فنّ التّضليل الشّعريّ في قصيدة "ما أجملها لو لم تكن تكذبْ!" للشّاعر فراس حجّ محمد

- النّص:

هي مثلهنّ جميعهنّ!

تراوغني وتنزلقُ الحكاية للكذب

بثلاث أعوام مَضَتْ تعوم على لغتي وتكذبْ

في شكلها تكذب

في صورة مصقولة مثل الزجاجة تكذب

وإن غابت ستكذب

وإن حضرت ستكذبْ

حتى "أحبك" كاذبةْ

نبتت بأصناف الكذب

هي لا تصدق غير أسفار الكذب

هي إذ تعد لي اللقاء الليلكي ستكذب

وإن رحلت ستكذب

وإن عادت ستكذب

وإن قالت "صباح الخير" تكذب

وإن قرأت بآيات الكتاب ستكذب

وإن نطقت بـ "لا إله إلا اللهْ"

لا ريب أن جملتها ستكذبْ

وإن لبست ملابسها الأنيقة سوف تكذبْ

ونسائم العطر المغرغر بالندى ما بين نهديها تفوح وتكذبْ

مكياجها، تسريحة من شعرها في الرأس تكذبْ

وإن خلعت معاطفها على الكرسي حتما سوف تكذب

وإن شربت معي فنجان قهوتها ستكذب

وإن جاعت لشيء من غريب الشعر في لحن القصيدة سوف تكذب

وإن غنت على أنغام أغنية بجلستنا الخجولة والعجولة سوف تكذب

وإن أصغت إلى صوتي المشقق بالغواية سوف تكذب

وإن صمتت ستكذب

وإن فرحت وإن غضبت ستكذب

وإن نقمت علىّ نقمتها ستكذبْ

وإن كتبت لي في رسالتها "حبيبي" سوف تكذب

وإن حنت إلى الذكرى القديمة سوف تكذب

وإن غارت من "النسوان" غيرتها ستكذبْ

وإن كتبت على كشكولها المزرَقّ نصّاً سوف تكذبْ

وإن نقدت نصوص الآخرين فِكْرتها ستكذبْ

وإن سهرت مع الأغيار من "حَوٓشِ" المدينة سوف تكذبْ

وإن ضحكت ستكذب

وإن دمعت فدموعها بنشيج زفرتها ستكذبْ

وإن نامت على وسادة حلمها ستحلم كيف تحلم كيف تكذب

وإن نهضت صباحا كي تصافح شمسها بالفعل تكذبْ

إن سافرت مع بعض أطيافي ستكذب

وإن نادت بهمس خافت باسمي المشتت سوف تكذب

هي لا تفكر إذ تفكر غير أن تفكر بالكذبْ

ما حاجة المجنون مثلي لامرأة ستظل تكذب

وأنا أصدق ما تقول وتعلم أنني أعلمْ

بأنها في الحب تكذب

ودماؤها في اللون تكذبْ

لكنني صدقت كذبتها الكبيرة قبل أعوامٍ

وكتمت أنفاسي لتظل تكذبْ

هي مثلهن جميعهنَّ تكذب ثم تكذب ثم تكذبْ

لا حول لي منها ولا قوةْ

سأصير مثل كاذبتي وأغرقُ في الكذب

حتى القصيدة هذه حتما ستكذبُ في نهايتها

لأنني بالفعل كنت أكذب إذ أعاتبها وتكذبْ

أنا مثل العاشقين جميعهم لا شيء لي منها سوى روح الكذبْ!

- القراءة:

إذا كان الشّعر عالماً يحمل في مكوّناته كلّ معايير الجمال والرّقيّ اللّغويّ والتّجربة الشّعريّة الخاصّة، فهو يحتمل في بعض من مكوّناته تضليلاً إيجابيّاً يمكن أن يستخدمه الشّاعر في سبيل دفع القارئ إلى العودة إلى ذاته ليعبّر عنها بطريقته الخاصّة. فيلعب الشّاعر دور الملاحظ الخارجيّ للحالات النّفسيّة الإنسانيّة (Observateur)، ويسمح للقارئ أن يلاحظ نفسه باطنيّاً، أو بمعنى آخر يستفزّ قدراته ويوظّفها في دفعه لملاحظة داخله. فتستحيل القصيدة عاملاً من خلاله يدخل الإنسان إلى نفسه ويتأمّلها ويُخرج منها مكنوناتها ويظهرها للعلن. ما يسمّى في واحد من مناهج علم النّفس بالاستبطان(Introspection). قد لا يعي القارئ هذه الحركة التّأمّليّة لأنّه يتفاعل مع القصيدة بردّة فعل عاطفيّة وجدانيّة على الباعث الكامن في المضمون، (الاستبطان العفوي، أي تأمل سريع مبهم غير مقصود).  إلّا أنّه بجميع الأحوال يظهر مكنون النّفس وخباياها، ليعبّر عن امتعاض أو تعاطف أو خيبة أو إثبات للذّات.

- التّضليل اللّفظيّ في بنية القصيدة:

ارتكزت القصيدة على لفظة الكذب الّتي ربطها الشاعر فراس حج محمد بالجنس الأنثويّ، ليعبّر عن هواجسه أوّلاً، وليستفزّ تفاعل القارئ ثانيّاً. ونتبيّن ذلك من التّكرار المكثّف لكلمة (تكذب) الّذي سيشكل نوعاً من الضّغط المعنويّ على القارئ. إذ إنّ كلّ بيت من القصيدة ينتهي بلفظ "الكذب"، أو بفعل من أفعاله (ستكذب، يكذب، تكذب، أكذب).

أولى خيوط التّضليل تتجلّى في العنوان الّذي يؤسّس للقصيدة من جهة، ويجذب القارئ للإبحار فيها من جهة أخرى. (ما أجملها لو لم تكن تكذبْ!). ولعلّ التّضاد القائم في تركيبة العنوان (الجمال- الكذب) مترافقاً وعلامة التّعجّب، يبيّن المعنى الظّاهر من القصيدة لا عمقها الدّلاليّ المغاير تماماً للعنوان. أيّ أنّه يطلق العنان لخيال القارئ بل لذاكرته المحمّلة لتجربة مماثلة.

ترسّخ افتتاحيّة القصيدة ما سبق وذكرناه (هي مثلهنّ جميعهنّ!). من ناحية أخرى تسهم في السّيطرة على عقل القارئ ووجدانه، ما سيدفعه لاحقاً للتّفاعل والتّعبير عن نفسه والتّعاطف مع الشّاعر أو معارضته.

ويواظب الشّاعر بانتظام دقيق على سرد متناقضات عدّة تشمل شتّى نواحي التّجربة الشّخصيّة مختتماً إيّاها بلفظ الكذب مكررّاً، ليعزّز فكرة العنوان ومعناه المبطّن.

قد يكون التّكرار كوسيلة تعبيريّة مسيئاً للأسلوب الشّعريّ في نصوص ذي قيمة متدنيّة، إلّا أنّه في هذه القصيدة يشكّل ضغطاً نفسيّاً على القارئ، ويحصر تفكيره في موضوع واحد ألا وهو الكذب. وقد أحكم الشّاعر السّيطرة على لفظ الكذب المتكرّر وجعله في خدمة القصيدة دون أن يفقدها جماليّتها البنيويّة ويدخل فحواها في إطار الابتذال.  ولعلّ التكرار اللّفظيّ ارتبط مباشرة بالحالة النّفسيّة للشّاعر وتجربته الشّعريّة حتّى أجاد استخدامه في القصيدة. ممّا يصعّب عمليّة حذفه منها واستبداله بلفظ آخر.

- المعنى الأصيل المحتجب في القصيدة:

الكذب في القصيدة هو غير ذلك الّذي له دلالة سلوكيّة سيّئة. ولعلّه مرادف للكتمان أكثر منه إلى حجب الحقيقة.  ما يؤكّد قولنا في أنّ الشّاعر استخدم أسلوب التّضليل وعدم إظهار ما يجول في دواخله العميقة.

البيتان الختاميّان (حتى القصيدة هذه حتما ستكذبُ في نهايتها// لأنني بالفعل كنت أكذب إذ أعاتبها وتكذبْ) سيغيّران مجرى القصيدة، ويشكّلان ربّما صدمة للقارئ الفطن، ويدفعانه إلى إعادة  قراءة القصيدة برؤية أخرى. وتلك الرّؤية مرتبطة بالبيت الأخير (أنا مثل العاشقين جميعهم لا شيء لي منها سوى روح الكذبْ!) محور القصيدة، حتّى وإن كان الخاتمة. فكما أنّ العنوان يؤسّس للدّخول إلى عالم الشّاعر، كذلك الخاتمة تبيّن ملامح هذا العالم، وتعيدنا إلى افتتاحيّة  القصيدة (هي مثلهنّ جميعهنّ!). وبين الافتتاحيّة والخاتمة نمسك بأطراف القصيدة ويتّضح لنا سرّها المختبئ في قلب الشّاعر. ويستحيل معنى الكذب مخالفاً للمعنى الحقيقيّ، وتنكشف لنا التّركيبة الحاضرة في ذهن الشّاعر المتمحورة في ظاهرها حول الكذب، والمحتوية في عمقها على سرّ البوح. (هي مثلهنّ جميعهنّ// أنا مثل العاشقين جميعهم). ولم يكن الشّاعر يصوغ قصيدته بلفظ الكذب إلّا ليعبّر عن ذاته بطريقة عكسيّة، وليستفزّ القارئ معنويّاً ونفسيّاً ليعبّر عن ذاته بأسلوب مباشر.