في تجليّات الحقيقة وصداقة النّور الإلهي
قراءة في قصيدة للشّاعرة فاطمة نزّال
- النّصّ:
تواريت عنّي
لتتجلّى فيّ
نورك يملأني
روحك تؤنسني
وبنبضك في قلبي
يزداد يقيني
أنّك حيّ...
- القراءة:
ثمّة فرق شاسع بين أن تتبنّى نظريّة الحقيقة وأن تتوقّف عن البحث عنها لتحيا في دائرتها النّورانيّة. وثمّة تعارض بين اعتناق الحقيقة بالقوّة وتلمّس خيوطها والاستدلال بها بالفعل. وإذ تطلّ علينا الشّاعرة فاطمة نزّال بهذه القصيدة المشرقة بأنوار الحقيقة، تعبّر عن تأمّل رفيع في عمق أعماقها الإنسانيّة، حيث ولجت باحثة عن الحقيقة لتدرك مقامها في أعمق مكان في النّفس، حيث يغيب الحسّ، والسّمع، والبصر، ولا يبقى إلّا هدير الصمت القائل: " أنت هنا في قلبي."
- القصيدة الحقيقة:
( تواريت عنّي / لتتجلّى فيّ).
مبدأ تجلّي الحقيقة يعتمد على اختفائها عن الحسّ الظّاهري لتُدرَك في الأنا. ما يدلّنا على نقاء بصيرة الشّاعرة واعترافها الصّريح بأنّها تلمّست أنوار الحقيقة وإلّا لما قالت ( تواريتَ.. لتتجلّى). فالتّجلّي هو الظّهور المترافق والاختبار الشّخصيّ. وقد قاد الشّاعرة لتعلن حضورها في الدّائرة العشقيّة، والاتّحاد الكامل بالمعشوق الإلهيّ دون أن تمهّد لنا السّبيل إلى ذلك. فوهي المغمورة بالتّجلّي، تسبح في يمّ النّور وتحيا فيه ومعه في حركة ديناميكيّة، بل لم تعد هي من تحيا وإنّما الحضور الإلهيّ هو الحيّ فيها. ( نورك يملأني / روحك تؤنسني). وكأنّي بها تبشّر بموتها عن الأنا وبقيامتها إلى الحيّ الّذي لا يموت.
النّور في رمزيّته وحقيقته ينفي كلّ ظلمة، وتشويش، واضطراب. ويكشف للعاشق حضور الله بعيداً عن الأدلّة الملموسة والحسّيّة. ما ترجمته الشّاعرة بقولها ( وبنبضك في قلبي). انصهر نبضها بنبضه، واتّحد النّبضان ليزداد اليقين، أو بمعنى أصح، لتلج الشّاعرة العاشقة عالم الحضور، وتسبر أغواره بثقة ويقين لا لبس فيهما. ( يزداد يقيني / أنّك حيّ...). يشابه قولها إلى حدّ بعيد قول الحلّاج:
أدنيتـَني منك حتـّـى ظننتُ أنـّك أنـّــي
وغبتُ في الوجد حتـّى أفنيتنـَي بك عنـّــي.
اغتربت الشّاعرة عن نفسها، بل جذبها الحضور الإلهي بحبال المحبّة والودّ حتّى أفناها عن ذاتها وسكن فيها، فأمسى كيانها سكناه ( نورك يملأني). لم يبقَ من ذرّة في كيان الشّاعرة إلّا وامتلأ نوراً ويقيناً، فتشكّلت الصّداقة كعلاقة حميمة بينها وبينه، ونمت حتّى تجلّى الكيان العاشق دائرة من نور، وحياة تضج بحقيقة الحبّ.
في الفناء عن الذّات يلقى الإنسان كينونته في حضور العشق الإلهيّ، ويرتشف الحرّيّة المرجوّة، وينعم في سعادة الحقّ. ولئن ارتقت تعابير الشّاعرة إلى هذا المستوى، سمت إلى رتبة القدّيسين بالمفهوم العشقي لا بالمفهوم الدّيني. أي ارتفعت إلى رتبة المحبّين الّذين إذا ما صلّوا تكلّموا شعراً، وإذا ما كتبوا صاغوا الكلام بوحي.
فالشّاعر قدّيسٌ
من وحي الله يكتبُ ويترنّمُ
وعلى صفحات الكون يخطّ أشعاره ويتلو...
وسوم: العدد 673