العتبات و أفق التلقي في كتاب: الدكتاتور ذو الرقبة الطويلة
شخصياً أتبنى تعريف النص الإبداعي بأنه رسالة بين مرسل ومتلقي، ولذلك فإنني عندما أقرأ نصاً إبداعياً لا أراعي صاحب الرسالة، لأنه بمجرد إرسال رسالته المتمثلة في نشر النص الإبداعي يكون قد انتهى دوره، ويأتي دور المتلقي، وهو قارئ تلك النصوص.
أما الناقد فليس معنياً بإصدار أحكام قيمة على تلك النصوص، فهذا وقته قبل النشر، ويندرج في إطار الاستشارات بين الأصدقاء، ولكن الناقد يقوم بإعطاء إضاءات على النص بمعزل عن مبدعه أو كاتبه، تفتح أبواباً على فضاءات مفتوحة يسترشد من خلالها القارئ أو المتلقي لفهم النص، والوصول إلى مكامنه وخباياه، والقارئ الحصيف وحده من يستطيع أن يقول هذا أدب جيد، أو غير ذلك.
ومن هنا فإن هذه الوريقات تحاول أن تستثمر (العتبات النصية) أو (مداخل النص) في تقديم مقاربة لمجموعة الشاعر السوري حمزة رستناوي (الدكتاتور ذو الرقبة الطويلة) التي صدرت عن دار أوراق للنشر والتوزيع؛ ذلك أن العتبات تمثل نصاً موازياً أو علامات مشحونةً دلالياً وجمالياً، لها القدرة على تشكيل أفق توقع القارئ قبل أن يلج متون النصوص وأفكارها.
منذ عتبة الكتاب الأولى (العنوان: الدكتاتور ذو الرقبة الطويلة) تصدمك مجموعة حمزة رستناوي الشعرية بمحمولاتها السياسية والدلالية، فينهض النسق الثقافي للثورة السورية بصفته المرجعية الدلالية الأولى للعنوان، ولاسيما أن المجتمع السوري، قبل غيره، يعرف المقصود بـ (ذو الرقبة الطويلة)؛ لأنه هو نفسه صانع هذا اللقب. وهنا يرتسم لدى المتلقي أفق توقع ذو مساحة محددة وموقف محدد؛ مساحة بمقدار حدود سورية، وموقف مرهون بتبني وجهة نظر معينة تجاه الشخص المسؤول عن ويلات الشعب السوري (الرئيس المقصود بالرقبة الطويلة)، الذي يحدده العنوان المقصود، فأتباع صاحب الرقبة الطويلة لا يتبنون هذا النوع من الخطاب تجاه زعيمهم، مما يعني أن المجموعة تتبنى موقفا مضاداً لأتباع صاحب الرقبة الطويلة؛ أي أنها تتبنى خطابا مناهضاً لخطابه السياسي إن صح أن له خطابا سياسيا.
ولا تكاد العتبة الثانية (الغلاف) تنفك عن هذا المعنى، إذ تصطدم العين أيضاً بمشهدٍ لزقاقٍ خربٍ تتكدس فيه الغرف والبيوت كزرائب الحيوانات، ويلف المشهد بؤس إنساني واضح، وفقر مدقع، وفي وسط الزقاق شارع ضيق تكسوه الحفر والفوهات الناشئة عن سقوط القنابل والشظايا، وفي وسط المشهد تماماً يتربع كرسي فاخر بسنادة ظهر طويلة تناسب صاحب الرقبة الطويلة، فيبدو منظر الكرسي شاذاً تماماً وسط حالة البؤس المكاني والإنساني، مما يفتح من جديد أفقَ توقعٍ دلالي يربط بين التناقضات، عبر تقنية العلة والسبب ، فيصل إلى نتيجة مفادها أن فخامة هذا الكرسي مرهونة ببؤس هذا الزقاق، مكانياً وإنسانياً.
واللافت للنظر أن صورة الكرسي الفخم محاطةٌ بإطار من لون أبيض، بحيث يبدو الكرسي مفصولاً عن متن الصورة البصرية للزقاق، وكأنه طارئ عليه، أو ليس من جنسه، لأنه يضع بينه وبين الزقاق مسافة يغطيها اللون الأبيض. ومع أن صورة الكرسي مركبة فوق صورة الزقاق، وهذا أمر لا تكاد تخطؤه العين إلا أن ذلك لم يكن كافياً وحده لإظهار فكرة اللانسجام القائمة بين الكرسي الفخم وبين واقع الزقاق البائس، فجاء الإطار الأبيض ليؤكد هذا الفارق ويعززه.
ومما يبدو طريفا في العتبة الثانية أن صورة الكرسي الفخم المركبة على صورة الزقاق والمفروضه عليه، قد أقحمت نفسها أيضاً على المساحة اللونية التي طبع عليها عنوان المجموعة؛ فظهرت قدما الكرسي وقد استندتا على المساحة اللونية للعنوان، في رغبة واضحة للتوسع والتجاوز والسيطرة، مما يعزز من جديد ارتباط هذا الكرسي الفخم بدكتاتور يحاول أن يهيمن على كل المساحات الممكنة، فاكتسب الكرسي صفة صاحبة، ليغدو معادلاً موضوعياً للدكتاتور نفسه.
وتأتي العتبة الثالثة (الإهداء) لتضيّق من المساحة المتخيلة الباقية لأفق توقع القارئ، ولتخدم العتبتين السابقتين وتسير في نسقهما الدلالي نفسه؛ إذ يهدي المؤلف مجموعته إلى"أصوات من ماتوا لكي نعيش، إلى من فقدوا حناجرهم لكي نتكلم..ولـمّا نتكلم!"(ص3)، فيبدو واضحاً، بلا لبس، أن المجموعةَ تنعي أولئك الذين ماتوا ليهبوا الحياة لغيرهم، وضحوا بحناجرهم لتصدح أصوات من بعدهم، ولكنهم لم يحصدوا من تضحياتهم شيئا؛ لأن أحداً لم يتكلم حتى الآن، مما يشي أن هذه المجموعة الشعرية ما هي في الحقيقة إلا محاولة للكلام، للتعويض عن أولئك الذين لم يتكلموا حتى الآن، حتى لا تذهب تضحيات من ماتوا هباءً.
فإذا جمعنا بين العتبات الثلاث معاً اتضح لنا المسار الدلالي التي تسير فيه المجموعة؛ إذ تتخذ من صاحب الرقبة الطويلة الدكتاتور الذي يعتلي الكرسي فوق بؤس الزقاق موضوعاً للكلام. فيبدو الطريق معبداً الآن للمتلقي كي يقرأ المجموعة ضمن نسق سياسي وقيمي محددين.
وليست العتبة الرابعة (العنوانات الصغيرة) داخل متن المجموعة ببعيدة عن العتبات التي سبقتها، فالعنوانات تتتالى لتعزز السياق الدلالي للمجموعة وموضوعاتها، فيتناثر الحديث عن (عنصر الأمن، كرنفال وطني، جوقة الهاتفين، في بلادي ثمة قبر لبلادي، هواجس جندي، أم المعارك، النياشين، المواطن، نادب الوطن، الأصنام التي تشبهنا، حديث الجماهير..إلخ)، فتمتلئ الصفحات بتفاصيل الوطن وهواجس المواطن وانكساراته.
غير أن العلاقة الحقيقية بين (العتبة الرابعة: العنوانات الصغيرة) والعتبات السابقة لا تتضح إلا من خلال متوالية محددة تقصّد المؤلف أن يكررها على نحو دال داخل المجموعة، لتبدو وكأنها رجع الصوت الذي يتردد صداه بين الصفحات كلها؛ إذ يلاحظ المتلقي عند تصفح المجموعة أن ثمة إلحاحاً واضحاً على تعيين الدكتاتور ومخاطبته في تبدياته المختلفة؛ فمرة يظهر نص بعنوان (دكتاتور ص23)، ثم نص آخر بعنوان ( الملك ص 28)، ثم نص آخر بعنوان (الزعيم ص 34)، ثم (الجنرال ص 37)، ثم (الطاغية ص 77)، ثم (الأسد ص80)، وكلها مسميات متعددة لمفهوم واحد، مما يؤكد مرةً أخرى أن فكرة الدكتاتورية المتمثلة في شخص هي البؤرة الدلالية التي تلتف موضوعات المجموعة من حولها.
ويأتي العنوان الختامي لنص المجموعة الأخير (الدكتاتور ذو الرقبة الطويل)، فيعيد تكرار العتبة الأولى نفسها (العنوان الأساسي للمجموعة)، ليكون بمنزلة الصدى الأخير، فتبدو المجموعة كالدائرة تبتدئ بالدكتاتور ذي الرقبة الطويلة وتنتهي به..!
فهل يعني هذا أن الدكتاتورية هي مبتدانا ومنتهانا، منها خرجنا وإليها نعود!! أهو تنبؤ تشاؤمي، أم محض صدفة قادها ترتيب غير منتظم للنصوص..؟
الجواب: عند الشاعر حمزة رستناوي.
*حسين محمد الحسن: ناقد و أستاذ جامعي سوري مقيم في السعودية.
*الديكتاتور ذو الرقبة الطويلة- شعر- حمزة رستناوي- دار اوراق للنشر- القاهرة 2016
وسوم: العدد 665