التناص في الشعر..
لابد في تناول أي مصطلح نقدي أن نقف على ماهيته بدقة وعلمية، ومصطلحنا اليوم هو التناص، او التضمين، وحين نعود إلى تراثنا العربي، نجد مصطلحاً قريباً منه وهو مصطلح التضمين، والبعض أسماه بالسرقات، وقد فهم بعض الباحثين والنقاد المصطلح خطأً فاعتبروه ضرباً من السرقة، وأخذوه على الشعراء، والأمر خلاف ذلك تماماً، فلو كان الأمر كذلك لما وجدنا عدداً من كبار النقاد يشيدون به، ومنهم ابن الأثير الذي اعتبره (التضمين) من ادق الوسائل مذهباً، وأحسنها صورة، يقول عنه : هذا هو المحمود الذي يخرج به حسنه عن باب السرقة وقوله: وذلك من أحسن السرقات. ومن يقرأ في تراثنا الشعري يجد توجهاً واضحاً من قبل الشعراء في التعامل مع هذا المصطلح، ومعرفة هذه الظاهرة الفنية، ومثال ذلك قول الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:
هل غادر الشعراء من متردمِ أم هل عرفت الدار بعد توهمِ
والأمر نفسه لدى الشاعر كعب بن زهير ، حين تحدث عن التكرار وسلامته في الشعر يقول: ما أرانا نقول إلا معادا أو كلاماً من قولنا مكرورا
والأمر نفسه نراه لدى الشاعر أبي تمام حيث يقول: يقول من تقرع أسماعه كم ترك الأول للآخرِ
ولم يغفل النقاد عن هذا المصطلح أبداً، فقد تنبه عبد القاهر الجرجاني إلى هذه الظاهرة، لكنه كان أكثر تحديداً ودقةً، ورأى أنه لا يصح استخدام التضمين في المعاني المشتركة والأفكار المبتذلة، لأنها تتعلق بالمعاني الأصيلة، وأن يلمّ بما سبقه من قول شعري، أو غير شعري. وكذلك لدى الناقد أبي هلال العسكري الذي أوضح أن اللاحق لا يستغني عن السابق في تناول بعض المعاني . ولعلنا نرى ان الأمر يحتاج أولاً إلى ثقافة غزيرة لدى الشاعر، وحسن التوظيف واختيار المكان المناسب في النص الشعري ثانياً، والثقافة تقوم على التراكم، والاستمرار بعيداً عن الانقطاع، ولعل دليل ذلك مقولة الناقد ابن رشيق عن الشاعر الجاهلي امرئ القيس، حيث رأى أنه شاعر موسوعي لايفلت شاعر من حبائله، وفي هذا إشارة واضحة لإلمام امرئ القيس بشعر غيره من الشعراء. وقد يكون التضمين في المعنى وليس حرفي الدلالة، من ذلك مفهوم الليل لدى الشعراء، فهو يشابه لدى معظمهم ليل امرئ القيس، الذي يقوم على الطول والامتداد، والهموم، والظلام، ولننظر في قول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطّى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
والمعنى نفسه نجده لدى الشاعر العراقي إبراهيم الطبطبائي، المتوفى ١٩٠١، حيث نجده يصف الليل بقوله: أيرجع الليل الطويل لقائلِ ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ
ولدى الشاعر اليمني (عبد العزيز المقالح) بقوله: ألا أيها الليل لا تنجل ارتحلي يا نجوم
والشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، يحاكي ليل امرئ القيس ويأخذ منه تطاوله وثقله عند ربطه (بالجمل): كنت أراك فوق تقاطع الطرقات فوق تصالب الليل المنيخ على النهار.
وكذلك نجد نزار قباني يأخذ من القرآن الكريم معانٍ مستلهماً دلالتها في قصيدته عن حرب أكتوبر، موظّفاً عبارة( سبع عجاف)، التي وردت في سورة يوسف عليه السلام، ليعبّر عن الأثر الإيجابي الذي خلفته تلك الحرب في إعادة الثقة للأمة، بعد سبع سنين من الجفاف الروحي إثر نكسة حزيران، وهو يشابه عودة الخير لأهل مصر بعد سبع سنين من الجفاف، يقول: هُزم الروم بعد سبع عجاف وتعافى وجداننا المطعون
لا شك أن الحديث في هذا الموضوع طويل ومتشعب، ولكننا في ماقدمناه في هذه العجالة نريد أن نضيء ومضة نقدية تميط اللثام عن دلالة التضمين الثقافي أو التناص كما يسميه النقد الحديث، وماهيته سلبية كان أو إيجابية، ولا شك أن الأمر ليس مفتوحاً على إطلاقه بل تحكمه ضوابط وأسس، وهو ماستتحدث عنه إن شاء الله تعالى في وقت لاحق..
مأخوذ عن دراسة لي، عنوانها: ( التناص دراسة في الدلالة والمصطلح)
وسوم: العدد 667