أحمد الخميسي في مجموعته "أنا وأنت" بين شمولية الرؤية والشغف بجمالية اللغة
ثمة قصص على غاية من الإبداع شكلاً ومضموناً، تجد نفسك من دون شعور مسبق أنك منقاد إليها، شغوف بلغتها، متلهف إلى الدخول فى محاور شمول رؤيتها وهى تشكل عوالمها القصصية من عبق الزهر وضياء القمر ودندنات القلم وهو يخط على بياض الورق ما اختزن فى أعماق مبدعها من أفكار ناضجة ولغة شغوفة، وإحساس مباشر بجماليات الحياة، والهيمان في فضاء الأحلام وتداعيات الخيال والتخييل، حيث الوطن ... ولادة، وحياة، حاضر ومستقبل، يتماهى بعناصره وتحولاته ونتائجه مع حساسية القاص المرهف وهو ينتقل بين حقول الخاصة بالقلب، والأسرة، وصراع الأجيال والعلاقات الإنسانية والسياسية، وبين الوطن العام الذي يضم الكل فى وحدة الجزء، ويدعم الجزء فى لحمة الكل فى نسيج قصصي موار بالحركة والحياة، وهو ينتقل بفضل براعة الفنان المرهف بين الواقعي والواقعية، الرومانسي والرومانسية، الحلمي والتخييلى، فإذا بالقصص حوامل صادقة ومعبرة لكل مارسمه مبدعها وما أراده لها في انفراد وتألق وتمايز، مقدماً نماذج حية، صادقة ومعبرة لأدب إنساني ، ربما نحن بأمس الحاجة إليه ، فى زمن ندر الإبداع فيه وقل فى مواجهة ذلك الكم الكبير من أنصاف المبدعين الذين يجترون أفكارهم من دون هدف أو قيمة.
بين التنقل الإبداعي المتمدد مابين صفحة واحدة، وثلاث وثمانية وعشرين ثم القصة الأطول 52 صفحة، اشتغلت على فضاء قص طويل شكل بكل ما أشار إليه وأفرزه إلى أنه مشروع رواية فنية كامل ومتكامل.
على تنافر صفحات كل قصة من القصص الخمس عشر التي شكلت المجموعة اللافتة للنظر (أنا وأنت) اشتغل المبدع (أحمد الخميسي) على قص فني قائم على روح قصصية حاضرة، مرهفة، ومتألقة، تشير إلى غنى ثقافي مرجعي، وأفق تخييلي رحب، ساعده كثيراً فى تحقيق ذلك التمايز الذي حظي به بين كتاب القصة المعاصرة.
من يقرأ عنوان المجموعة ( أنا – و – أنت ) يعتقد القارئ أن القصص تدور جميعها حول ثنائية الرجل والمرأة، وما تفرزه هذه الثنائية من علاقات متوائمة ومتنافرة، مراوحة بين شوق وحنين ولقاء وفراق وطلاق، وغير ذلك مما تفرضه مثل هذه الثنائية المتجذرة فى عروق الحياة منذ اللحظة التى خلق المولى آدم ومن ضلعه خلق حواء.
إلا أن من يقرأ القصص لا يجد مؤثرات مثل هذه العلاقة إلا فى حالات قليلة، اقتصرت على القصة الأولى التي حملت عنوان المجموعة نفسها، لتروى حكاية ممتعه من حكايات العلاقة الزوجية القائمة على وفاء الزوج لزوجته المتوفاة التي تبقى على الرغم من رحيلها ساكنه بيته وغرفته ومائدة طعامه، ثم أعماقه وإحساسه المرهف الذي يتحرك دائماً باتجاهها واتجاه ذكرياتهما المشتركة "أتملى وجهك بحب وعمق ويأس فى حجرة النوم، تمتدين بصرك من فوق كتفي إلى صوان الملابس، تهبطين برأسك إلى الوسادة، تطفئين المصباح الصغير، يظل قلبي متيماً بك وفيه أمل لا ينتهي، فقط لو تقولين لي: من منا الذي مات ولم يعد يرى الآخر ؟" ص9 .
قيمة الوفاء النادر صاغه المبدع بلغة شعرية شغوفة واعية ومعبرة ومثل هذه اللغة تجدها فى القصة الرومانسية الهامسة (سأفتح الباب وأراك ص 37- 45) والتي تماهت على عشرة مقاطع لم تخرج عن الأمل الذي يطير متأرجحاً فى قلبه "يارب لا تجعل حياتي شاهدة على قلب يحترق، اجعله ثابتاً بين ضلوعي، دعه راسخاً فى صدري، ينظر إلى الرب قائلاً: هذا قلبك لأنه يحب قلبك لأنه يعرف مالا تعرفه أنت فاطلب له السماح ولا تنكره " ص39
عشرة مقاطع شكلت سيمفونية العواطف النبيلة، مما حولها من فضاء القص إلى رحاب الخواطر الوجدانية المتسربلة بإيحاءات لغة شفافة كانت الشعرية أهم سمة من سماتها الفنية والبلاغية وربما كان من الأسباب التي جعلت القصة تخرج من إطار القص المنضبط بقواعده ومصطلحاته، إلى رحاب الخاطرة المفتوحة على المشاعر والأحاسيس الشغوفة بكل حب وتألق وجمال على أن القصص الأخرى لم تخل في ذلك الفضاء الشعري والشاعري إلا أنه لم يخرج عن حدود مصطلح القص وإن جنح فى بعض الأحيان إلى التخييل الذي اشتغل عليه بشكل فني في قصة (روح الضباب ص11: 24) من خلال تصوير جو مشحون بصرخات دفعته إلى الهروب من الضباب حتى دخل مصعداً حديديا ليجد فتاة جالسة على أرضية المصعد خائفة، هاربة من الصرخات الحادة التي كانت تسمعها من الضباب الأزرق ويدخل معها فى حوار قربهما من بعض "امتد موج الصوت يلعق حوائط العمارة، لزم الاثنان الصمت تماماً، كفا عن الإتيان بأية حركة راحا يتنصتان على الهواء بتوتر انحسر الصوت مهزوماً" ص12 .
ويعرف أنها في المصعد من يومين أو ربما ثلاثة فهي لا تحب أن تموت مرمية بجوار بالوعة على الرصيف مثل طيور ضربتها عاصفة.
ويرى أن كل شئ بدأ فى فضائح النجوم مروراً بالاكتشافات العلمية حتى الكوارث الطبيعية والحروب ص8 ، وتعرف نفسها باسمها هدى وأنها طبيبة نساء وأن ما يصدر من أصوات حالة نادرة سبق وسمعت مثلها عام1970 فى مدينة برستول البريطانية ومدينة تاوس وأيرلندا واسكتلندا ونيوزلندا وأمريكا وغيرها وافترض بعضهم أن الصوت وافد من كوكب أخر ومن يسمع الصوت يصاب بمرض نفسي، تألف الوحدة بينهما ويطمئنها بأنها ستخرج عما قريب وتعود إلى بيتها وستنسين حتى أننا التقينا ذات ليلة فى كابينة ضيقة فتجيبه: لا.. لن أنسى، لقد تقاسمنا الخوف والحيرة والهواء القليل، فكيف أنسى؟ ص20، ويحين الوقت للانصراف رفعت رأسها لأعلى وقامت بشهيق عميق، خطت خطوة صغيرة إلى الأمام، أعقبتها خطوة ثانية، ثم خطوة ثالثة، هبطا ببطء درجات المدخل، توقفا وراء الساتر الأسمنتي، هبت عليهما نسمة باردة من الشارع الغارق فى الضباب، حدجت فيه ودمعها يهتز على أهدابها، أمعن النظر إليها، كيف اجتمع لجمالها كل هذا الإنهاك وكل هذا النور ؟ ص24
ومثل هذا التخييل نراه بصورة أكثر شاعرية فى قصة النور حيث يدخل الراوي في حكاية ظهور المصباح الحقيقية والتي تعود إلى القمر الذي كان يلهم البشر عن طريق النور إلى الشعر والعشق وفى بعض الليالي كان القمر يهبط إلى الأرض ويسبح فى البحيرات فيلمع نوره فأعجب صياد بذلك النور فتربص بالقمر وصاده، كان القمر ساخناً من مشاعر العشاق فتركه الصياد حتى خفت حرارته وفى المصباح راح يحطمه بمعول ضخم إلى قطع وشظايا صغيرة، وراحت المصانع تعبئ الشظايا فى علب ورقية وراحوا يبيعونها للناس ... النور ... النور هكذا ظهر المصباح فى كل بيت.
قصة صغيرة لم تتجاوز الصفحة الواحدة، تألق فيها الخيال والتخييل مع اللغة الشاعرة لتسهم في بناء قصة خفيفة الظل ممتعه ومشوقه.
وفى قصة ليلة بلا قمر حكاية بقدر ماتحمل من المفارقة والسخرية السوداء تحمل كثيراً من معاني الخوف من المستبد حتى وإن دفع الخوف إلى شنق إنسان برئ، فبعد أن أحيل إلى المكلفين بالإعدام عشرين رجلاً لإعدامهم، وبعد أن تم الشنق يلاحظ أحدهما أن العدد تسعة عشر وليس عشريناً فثمة مشنوق هارب مما يدفعهم الخوف من مرؤوسهم إلى اصطياد طفل لا يتجاوز السادسة عشره من عمره فيخبرهما " أنا ذهبت بأمي إلى خالي لأنه على فراش الموت وعائد إلى دارى" ص27، لم يستمعا إليه إلى رجائه يقودانه إلى المشنقة وينفذان فيه حكم الشنق وبعد أن تم لهما ما أراد يلاحظان أن الفتى أقصر من الآخرين فيعقب الآخر: أقصر أطول المهم أنهم عشرون ص30.
وفى قصة بالميرو والتي لم تكن غير لافته كتب عليها كافيه بالميرو دخلها صحفي حضر إلى (محج قلعة عاصمة داغستان) ليحضر احتفالاً بذكرى أحد كبار شعراء القوقاز فيخرج من الاحتفال ليرسل تقريره إلى الجريدة فيدخل المعنى تستقبله شابه يطلب منها فنجان شاي بالنعناع تحضره ناقصاً سكراً فيقول فى سره يسرقون الزبون ويفكر إن كان بحوزته مايكفى من روبلات وعندما سأل عن الحساب أجاب من قدمت له الشاي لا شئ، أشكرك هذا كافيه ولابد من المحاسبة، أجابته هذا بيت ليس كافيه لكن هناك لافته ضخمه مكتوب عليها كوفي شوب بالميرو، قال الشاب: نعم، لكن مدخل الكوفي شوب على الناصية الأخرى من الشارع وكل من خدمك زوجتي ومن تراهم جالسين عمى وابن عمى أنت سألتني عن انترنت وأنا عندي. الشاي وغيره وهو واجب الضيافة ص36 بمثل هذه الخاتمة الاندهاشية يتألق القص الناجح القائم على المفارقة التى تخيل قارئها إلى خاتمة على الأقل أنها غير متوقعه مثل هذا الشغل على المفارقات والنهايات المدهشة كانت قاسماً مشتركاً فى معظم قصص المجموعة ولا سيما قصته الأطول بيت جدي 95 – 146 التى امتدت على مساحة اثنين وخمسين صفحة حتى بدت مشروع رواية لا ينقصها شئ كثير حتى تتحول إلى رواية أجيال حيث الجد والأولاد والحفيد والأم والزوج السجين وكل منهم بسمته وسماته إنما يشكل تاريخاً لحياة جد بأفكاره المتزمتة وحياة أولاد منفتحين على التيارات الماركسية وإيمانهم بقدر الثورة والأم المكافحة مع أولادها وزوجها معتقل سياسياً وتمر على حرب السويس والانزل الصهيوني والمشاركة في المقاومة الوطنية واستشهاد جدتهم كل هذه الأحداث المتنقلة من مكان إلى مكان وزمان إلى آخر ومن جيل إلى جيل أخر شكلت معمار قصة طويلة ظلت خيوط نسيجها المعماري تحت سيطرة المبدع الذي عمق إحساس كل جيل بما يفكر وينتمي إليه.
على أن هذه القصص على الرغم من تنوع موضوعاتها وتناغمها مع الواقع الحقيقي أو الخيالي المتخيل لم تخل من وقفات ناقدة كاشفه وفاضحة لا يمكن تجاوزها لأنها فى صلب آلية القص المتداخل مع الحياة بكامل عناصره وفى ذلك ما جاء فى الصفحة 18 "غريب أن يتابع الأحداث بوعيه فقط، من ناحية هو فى قلب الأحداث تماماً ومن ناحية هو خارجها تماماً يتفرج بالحريق ولا يكتوي بناره كأنه فى عرض سينمائي "أليس في هذا نقد واضح لكثير من الناس السلبيين الذين لا يعرفون أين يضعون أقدامهم.
وفى موقع آخر نقرأ: كل الناس يقتلون ويعذبون أمامنا ونحن نواصل حياتنا كأن شيئاً لم يكن، أي عذاب عانى منه الرجل الصعيدي الذي ألقى بطفليه الصغيرين فى النيل بسوهاج لأنه غير قادر على إطعامهما، أي عذاب أحسه رجل قبل أن يشنق نفسه بسبب الجوع على عمود لوحة إعلانات كبيرة، ومع ذلك كنا نتجه إلى أعمالنا، نأكل ونشرب ونتبادل البسمات كنت أحاول أحياناً أن أفكر في المحامى الشاب الذي توفى تحت وطأة التعذيب فى قسم شرطة ص20.
مثل هذا النقد اللاذع نجده فى الصفحة 22 وهو يصور كيفن كارتر عام1993 لطفلة سودانية فى الرابعة من عمرها وهى تزحف ببطء شديد على الأرض هزيلة جائعة إلى مركز توزيع الطعام واللبن ص22. ويكفى قراءة قصة الصبي الذي يأكل الماء لتتعرف على مأسي أطفال الشوارع "صبى ينمو على الماء مثلما تنمو الزهور، صبى قد يموت من الجوع تحت أحد كباري المدينة أو قرب جراج سيارات، صبى قد يصبح مقاتل شوارع ينتزع قوت يومه بالمطواة ويحسبون له ألف حساب، صبى تنتهي حياته بين جدران أحد السجون، صبى قد يصبح بمعجزة عالماً عظيماً " ص84 وحتى يوثق نظرته ونظريته اتجاه أطفال الشوارع يستعين بما جاء فى تقرير للجهاز المركزي للإحصاء 1 يناير2010 فى أن مليونا طفل فقير فى الشوارع بلا تعليم ولا طعام يكدحون فى مختلف الأعمال الشاقة يعيشون فى المقابر والعشش والجراجات والسلالم والمساجد ص84 . ويكمل استشهاداته بما ورد فى تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية عام2014 وما أوردته جريدة الاتحاد عن عدد المرشحين لمنصب الرئيس بعد عزل حسنى مبارك وبينهم لص يدعى محمد رشاد مؤكداً أنه تاب وأنه أجدر المرشحين بمنصب رئيس بلد عظيم وغنى مثل مصر ص86 . وما نشرته جريدة الشروق 10 مارس2014 بأن مجموع ثروات رجال الأعمال المصريين زاد بعد ثورة يناير2011 إلى أربعة مليارات وبلغ 22.3 مليار، وما نشرته صحف مصرية 12 ديسمبر2014 بأن طفلاً مصرياً فى مركز الفشن بمحافظة بني سويف شعر بالجوع فسرق خمسة أرغفة من مخبز فسجنه القاضي لمدة عام .ص89
بمثل هذا التناول الواقعي الجرئ والنقد الأجرأ تتبلور قيمة المبدع الأصيل وهو يقدم إبداع كاشف وناقد لا يجرح ويستعطف بعض دموع آنية، إنما ليضع يده مباشرة على مكامن المرض ويكشف ما يخفيه من أبعاد تضر بالإنسان والمجتمع ومن بعدهما الوطن .
ولا أجد في كلمة اختم بها دراستي المتواضعة أجدر وأصدق من كلمة مهندس القصة العربية الأستاذ يوسف إدريس حيث قال "يقدم أحمد الخميسي نموذجاً آخر فى القصة الجديدة، أما عن الكاتب فهنا المشكلة والمعجزة ، أحمد يكتب قصة من النوع الجديد وكالسيد البدوي بأسنان كاملة، وأكثر بذقن وشارب، ضعوا القصة فيما شئتم من خانات، أنا شخصياً أضعها فى الخانة الجيدة جداً، ثم اعلموا أو فلتعلموا أن كاتبها سنه – وقتئذ – ثمانية عشر عاماً، واحتاروا مثلى، أين تضعونها بعد هذا ... برافو ياأحمد كتبت" وتألقت ونجحت وحفرت اليوم لك موقعاً متجاوزاً ومتميزاً بين كتاب القصة العربية القصيرة.
مرة أخرى وبعد ما يقارب الخمسين عاماً من مقولة يوسف إدريس نقول:
مرحى لك وطوبى لك وأكثر من برافو فقد تعبت واجتهدت وها أنت تحصد أزاهير تعبك وبيارق اجتهادك.
وسوم: العدد 667