علي الوردي : (53) صاحب النزعة الشعبيّة في الفكر والتعبير
جعل سعر الكتاب كسعر بطاقة السينما
# صاحب "النزعة الشعبيّة" في الفكر والتعبير
إن معاناة الوردي من مذلة الفقر وألم الحرمان هو عامل رئيس في خلق ( النزعة الشعبية ) في فكره وسلوكه ، ويصف الوردي المدة التي عمل فيها في محل العطار تحت إلحاح ورغبة أُمّه :
( رحم الله أُمّي وغفر لها ، إنها كانت تشتهي لي أن أكون عطارا وأن أنجح في مهنة العطارة حتى أصير في النهاية شيخ العطارين . لقد كانت معجبة بعطار من معارفها ، وكانت تريد مني أن أتبع سبيله حذو النعل للنعل . وهذا كان من أسباب انفصالي عن المدرسة في صباي خمسة أعوام صرت في بدايتها صانع عطار . وأخفقت في ( صناعتي ) هذه اخفاقا فظيعا . كنت مولعا منذ طفولتي بمطالعة الكتب . ولكن العطار ، أستاذي المحترم ، كان يعتقد بأن الكتب هي شرّ ما يبتلى بها يجلس على باب الله . فالكتب في نظره لا تعطي خبزا ولا تشبع حاجة . إنه كان يريد مني أن أنتصب في جلستي متيقظا أتصيد المشترين وأقابلهم بترحاب ووجه بشوش ، بينما كنت في قرارة نفسي أكره المشترين جميعا ، ولا يكاد يقبل أحدهم على الدكان حتى أتمتم باللعنة عليه وعلى أستاذي معه . وكنت أنتظر فرصة غياب أستاذي عن الدكان لأنهمك في مطالعة الكتب ، ولا أبالي آنذاك بمن يأتيني أو يذهب عني من المشترين . وكانت العاقبة أن طردني الاستاذ من دكانه شر طردة ) (366) .
ويعلّق الوردي على هذه ( الطردة ) شاكرا الله بالقول :
( أحمد الله على هذه الطردة فقد استطعت بها أن أتفرغ إلى كتبي الحبيبة إلى قلبي . والمظنون أني لو بقيت عطارا لكنت الآن في دار المجانين والعياذ بالله ) (367) .
سعر الكتاب كسعر بطاقة السينما
____________________
ومن الأمور المهمّة التي تؤكّد " قصدية " الوردي في مشروعه الهادف إلى إشاعة الثقافة الشعبية ، وجعل المعرفة في متناول أيدي الطبقات العريضة الفقيرة التي يقف ضعف إمكاناتها المادية على شراء الكتب أمام إقبالها على اقتنائها ، هو أنه أعلن أكثر من مرّة عن نيته في جعل سعر أي نسخة من كتبه لا تزيد على سعر بطاقة الدخول إلى سينما . يجب أن نضع في أذهاننا أن الناس آنذاك تقبل على دور السينما بلهفة تفوق الإقبال على شراء كتاب بسيط رغم المقولة المضلّلة التي كانت تقول : " مصر تؤلف ، ولبنان يطبع ، والعراق يقرأ " . في صفحة " اعتذارات " وهي الصفحة الأخيرة من كتابه " الأحلام بين العلم والعقيدة " يقول الوردي :
" وعدتُ القاريء ، في مقدمة الكتاب بأني سأجعل ثمن النسخة الواحدة منه مقاربا لثمن بطاقة الدخول إلى سينما. وأرجو من القاريء أن يعذرني لنكوصي عن هذا الوعد . فقد أصبح حجم الكتاب ضعف ما كنت أتوقعه له عند كتابة المقدمة . فإذا أخذنا بنظر الاعتبار عدد الصفحات التي رقمت بالحروف في أول الكتاب بلغت صفحات الكتاب كله 408 صفحة . ولهذا جاز لي أن أزيد في ثمن النسخة من الكتاب شيئا قليلا حيث أجعله مقاربا لثمن بطاقة الدخول إلى حفلة غنائية مثلا " .
ورأي الوردي هذا يكشف إيمانه بموضوعة الثقافة الشعبية ودورها في التغيير الاجتماعي ، لكنني راجعت مقدمة هذا الكتاب فوجدت أن الوعد الذي قطعه على نفسه أمام القاريء في المقدمة بأن يجعل سعره زهيدا ومعقولا ، هو وعد مسموم يحمل الكثير من المكر الذي لا يمكن كشفه والإمساك به إلا إذا رجعنا إلى الصفحات التي تسبق الوعد والتي يشير فيها إلى جمود أسلوبه الذي كان موافقا لمزاج القاريء العراقي في مرحلة العهد الملكي ، ولم يعد مناسبا لهذا المزاج في عهد الثورة – ثورة 14تموز الجذرية كما يصفها - والتي غيّرت ذوق القاريء العراقي تغييرا كبيرا ، حيث لم يعد يستمتع بكتابات الوردي وأمثاله في الموضوعات الاجتماعية والنفسية التي لا تمس السياسة إلا مسّا خفيفا ، وجعلته يبحث عن الكاتب الذي يكتب في صميم السياسة ، وهو تقييم لم يدرك خطورته أحد – للأسف – فقد أوغلت الثورة في تعزيز وإكمال مهمة تحويل المواطن العراقي – أو مسخه – إلى " حيوان سياسي " .
( مداخلة : هل العراقي" حيوان سياسي"؟
___________________________
ملاحظة تمهيدية
-__________
وقبل أن يُستفز القاريء الكريم بتعبير ( حيوان سياسي ) أقول أن هذا الوصف هو للمعلم الأول- كما يُلقب- الفيلسوف الاغريقي ( أرسطو ) الذي وصف الإنسان قبل ذلك بأنه ( حيوان اجتماعي ) . وهذا الوصف ( حيوان سياسي ) استخدمه بصورة خلّاقة الدكتور ( علي الوردي ) دون أن يشير إلى مصدره وقد يكون غير مطلع على أصل هذا التوصيف .
يقول الوردي) في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي):
((لعلّي لا أغالي! إذا قلت أنّ الشعب العراقي في مرحلته الراهنة هو من أكثر شعوب العالم, إن لم يكن أكثرها, ولعاً بالسياسة وانهماكاً فيها : فكل فرد فيه تقريباً هو رجل سياسة من الطراز الأول. فأنت لا تكاد تتحدث الى بقّال أو عطار حتى تجده يزن لك البضاعة وهو يحاورك في السياسة أو يسألك عنها. وقد يحمل الحمّال لك البضاعة فيحاول في الطريق ان يجرك الى الحديث في السياسة وهو يزعم انّ لو تسلّم مقاليد الأمور لأصلح نظام الحكم بضربة واحدة ))
ويقول أيضا في موضع آخر من الكتاب ذاته :
(( يوصف الشعب العراقي الآن بأنه ((يقرأ الممحي)) وقد يكون هذا الوصف صحيحاً أو غير صحيح.. ولكننا نعرف على أيّ حال أنه شعب ((قارئ)) فهو يلتهم الصحف والمجلات والكتب بنسبة أكبر مما تفعله الشعوب العربية الأخرى. وقد أدرك ذلك الناشرون في القاهرة وبيروت وحسبوا حسابه فهم يخصّصون للعراق مما ينشرون حصّة الأسد وأستطيع أن أقول أن الفرد العامي في العراق قد يفهم من الحقائق السياسية وأحداث العالم ما لا يفهمه الناس في كثير من البلاد (الراقية) فهو يتساءل عنها وقد يناقش فيها كأنها ذات مساس مباشر بحياته الخاصة )).
وتعزيزاً لرأي الوردي الأخير في نهم العراقيين للقراءة تقول "سلمى الخضراء الجيوسي" في كتابها : " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " :
" إن العراق كان يستورد (12000) كتاباً من مصر و(500) كتاب من سورية سنوياً خلال عقد الأربعينات والخمسينات " .
وهو رقم هائل إذا وضعنا الظروف الموضوعية لتلك المراحل في حسابنا. وهذا يعني أنّ الشعب الذي اعتقد الوردي طويلا أن ما يحكمه هو الروح ( الازدواجيّة ) وقيم البداوة المغلّفة – على أهمية هذا التحليل - هو شعب قارئ وبشكل يفوق ما يقرأه أبناء الشعوب العربية الأخرى أخذين بنظر الاعتبار أنّ إمكانات المواطن العراقي المادية آنذاك محدودة وبسيطة بحيث أن من يقتطع من رزقه لشراء كتاب أو صحيفة يعبّر عن دافع معرفي أصيل رغم أن سائقه في أحوال كثيرة هو روح التحدي والمنافسة والحفزات العدوانية المكتومة . وقد ذكر ( روفائيل بطي ) في كتابه ((الصحافة في العراق )) أنّ طبقة واسعة من القرّاء قد نشأت في العراق, وليس أدلّ على سعة هذه الطبقة القارئة من ذلك العدد الكبير من الصحف والمجلات التي صدرت في العراق بعد الانقلاب العثماني الدستوري عام 1908 , فقد بلغ عدد الصحف تسعاً وستين صحيفة . على حين بلغ عدد المجلات عشرين مجلة بين أسبوعية وشهرية...)) .
إنّ من ملامح الوعي السياسي للمواطن العراقي, وهو وعي سياسي حاد وانتقادي, هو أنه يستقرئ الوقائع ويتوقعها قبل حصولها بزمن طويل بصورة لا تتناسب مع المعطيات الواقعية والعوامل السياسية المتوفرة حوله وهو يصدر حكمه حتى أننا قد نظن خطأ أن روحا ( حدسية ) إذا جاز التعبير قد حكمت موقفه وصممت شكله الإدراكي , وتتعزز هذه القناعة لدينا حين نجد تلك التوقعات والاستشرافات السياسيّة المبكّرة تأتي من أشخاص بسطاء لا تسعفهم شهادة جامعية أو تخصّص علمي . يقول الشاعر الشعبي ( ملّا عبود الكرخي ) ( -1946 م) في قصيدة له كتبها في عام 1925م ويتحدث فيها عن نقص نفط الولايات المتحدة المتوقع: -
منابع أمريكا أخذت بالنقصان و تدريجاً يخف إعتقدوا يا إخوان و نبقى بعدها يا صاح بالميدان منابعنا العراقية وألوف آبار
و أقدم هنا حادثة نقلها المؤرخ العراقي السيّد (عبد الرزاق الحسني) في كتابه (الثورة العراقية الكبرى) ففي " 12/آب/ 1920 إجتمع رؤساء العشائر في مضيف (عبد الكاظم الحاج سكر) في المشخاب للتداول في شؤون الوطنيين الذين نفتهم السلطة البريطانية إلى جزيرة ((هنجام)) ، فوقف السيّد ((محمد باقر الحلّي)) فجأة في وسط المضيف وتلا هذه الأبيات من دون سابقة ولا استئذان:
بني يعربٍ لا تأمنوا للعدى مكراً خذوا حذركم منهم فقد اخذوا الحذرا
يريدون منكم بالوعود مكيدة ويبغون إن حانت لكم فرصة غدرا
فلا يخدعنكم لينهم وتذكرّوا أحابيلهم في الهند والكذب في مصرا
تريدون بالأقلام إنجاح أمركم وهل تنفع الأقلام من حطم السمرا ؟
ومن مات دون الحق والحق واضح إذا لم ينل فخراً فقد ربح العذرا
ثم قال :
(( يا معشر خزاعة : إنّ لمحمّد عليكم ديناً يوم قال حينما ضرب الخزاعي من قبل أحلاف قريش : (( لا نصرني ربّي إن لم أنصر خزاعة )) . ومحمّد اليوم في حاجة لنصرتكم فهل توفونه اليوم دينه ؟ ))..
و قد دهش الحاضرون لهذه المفاجأة فقام الشيخ (( سليمان العبطان )) وجرّد سيفه وهزه في وجه الخطيب قائلاً:
((عند وجهك, أنا أخو فاطمة )) ثم قام الجميع فهوّسوا:
((بس لا يتعلگ بأمريكا)) ... فكانت صرخة دوّت دوي المدافع إن لم تكن أشد تأثيراً..))
تُرى أي باحث أو مفكّر يستطيع إعطاءنا تفسيرا بسيطا , أو معقّدا , أو ساخرا , لسلوك شيخ بسيط لا يحمل شهادات ولا مرجعيات معرفية يستشرف حالة عصّية عن الفهم في عام 1920 ، ويعدّ سبب الخلاص المحتمل للمستعمر البريطاني هو احتمال أن يتعلّق بأمريكا الخارجة قويّة من الحرب العالمية الأولى ويحصل على عونها ؟
# الأسلوب بصمة ولا يمكن تغييره
____________________
... لكن الوردي يلتف بمكر فيتساءل :
(ربّ سائل يسألني :
إذا كان الأمر كما تقول فلماذا لا تغيّر أسلوبك يا أخي فتجعله ملائما للعهد الجديد ؟ ) ويجيب : " إن ليس من السهل على الكاتب بوجه عام أن يغير أسلوبه بإرادته ، فالأسلوب جزء من الشخصية وهو إذن لا يتغير إلّا إذا تغيّر تركيب الشخصية كلّه – هنا نعود إلى الفهم الخلّاق للحتمية اللاشعورية الفرويدية - ، وهذا أمر عسير جدا لاسيما في من هو مثلي قد اجتاز طور الشباب ودخل طور الكهولة منذ زمن غير قصير) (368) .
وهنا نقف على النموذج الأكمل لروح المناورة الإلتفافية للوردي – وقد يكون هذا هو الأنموذج الأكمل في تاريخ النقاشات النقدية الثقافية حتى ذلك الوقت - . لقد "مرّر" الوردي بدهاء ، لمستفِز مما يراه وفي أجواء متأزمة مليئة بالعنف والمواقف العدوانية وتصفية الحسابات وتوزيع الإدانات والتهم على كل من لا يساير مرحلة التحوّل الثوري الجديدة . لقد شاعت نزعة إلصاق وصمة " الرجعية " بكل ما له صلة بالعهد السابق وعلى الصعد كافة . وعلى الجميع الهتاف بالشعارات الثورية الحماسية الصاخبة . ومن لم يرفع صوته بالهتاف أو لم يكتب ويعلن آراءه وفق الاتجاهات الانقلابية التي اكتسحت كل شيء في حياة المجتمع العراقي ، فهو محسوب على النظام المباد وغير قادر – في أفضل الأحوال – على أن " يتغيّر " ليواكب التبدلات الجذرية . والوردي يعلن أنه غير قادر على أن يتغيّر ، ليس لأن أسلوبه في حياته وفي الكتابة أصبح " حجرا " متصلّبا في بنية شخصيته حسب ، بل لأنّه غير مقتنع بما يجري حوله ، فهو لا يرى غير الحماسة المطلقة الهوجاء التي حذّر هو نفسه منها طويلا وكثيرا . بعد صفحة واحدة من الفقرة السابقة التي أعلن فيها الوردي عدم قدرته على التغيّر ، يعود ليقول أن لديه كتبا كثيرة كان قد أعلن عنها إعلانا ساخرا بقوله :
( أنها ستصدر بعد موت المؤلف إن شاء الله ) ،
ويبرّر ذلك بأنه لم يكن يتوقع أن تحدث الثورة في العراق في وقت قريب . وقد قال قبل قليل إن الثورة قد فتحت أبواب النشر على مصاريعها ، فلماذا لا ينشر مؤلفاته إذن ؟ .
يبرّر الوردي هذا التناقض بالقول :
( من هذه الكتب المُعدّة للطبع كتاب بذلتُ في تأليفه جهدا كبيرا وأسميته " أخلاق أهل العراق " – حسب علمي طبعا لم يثبت أن لديه مثل هذا الكتاب لاحقا ، الكاتب - . إنه كتاب يبحث في عيوب المجتمع العراقي وما فيه من قيم سيئة وتطرّف قد لا تُحمد عواقبه أحيانا ( وهي حالة الجماهير المتطرّفة آنذاك – الكاتب ) وكل من يدرس الأوضاع السياسية والاقتصادية التي مرّ بها الشعب العراقي في عهوده البائدة لا بد أن يستنتج مثلما أستنتجه . ولكنني واثق بأني لو أخرجت هذا الكتاب الآن لقابله كثير من القرّاء بالنفور . ولا لوم على القرّاء في هذا . فهم يطلبون من الكاتب في هذه المرحلة الثورية أن يكتب للشعب فيما يشجعه ويمجّد أفعاله ، لا أن يُثبطه ويُحصي عليه عيوبه) (369) .
وسوم: العدد 661