الثورة في شعر خالد الكيلاني..
يحتل الشاعر خالد الكيلاني مكانة متميزة على خريطة الشعر في مدينة السويس إحدى المدن المصرية الهامة في التاريخ والسياسة والثقافة، وهو بحق شيخ وعميد شعرائها عمرًا وإبداعًا؛ إذ امتلك ناصيتي الفصحى والعامية وله فيهما دواوين شتى، ولا يقدح في كونه أسيوطي المولد أن لا نعده سويسيًا، فهذه سمة تلك المدينة حين أطلقت لقب "شاعر السويس" على الراحل محمد فضل إسماعيل وهو المولود بمحافظة الشرقية، ذلك أن العرف الذي ساد أن من عاش تحت سماء هذه المدينة جل عمره صار من مواطنيها.
أصدر الشاعر خالد الكيلاني دواوينًا وكتبًا عديدة في مناحي شتى، فأما دواوينه الصادرة بالفصحى، فهي: "حبيبي يا رسول الله"، "أنا والشعر"، "لماذا"، ومسرحية شعرية "سامية"، وديوان يجمع الفصحى والعامية "ولاد الشمس". ودواوينه التي كتبها بالعامية، فهي: "مسحراتي"، "الناس الغم". ومن حيث الكتب، فهي: "واعلموا أن فيكم رسول الله"، "كثير من التيسير في تفسير ابن كثير"، "رأيت الكون"، "خواطر كيلانية"، "على مصطبتنا".
من خلال مطالعتي للدواوين الثلاثة التي أهداني إياها الشاعر الكبير عن طريق صديقنا المشترك الشاعر والعروضي الكبير فوزي محمود، وجدت أن شعر الكيلاني في أغلبه تسيطر عليه روح السياسة، والوطنية، والثورة على المستعمر القديم/الجديد، والثورة على الحكام، وأيضًا الثورة على بعض تصرفات المحكومين، ومن ثم الدعوة إلى الثورة، والتنبوء بها، يستوي في هذا ما خطه بالفصحى، أو كتبه بالعامية، ولو أن القاريء استعرض القصائد على اختلاف أوقات كتابتها أو اختلاف مواضعها في الديوانين "مسحراتي"، "الناس الغم" لظن أنها نسيج واحد لقصيدة طويلة مكونة من مقاطع، كما سيلاحظ أن سخونة شاعرنا الكيلاني وحميته لم تهدأ جذوتها منذ أطلقها عند وقوع العدوان الثلاثي على بورسعيد عام 1956، مرورًا بقصائده عند وقوع العدوان الأمريكي على العراق عام 1991، وفي مختلف الحوادث التي تلت.
تتميز قصائد الكيلاني أنها ــ وخاصة العامية ــ تحوي داخلها موضوعات وقضايا عدة ليس من السهل فصلها عن بعضها لكونها متداخلة ومجدولة، حقيقية، غير تلفيقية أو مصطنعة، ينبض كل حرف فيها بصدق نبرة الشاعر في استعراضها والوقوف عندها كالنائحة الثكلى، ليس هذا فحسب بل يتناول القضايا السياسية والاقتصادية والداخلية والخارجية وتأثيراتها على الداخل من أرض ومواطن، مثلما يهتم بلقمة العيش عند العامل والفلاح، كما يهتم بالقضايا القومية التي تخص الأمة العربية والإسلامية بشكل عام، وبالقضايا الوطنية التي تخص الكنانة وحدها، ولكنه لا ينسى القضايا المحلية التي تهم المواطن السياسي الذي يسكن معه في ذلك البلد الحبيب "السويس" كما يسميه، المحفور اسمه في التاريخ القديم والمعاصر.
أما أهم ما يميز قصائده هي تلك الروح المصرية التي صب فيها ليس اللهجات فحسب، ولكن حالة السخرية وخفة الدم عندما يتناول الفساد والرشاوي والمحسوبية والانتخابات وغيرها، ومن ثم سنضع أيدينا على طزاجة تلك القصائد التي كتبها في سنوات سابقة في أزمنة حكام رحلوا أو أحياء خلعهم الشعب وغيرهم حتى تاريخه، وكأنه رفع القلم لتوه عنها في دليلٍ دامغ فاضح على أن كل هذه الظواهر السلبية المتجذرة في مجتمعاتنا أقوى من أن يقضي عليها نظام أو تقتلعها عدة ثورات ناهيك عن ثورتين قامتا وطواهما التاريخ.
ولو تركت العنان لنقل الشواهد لما وسعتها تلك المقالة، ولكن يكفينا نقل بعضها للدلالة، ولو بدأت بتناول أبياته الناقمة على الغرب وسيدة العالم أمريكا التي خصها وحدها بقصيدة "العم سام"، غير الأبيات المنثورة والمبثوثة في ثنايا قصائد أخرى تدور حول معاني الهيمنة الغربية، والغطرسة الأمريكية، وهوان حكام العرب في انبطاحهم وطاعتهم لها في خذلان وخنوع مهين، والدعوة إلى الثورة عليهم بعد أن يستعرض ما فعلوه في بلاد العرب وما يفعلونه بمصر عبر شرذمة من الأفاقين المحسوبين على الوطن، فيخاطب المصري وهو يحرضه على الثورة:
انزع جدور الخوف من صدرك وأوعى تعيش عويل
دا اللي يوطي في الزمان دا يتركب ويعيش ذليل
واللي يطاطي أو يخاف يستعبدوه الأمريكان
وازعق بعلو الصوت ................. وقول
ملعون أبوك يا عم سام .... ملعون أبوك يا عم سام
كما يخاطبه في "خالطابيطا":
وانت يا مصري حرام لما تطاطي ولعدوك تنحني وتطلب معاطي
شد حيلك واتنصب أوعى تواطي مهما يعلا الموج لابد هاييجي شاطي
يوجه الكيلاني بوق غضبه إلى المواطن العربي الذي استلذ الذلة والهزيمة ورضي بفرض سياسة الواقع المفروض على الأرض وهو الغزو الأمريكي، ويسمي هذا المواطن "أبوح" في قصيدة تحمل ذات الاسم، وينهيها بدعوة إلى الثورة، فيستصرخه قائلًا:
شد اللجام واهجم هات سيفك البتار
اقطع رقاب الظلم والخاين الغدار
تقل قوي قلبك بايديك ناخد التار
يرى الشاعر خالد الكيلاني أن الخطب أفدح وأعم وأشمل من العرب والمسلمين؛ فخطره جاثم على شعوب بلاد العالم الثالث وغيرهم من سكان الكرة الأرضية، فيرفع عقيرته فيهم بكلام حاد اللهجة، ونعوت قاسية للغالب والمغلوب على السواء، فيقول في قصيدته "مؤتمر السكان والتنمية":
يا أيها العالم الثالث يا كل الناس أنتم عددكم يساوي أربعة أخماس
لكن أهل الشمال الغاصبين الانجاس بيقولوا عن جنسكم دا أحقر الأجناس
والأمريكان مع أوروبا صنعوا الهراس عاوز يدوسوكم لحد ما تقطعوا الأنفاس
أو يدبحكم في مجازرهم كما الأتياس أو كل غربي ها يعمل كل شرقي مداس
أو ترفعوا فوق رؤوسكم راية الإفلاس يا ناس هبوا وخلوا عندكم إحساس
حرام عليكم تعيشوا منكسين الراس
ولو استعرضنا القضايا العربية في تماسها مع الأنظمة الغربية والسيادة الأمريكية لوجدنا أن ديوان "لماذا" يحوي عددًا غير قليل من القصائد التي يتناول فيها الشاعر خالد الكيلاني توصيف الواقع كالمؤرخ، وتشخيص الداء ووصف الدواء الناجع كالطبيب الماهر لأمته التي يثور من أجلها تارات ويثور عليها تارات مستحثًا ومستنهضًا، غير أنه لا يجد سوى الأمل في أطفال الحجارة الذين بادأوا وبادروا بالفعل فكان مكانه خلف صفوفهم يحمسهم وينفخ في نار العزيمة لتتأجج أكثر في ضلوعهم كي لا يملوا أو يكلوا، فيقول في قصيدته "ثوار الحجارة":
وارموهم بحجارات مسوَّمة من عند ربي سجينا وسجيلا
خلوا الحجارة تهوي فوقهم شررا كالقصر يجعلهم عصفًا ومأكولا
لا تتركوا الرجس ينمو فوق أرضكم وحرقوا نبتهم بذرا ومشتولا
كما ينبه المواطن العربي بعامة والفلسطيني بالذات ألَّا يهادن اليهود فهم و"الأمريكان" وجهان لعملة واحدة، فينصحهم في قصيدته "رسالة من تحت المحيط" باللجوء إلى خيار الحرب دون السلام، لأنه لا سلام ولا أمان ولا موادعة مع اليهود، فيقول:
عمر سلاحك وخليه هوا يتكلم
خللي كلامك رصاص في الجمجمة يعلم
واهدم ديارهم وخللي شمسها تضلم
في عدة صرخات ثورية تشبه البيانات والنداءات، يخاطب الكيلاني على المستوى المصري ابن بلده عبر عدة قصائد التي ضمها ديوانه "مسحراتي" ذلك الذي يتمثل الشاعر فيه نفسه، ذلك المسحراتي/الثوري الذي جاء ليوقظ الغافلين، ويلكز بمهمازه تلك الأجساد الثقيلة التي استطابت للمذلة والقعود وإن نخرها السوس، فيقول مستنهضًا ذاته أمامهم بأن الدعوة إلى تلك الثورة ضرورة وحتمية، وسيبدأ بنفسه ولو مات شهيدًا دون ذلك، فيقول في قصيدته "الحوار":
لازم أقيدها نار ع الخاين الغدار
واعلنها صحوة شعب يرفض يعيش في العار
يرفض يعيش دلدول لمرابي أو سمسار
وان مت هابقى شهيد يحشر مع الأبرار
ولن يثنيه شيء سوى إعلان الثورة فهذا ديدنه كمصري، ليستحث في نفس الوقت نخوة كل مصري وتذكيره بأصوله العريقة التاريخية، وهذا سر تكراره وتنبيهه على المصرية وتشديده عليها كميراث ودم ونسب وحامض نووي يسري في العروق من الجد الثائر الغابر وحتى الحفيد الثائر المعاصر، فيقول في قصيدته "زمّلوني":
ها علن الثورة الكبيرة ع الحرامي ابن الحرام
مهما كانت أسلحتهم ها نتصر عند الصدام
أصلي مصري وابن مصري ومصر أبدًا لن تضام
وأخيرًا يخاطب الشاعر خالد الكيلاني الشعب، أي شعب في قصيدة رمزية حكائية لا تضعه تحت طائلة القانون بدعوى التظاهر والتجمهر والتحريض على الثورة، أو إهانة من يخاطب، يقول في قصيدته "البُكمْ" التي تحمل في طيات العنوان نعتًا مهينًا:
يا شعب يا اللي البردعة نحرت ضفاير ضهركم
يا اللي خشونة الأحزمة سلخت عصايب بطنكم
يا اللي الهموم من تقلها كسرت تراقي صدركم
يا عيانين بالقهر مش لاقيين دوا
يا مضروبين بالذل والقلب انكوى
ياللي الكبار خدوا منكم كل الهوا
فوقوا بقى من فضلكم وكفاية نوم على بطنكم
يختم الشاعر خالد الكيلاني ديوانه "الناس الغم" الصادر في 2015 بقصيدته النبوءة "جار السوء" والتي تعد منه بشارة من بشارات النذارة بأفول عهد الرئيس المخلوع مبارك، تلك التي كتبها في مارس 2009 ونذر لله نذرًا لو سحلوا ذلك المخلوع، ويقصد الثوار ومن ثم ستكون هناك ثورة، وحملت في النهاية اسم المخلوع بكلمة "مبروك" كما انتهت ببشارة أن الحياة بعد حكمه ستكون لذيذة:
ندر على لو سحلوك لاسقي الشارع كله قزوزة
واجري واغني واقول مبروك تو السحل ما بقى له عوزة
اجري واغني واقول مبروك بكرة حياتنا ها تبقى لذيذة
وسوم: العدد 661