي جعلت أيّ شيء ينطوي على كل غموض الولادات والخلق . فقد غادر الملحَ مثل غيمٍ وصار في كلّ شيء ، لكنّه – وهنا الفارق الجذري الرهيب – قد أمسك مفاتيح مصائر كل تلك الأشياء ، وصارت تفتّش عنه فيها لأنه سبب وجودها وبقائها . "هو" - وهنا صار غيباً بعد أن كان حضوراً في "الأنت" مشهوداً (عالِم الغيب والشهادةِ) – لا يفتش عنه بل تفتش عنه كل الأشياء لأن في غيابه تحطّم دورة وجودها بين ولادة فموت وانبعاث . تتكسر دائرة "الملح" وتترسّب في فراغ وحشي اسمه الموت :
( تُرى
من تكونْ ؟ !
وهلْ أنتَ ملحكَ ؟ !
أمْ أنتَ غادرتهُ مثلَ
غيمٍ ، لتصبحَ في كلِّ شيءٍ ، ولا يصبحَ الشيءُ
أنتَ ولكنْ يفتّشُ عنكَ لا عنهُ فيهِ ،
فإنْ لمْ يجدكَ ، فلا ملحَ يرجعُ يوماً إليهِ
ويخرجُ منهُ ، فيغدوْ كصوتٍ
علاهُ السكوتُ .
ويدخلُ في أنهُ
لا مكانَ لهُ فيموتُ .
تُرى
من تكونُ ؟ ! – ص 1624 و1625) .
ومن لحظة الإمساك بحركة المصائر المتجبّرة هذه ؛ لحظة أن تصبح لهذا الموشّح الجميل الجليل خاتمة ، وللنص الكوني نقطة أخيرة تختمه ، يبدأ رعب السؤال ، وتتحوّل تلك السلسلة الرائعة من غموض تحولات الولادات والخلق ، إلى سؤال يحزّ رقبة الوجود كل لحظة . ويصبح موقف "أنا" الشاعر تجاه "الأنت" موقف سؤال صغير في لجّة الكون .. لكنه السؤال الأول والأخير . فالأنا كان طافياً على أجنحة نصّ الغمام ، ومغيّباً في لعبة : من وإلى الملح ، ودائرة : غموض الحضور ووضوح الغياب . كان الأنا جواباً قد تقرّر في باطن الحدس ، إلى أن "ظهر" الموت فصار الأنا – مفرداً في صيغة الجمع - عبارة عن سؤال ، يتسلّم عصاه اللاحق من السابق كالعدّائين ، ليختفي لاهثاً خلف من سبقوه دون أن يحمل معه جواب السؤال .. وهكذا :
( تُرى
من تكونُ ؟
هربتَ من الموتِ ، لكنْ ، لتوقِعَ
غيركَ فيهِ . توزّعتَ في اللانهائيِّ ، وزّعتَ غيرَكَ
في أنْ يجيءَ ليبحثَ عنكَ ، فيعرفَ شيئاً ، ويمضيْ ،
ليبحثَ عنكَ الذي سيجيءُ ، ويمضي كمثلِ الذي
قدْ مضى . كلُّ منْ سيجيءُ سيبحثُ ، حتى إذا فتحَ
البابَ ظنّاً بأنّ الذي خلفهُ أنتَ ، فوجيْ في
أنهُ لم يسقهُ
اليقينْ
بقافلةِ الراحلينَ بعيداً ،
بغيرِ سؤالٍ جديدٍ :
تُرى
منْ تكونْ ؟! – ص 1625) .
ولاحظ أن الفعل "هربت" مع طابعه التحرّشي الخطير يكشف أن الإنسان لا يستطيع إلّا أن يخلق الله على "صورته" بحركة مقابلة . أمّا تكرار لازمة سؤال العذاب : تُرى من تكون ؟ فيعقبها في كلّ مقطعٍ تقليب لغز معرفة "الأنت" وأسرار "نصّه" على وجهٍ من وجوه الحيرة المعتمة ، وكلّ وجه هو سمة قدرة أو "طبائع" كما يسمّيها السومريون القدماء في علاقتهم بآلهتهم ، أو إسم من الاسماء الحسنى كما نسمّيها نحن الآن . ولا تدوم خيبة اللاهثين لمعرفة الأنت إلّا لأنهم قد اعتقدوا أن الوقوف على واحدة من هذه السمات الطبائع أو الأسماء الحسنى يكفي لإلغاء الشكوك في نفوسهم ، في حين أن الخيبة تتفاقم لان الأنت ليس هذا الذي يجزّئه الراحلون أو القادمون . إنّه سؤال الطبائع نفسه : تُرى من تكون ؟ ! السؤال الذي يلتف على نفسه ليطعم شكّ كل النفوس . ومفارقة هذا السؤال المضاعفة أنّ النص الذي ألّفه "الأنت" كي يكون الجواب ، قد أغلق الباب على سؤاله ، فصار الجواب سؤالاً وظل السؤال "سؤال" ، ففي النصِّ "نقّح" الأنت حبر الجواب فصار سؤالاً ، وحلّت ظلال الأجوبة الصغيرة التي تضمنتها سلسلة غموض الولادات والخلق تحت خيمة السؤال الكبير فضاعت وصارت دليلاً على اللاجواب المدوّخ . وصار الأنا الناقد الباحث ضحيّة موقف نقديّ متناقض يحاول فيه استخلاص أجوبةٍ على تساؤلاته من نص صاغه "الأنت" ليكون فيه السؤال الكبير . يضيع الناقد حين لا يدرك أن في النص سؤال الجواب :
( أنًّصّكَ في كلهِ هو أنتَ ؟ أمِ النصُّ
أشياءُ منكَ ؟ أمْ أنّكَ منفصلٌ عنهُ ، متصلٌ فيهِ ؟
ما هو متصلٌ فيكَ ،
باقٍ ؟
وما هو منفصلٌ عنكَ ،
فانٍ ؟
وهلْ في التوالدِ سرُّ صراعِ
الذي هو فانٍ بذا النصِّ ضدّ الفناءِ ؟ أمِ
الموتُ يعني بأنكَ في النصِّ نقّحتَ حبرَ الحياةِ ؟
وإنّيْ
لأعترفُ الآنَ ، أنّ بنصكَ أشياءَ أبعدَ
مما استطعتُ تلمسهُ عبر هذا الغموضِ الذي
ظلّ كشفيَ عنْ نصّكَ اللغزِ فيهِ مُحالاً . فهلْ
أنا أنقصُ منْ أنْ تكونَ لديّ
المفاتيحُ ؟ أمْ أنّ
نصّكَ أكثرُ قفلاً
عليَّ ؟
أتعلمْ ؟
إنّي حزينٌ
حزينٌ
حزينُ
لأني برغمِ اكتشافيْ لنصّك
مازلتُ أسألُ نفسيْ :
تُرى
منْ تكونْ ؟ ! – ص 1626 – 1628) .
ولأنً أنا الشاعر قد عجز عن إدراك كنه الـ "أنت" ، ولم يُفلح في الجواب على السؤال الكبير والأوحد ، فقد اتجه الآن إلى النصّ بحد ذاته . وهنا تصبح العملية النقدية متكافئة بخلاف الحالة المتناقضة السابقة . فيقرر في البدء أن نص الأنت بديع ورائع ، وهو (خبزُ ومنديلُ من هو جائع) ولكن هناك سمات للأنت ضمّها النص توحي بصفات مخيفة ومرعبة قد تشكّل مادة يصوغ منها الطغاة والمستبدون والإستغلاليون "نصوصاً" جديدة سوف تُسمّى : الشرائع ، يحكمون وفقها الجياع والمساكين ، وهذا ما حصل فعلاً ودمّر حياتنا . لكنّ هذا التلاعب بالنصوص هو الفسحة العظيمة والخطيرة التي تركها لنا الأنت والتي اسمها "الحرّية" ، فالحرية هي القدرة على اقتراف الإثم في جانب كبير منها لا يقرّه جوزف حرب . فبعد اكتمال نص الأنت وهو "الخير" ، جاءت حريّة الأنا التي هي "الشر" . ولكن تساؤل أنا الشاعر عن "الإمكان" هذا هو تساؤل عن السمة ، وهو يختلف تماماً عن التساؤل عن "الماهيّة" ، ولذلك يعود الشاعر من جديد لطرح السؤال المحيّر ؛ سؤال الأسئلة : تُرى من تكون ؟ !
وفي المقطع التالي يتحوّل الشاعر إلى "آليّات" قراءة النص ؛ نص "الأنت" ، فيرى أنُّ القراءة المثابرة هي مفتاح المتعة في قراءة هذا النص ، الذي هو نص مترابط تهيؤك متعة الما قبل فيه لاستقبال متعة الما بعد . وهو ليس نصّاً بسيطاً تفتح مغاليقه فوراً عند القراءة ، ولكنه يتطلب العناء والمرارة ، وهذا ما يزيد من متعته فهو يمزج اللذة بالألم . وأنّ أي سرّ يكتشفه يحفزه لاكتشاف أسرار أخرى مقبلة . ويبدو أن السمة الكبرى لهذا النص ولمؤلفه هو أنه جعله مجمع أسرار ، أي مكمن أسئلة ، فكلّ سرّ هو سؤال ينتظر جوابه . وقد مرّت على الأنا قرون وقرون وما زال حائراً امام السرّ الكبير : تُرى من تكون ؟
ولكن الشاعر لا ييأس ، فهو يشعر بأن هناك معرفة مقبلة ، عليه أن يتسلح بها ، وأن هذا من شروط اختلافه المميزة حيث النماء والنقص والسعي للإمتلاء . فالأنت هو الكل المطلق بختامه وثباته وكماله ولانهائيّته ، والشاعر هو الكلُّ "شيئا .. فشيئاً" ، في بدئه وتحوّلاته ونهائيّته ، وهو ماضٍ ليلتحم بالأنت فيصبح النصُّ نصَّه . ولكن وخزة ذاك السؤال المؤرق : ترى من تكون ؟ تأتي سريعاً لتصحي الأنا على حقيقة العلاقة اللامتوازنة التي لا تتيح له امتلاك نصّ الأنت ، فيتحول من جديد لنقد النصّ الذي يرى أن من سلبياته أنّه ضم كثيرا ، وكثيرا جدا من الفاجعات الرهيبات : زلازل وأعاصير وجفاف وحروب وسجون ومجاعات ومذابح . وكان الأفضل أن يحذف المؤلف مثل هذي الإبادات التي لم تورث القرّاء إلّا الدمع والحسرات . كما أنه يعلن عن دهشته لأنّ هذا النص لم يُجرِ سيف المماحي بأعناق الملوك والكهّان والقضاة الفاسدين . ولم يستطع أنا الشعر إلّا أن يمنح المماحي فعل السيوف وكأننا أمام حالة مقابلة متأصّلة تجعل الرذيلة الذراع اليمنى للفضيلة :
( كانَ للنصِّ بُعدُ البياضِ البهيجِ
كمسكِ الصباحِ ، لو انكَ قمتَ بحذفِ مقاطعِكَ
الدامياتِ التي خانَ حبرُكَ فيها البياضَ . فكيفَ
تعلقُ أرضاً بخيطِ بكاءٍ ؟ وتفتحُ عنقَ البنفسجِ
بالسيفِ ؟ والقمحُ تُعلي سنابلهُ
ضُرّجتْ
بالطحين ؟
لعلّ صياغتكً الأرضَ كانتْ بحبرينِ :
حبرِ غُرابٍ
وحبرِ حمامٍ .
لعلّكَ أعطيتَ نصكَ حريّةَ القارئينَ
بأن يقطعوا منه ما هم جياعٌ إليهِ ، فيقرأَكَ
اللصُّ حرّاً بما في يديهِ ، وكاهنُ بيتكَ حرّاً بجعل
الخطايا نبيذَ لياليهِ ، والعرشُ حرّاً بتحويلهِ خادماً
في البلاطِ . (...)
لعلّ
بنصّكَ
لا شيءَ مما أقولُ . (...)
لعلّيْ ...
ولكنْ
تُرى من تكونْ ؟ ! – ص 1635 – 1637) .
وسوم: العدد 661