النثر العربي في عصر الدول المتتابعة 2
ثانياً – الرسائل الإخوانية:
هي رسائل يتبادلها الأصدقاء والأحبة في جو نفسي ملؤه المودة والمحبة يعبرون بها عن شعور إنساني نبيل صادر عن عاطفة صادقة وإحساس بسمو العلاقة الاجتماعية بين المتراسلين، كما أنها تشير إلى الصلة الثقافية بينهما.
وتحوي الرسالة مضموناً واحداً يدور حول مشاعر المحبة، وقد تكون تهنئة أو تعزية، أو عتاباً أو اعتذاراً، وقد تكون تقريظاً لكتاب خطه المرسَل إليه، ويكثر فيها الإطراء في غير الشجاعة والكرم إلا إن استدعى المقام ذلك ([1])
وتنهج الإخوانية نهجاً تعورف عليه، إذ تستفتح بالدعاء للمرسَل إليه مباشرة، أو إلى حضرته أو محل وجوده، أو إلى مجلسه السامي على سبيل الكناية عن الموصوف، كأن يقال "أبقى الله المحل الأعلى " –وقد تستهل بكلمة كتابي إليك، أو بالخطاب مثل أيها السيد، أو بكلمة (يقبل الأرض)، وهذا مما تأثر به الكتاب، بالقاضي الفاضل العباسي.
وفي مكاتبات النساء لا يقال (وكرامتكِ)، ولا (أتم نعمته عليكِ)، ولكن (وأتم نعمته لديكِ) كما لا يقال (ولا فَعْلتِ) ولكن (إن رأيتِ أن تَمُنّي بذلك مَنَنْتِ به) وما أشبه ذلك، وفي هذا إكرام لهن.
ولا ضابط لختامها، وقد تختم بما يرغب في مواصلة الكتابة، أو بالدعاء على غرار الرسائل الرسمية وربما خوطب الواحد بلغة الجمع، ويكثر هذا عند المغاربة.
وقد تكون الإخوانية بين أصدقاء من المسؤولين وحينذاك تراعى ألقاب كل منهم ([2]) .
وممن عرف برسائله الإخوانية (جمال الدين بن نباتة)، وله كتاب (سجع المطوَّق) ترجم فيه لكل من قرظ كتابه (مجمع الزوائد)، كما عرف خليل بن أيبك الصفدي برسائله الإخوانية وكذلك فخر الدين بن مكانس، وبرهان الدين القيراطي.
فمما خطه ابن نباتة في تهنئة صديق له عوفي من مرضه قوله: "وقى الله من الأسواء شخصه الكريم، وشمْله النظيم، وقلْب مُحِبّه الذي هو في كل وادٍ من أوديـة الإشفاق يهـيم، ولا زالت الصحة قرينه حتى لا يعتلَّ في منازله غيرُ مرور النسيم، ويصفُ شوقاً يزيد بالأنفاس وَقْداً، ويجدد للأحشاء وَجْداً، ويباشر القلب المغرم، فيمد له من عذاب الانتظار مداً.
وينهي أنه جهز هذه الخدمةَ نائبةً عنه في استجلاء وجه أكرم الأحبة، مبدية إلى العلم الكريم أنه مع ما كان يكابده من الأشواق، ويعالج من خواطر الإشفاق بلغه ضعف الجسد الموقّى، وعارض الألم الذي استطار من جَوانح المحبين بَرْقاً، فلا يسأل الجنابُ الكريم عن قلب تألم، وصدر صامتٍ بالهموم ولكن بجراح الأشجان تكلم ولسانٍ أنشد:
ألا ليتني حُمِّلْتُ ما بكَ من ضنى
على أن لي منه الأذى ولك الأجرُ
ثم لطفَ الله تعالى وعجّل خبر العافية المأمولة، والصحة المُقْبلة عقيب الدعوات المقبولة، فيالها من مسرة شملتْ، ومبرة كملت، وتهنئة جمعت قلوب الأوداء وجملت، فهنيئاً له بهذه الصحة المتوافرة الوافية، والحمد لله ثم الحمد لله على أن جمع بين حصول الأجر ووصول العافية، وعلى أن حفظ ذاته وحفظُها هو المقدمة الكافية الشافية.
وتقاسم الناس المسرة بينهم
قسماً فكان أجلَّهم قِسْماً أنا
والله تعالى يسبغ عليه ظلال نعمه ويحفظه حيث كان في نفسه وأهله وخدمه، وكما سَرَّ الأحبابَ بخبر عافيته كذلك يسرُّهم بعَيان مَقْدَمه" ([3])
هذه الإخوانية افتتحت بالدعاء وبالتعبير عن شوق الصديق وحبه لأخيه، ولكنه لم يوجه هذا الحب إليه مباشرة وإنما إلى "شخصه الكريم وشمله النظيم" و: "الجناب الكريم" على سبيل الكناية عن نسبه،وفي ذلك إجلال له وإشعار باحترامه، ثم بين أنه كان يدعو لصديقه بالشفاء العاجل فلما تحقق له ذلك سَعُد، وها هو يرسل إليه التهنئة لتعبر له عن حبه له، وحزنه لما كابده من معاناة المرض، كما حمد المولى تعالى وأكد ذلك بتكرار الحمد على ما ناله صاحبه من الثواب العظيم، مع الشفاء الذي أبهج الناس جميعاً ولاسيما المرسِل. ثم دعا للمرسَل إليه في خاتمة الرسالة بالحفظ وإتمام نعم المولى تعالى عليه، وتمنى لو زاره هذا الصديق ليدخل إلى قلبه سرور مقدَمه إليه.
والرسالة جاءت قصيرة وقد خطت بأسلوب مصنوع، ووشحه ببيتين من الشعر، وقبس من القرآن الكريم (فيمد له من عذاب الانتظار مداً) فكأن مرضه وانتظار شفائه جعلاه يتقلب على الجمرة كمن يتقلب في نار جهنم.
وكان بعض عباراته ذات نغمة موسيقية على نحو قوله في التعبير عن فرحة الشفاء "فيالها من مسرة شملت، ومبرة كملت، وتهنئة جمعت قلوب الأدواء وجملت…" .
وبصورة عامة لا نرى في هذه الرسالة انسياب العبارة، بل التكلف فيها ظاهر وذلك بتأثير ذوق العصر عليه.
وهذه رسالة إخوانية أخرى يخطها قلم الصفدي إلى علاء الدين بن محيي الدين العمري، وهي رسالة تعزية تجمع بين النثر والشعر، ويستهلها بقوله (يقبل الأرض) ثم يروح يعبر لصديقه عن حزنه للخطب الجلل الذي ألم به من وفاة القاضي شهاب الدين العمري، يقول فيها:
"يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم الذي برّح، والسقم الذي جر ذيول الدمع على الخدود وجرّح، لما قدره الله تعالى من وفاة القاضي شهاب الدين:
سقـتــه بألطــف أنـدائهــا
وأغزرها ساريات الغمام
فإنا لله وإنا إليه راجعون، قولَ من غاب شهابه، وآب التهابه، وذاب قلبه فصار للمدمع قليباً، وشاب فُوْدُه لمّا شبّ جمر فؤاده، ولا غَرْوَ فيومه جعل الولدان شِيباً، فيما أسفي على ذلك الوجه المليء بالملاحة، واللسان الذي طالما سحر العقول ببيانه، … وكأن أبا الطيب ما عنى سواه بقوله:
تعثرت بك في الأفواه ألسنها
والبرد في الطرق والأقلام في الكتب
فرحم الله ذلك الوجه وبلّغه ما يرجوه، وضوّاه بالمغفرة يوم تبيض وجود وتسود وجوه…." ([4])
فالصفدي في هذه الرسالة يبدي تواضعه باستهلاله بـ (يقبل الأرض) ويظهر أحزانه، ويذرف دموعه، ثم يدعو لقبر الميت بالسقيا، ثم يؤبّن المرثي بذكر خلاله ملاحة وجهه، وفصاحته، ولا أرى الأولى تناسب المقام، ولو قال (فيا أسفي على ذلك الوجه الملي بنور الإيمان) لكان أبلغ في هذا المجال، كما أنه ينهي الرسالة بالدعاء بالمغفرة يوم تبيض وجود وتسود وجوه… وبهذا تشابه الرسالة شعر الرثاء من حيث المضمون فكلاهما دموع وأحزان، وتأبين ودعاء…
وقد جاءت الرسالة بأسلوب مسجوع، أضفى على النص نغمة محببة، وذلك على نحو قوله (وينهي ما عنده من الألم الذي برّح، والسقم الذي جر ذيول الدمع على الخدود وجرّح) فالحاء هنا تناسب نغمتها موقف الحزن الذي يبح به الصوت، أو يبدو متعباً لكثرة الحزن والدمع الذي يذرف.
ولكني أرى في قوله (غاب شهابه) تورية مناسبة ، فالمتوفى هو شهاب الدين العمري، وهو المقصود ، والشهاب النجم وهو صفتهلعلو شأنه ، أما قوله ( وآب التهابه، وذاب قلبه فصار الدمع قليباً) ففيه تكلف ظاهر ولا سيما في (قليباً) و (قلبه)، كما قبس من القرآن الكريم من قوله تعالى )إنا لله وإنا إليه راجعون( و )يوم تبيض وجوه وتسود وجوه( وضمن النص بيتاً من شعر المتنبي.
وعلى أي حال فالرسالة في مضمونها وشكلها نموذج يمثل العلاقة بين أناس العصر والأسلوب المتبع في ذلك العهد.
وهذه إخوانية أيضاً سطرها شهاب الدين العمري ([5]) من دمشق إلى خليل بن أيبك الصفدي وكان في القاهرة، وكان الثلج قد تواتر في سنة 744هـ، يقول فيها:
"كيف أصبح مولاي في هذا الشتاء الذي أقبل يرعب مَقْدَمُه، ويُرهَب تقدُّمُه … وكيف حاله مع رعوده الصارخة، ورياحه النافخة، ووجوه أيامه الكالحة، … وكيف هو مع جيشه الذي ما أطل حتى مد مضارب غمامه، وظلل الجو بمثل أجنحة الفواخت([6]) من أعلامه، فلقد جاء البرد بما رضّ([7]) العظام وأنخرها، ودق فخارات الأجسام وفخّرها، وجمد في الفم الريق، وعقد اللسان إلا أنه لسان المنطيق، ويبّس الأصابع حتى كادت أغصانها توقد حطبا، وقيّد الأرجل فلا تمشي إلا تتوقع عطبا … فكيف أنت يا سيدي في مثل هذه الأحوال، وكيف أنت في مقاساة هذه الأهوال …. أما نحن فبين أمواج من السحب تزدحم، وفي رأس جبل لا يُعْصَم فيه من الماء إلا مَنْ رُحِم، وكيف سيدنا مع مجامر كانون وشرار برقها القادح، وهمّ وَدْقها الفادح، وقوس قزحها المتلون، رد الله عليه صوائب سهامه، وبدّل منه بوشائع حلل الربيع ونضارة أيامه، وجعل حظ مولانا من لوافحه ما يذكيه ذهنه مع ضرامه، وعوّضنا وإياه بالصيف، وأراحنا من هذا الشتاء ومشي غمامه المتبختر بكمه،المسبل بمنه وكرمه،إن شاء الله تعالى"([8]) .
هذه الإخوانية ليست كغيرها من الإخوانيات، فهي لم تستفتح بالحمدلة والبسملة، ولم تحو ألقاباً ولا مبالغات في التكريم، لأنها جاءت أشبه بفن الوصف إذ لا نرى فيها من الأخوة إلا السؤال عن أحوال المرسَل إليه في هذا الشتاء القارس، وتبيان معاناة المرسِل في هذا الجو البارد. وما سوى ذلك فصور جميلة تشخّص أو تجسّم الشتاء في صور استعارية فيها كثير من الإبداع الفني، فالشتاء إنسان يرعب مقدمه ويرهب تقدمه، ورعوده صاخبة، ورياحه نافخة، وما أجمل هذه الاستعارة فكأن الرياح المتحركة نافوخ يحرك هواء الطبيعة ويبرد جوها. وأيام الشتاء كالحة، وهي صورة تعرض الحالة المادية والنفسية للكون وناسه في هذا الفصل، وكأن الشتاء المرهب المرعب جيش عدو ضرب في السماء أطناب خيامه، وكأن السحب طائر نشر جناحيه، وهما صورتان جميلتان لم أر شبيهاً لهما فيما قرأت، أما برده فمطرقة تدق العظام، أو مثقب ينخرها، وهذا حال من يتأذى ببرد الشتاء كثيراً، وهو أيضاً يجفف الأصابع حتى يجعلها كالحطب في يبوسته، ويضعف حركة الكبير، فلا يسطيع الحراك بسهولة، وهذه الصور الاستعارية كلها تحرك الجماد فتضفي عليه حيوية، وتوضح أخطار الشتاء ومعاناة الناس ومعاناته فيه، وقد أرسل هذا الفصل أمطاره الغزيرة فلم يُعصَم أحد منها إلا من رحم الله، ووسائل التدفئة لها شرر يقدح، والمطر يسبب الهموم، ثم يكون قوس الخير بألوانه البديعة ليبشر بخير يأتي في الربيع الناضر فتنشط عقول الناس فيه.
وأخيراً يدعو الكاتب المولى ذا المنة والكرم أن يأتي الصيف ليستريح من وعثاء الشتاء القارس الذي تتبختر سحبه في كبد السماء وترسل ذيول أثوابها الضافية في سماء الكون الفسيح.
وهذه الصور كلها قدمت بأسلوب فني جميل تجعلني أكبر في مؤلفها مقدرته على استخدام السجع بنغم عذب، وإذا كان وصف الشتـاء قد رسم لنا لوحـة فنية بديعة فإن أسلوب الكاتب لا يقل جمالاً عن تصويره، فعباراته في : "ويبّس الأصابع حتى كادت أغصانها توقد حطبا، وقيّد الأرجل فلا تمشي إلا تتوقع عطبا" و: "أما نحن فبين أمواج من السحب تزدحم، وفي رأس جبل لا يعصم فيه من الماء إلا من رحم" و: "وكيف سيدنا مع مجامر كانون وشرار برقها القادح، وهمّ ودقها الفادح" - جاءت منسجمة متوازنة، أضفت على النص جرساً عذباً، وهذا ما يجعلني أؤكد أن مقدرة الكاتب هي التي تجعل المحسن حسنا أو متكلفا ممقوتا .
ومن الرسائل الإخوانية في العهد العثماني ما كتبه حسن المغربل([9]) إلى الشيخ أحمد المنيني الدمشقي وكان الشيخ في دار الخلافة القسطنطينية، وقد حوت مزيجاً من الشعر والنثر، وتعبيراً عن حب وشوق يكنه طالب لأستاذه الذي كان له فضل تعليمه.
لم تبدأ الإخوانية بالحمدلة والصلاة على الرسول r كما هو الحال في معظم الرسائل الرسمية، وإنما بالثناء على الممدوح ثناء فيه كثير من التمجيد والتفخيم ، ولم يعرفنا على اسمه بل على صفاته، "فهو عنوان الفضل وبسملة كتابه، ومقلد بابه، وفصل خطابه، إكليل تاج الدهر، ودرة عقد المجد والفخر…." ثم قال بعد حمد الله تعالى "مؤلف القلوب وإن كانت الأجساد نائبة، والجامع بَيْنَها بعد بينِها فأصبحت بقدرته في عيشة راضية" ثم راح يسرد حديثه، بادئاً بتقبيل يدي المرسل إليه وتقريظه بقوله:
"أقبل يدي المولى، لا زالت مقاليد السعادة طوع يديه، ولا برحت مرقاة السعادة مُشَرَّفةً بلثم قدميه، وأهديه سلاماً تتناسب جداول المحبة في رياض أسراره، وتبدو لوامع المودة من فلك سماء أنواره، وأبثه ثناء عم نَشْرُه أكناف تلك الربوع والمنازل، واعتقاداً قام على برهان صدقه أوضح الدلائل، ولوليه دعاء على مر الدهور لا ينقضي، ...أن يديم على صفحات خدود وجه الكون شامة دهرة، ويمتع الوجود ببقاء أوحد وقته ومفرد عصره . مَن مَلَك من الفضل زمامَه فانقاد إليه انقياد الجواد، وجرى في ميدانه فأحرز قصب السبق بفكره الوقَّاد، الحِبْر الذي فاق بجميل صفاته الأوائل، والبحر المشتمل بذاته على جواهر الفضائل، الفصيح الذي أن تكلم أجزل وأوجز، وأسكت كل ذي لسن ببلاغته وأعجز من تحلى كلامه بقلائد الدرر والعقيان، وفاق نظامه على بلاغة قس وفصاحة سحبان، عامر أندية المجد والكرم، وناشر أردية الأدب والحكم ... هذا وكم نمقت أفكاره في جنح غلَس الدَّيْجور، ما هو واقع في النفوس من حَوَر الحور ...، وكم طافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقه وعلومه، وسعت أفكار بني الآداب بين صفا منثوره ومروة منظومه، فلا زالت الأيام باسمة الثغور بمعاليه، والأنام حالية النحور بمنن أياديه، ولا برح سرادق مجده الشامخ مضروباً على هام المجرة والسماك، وشرف فضله الباذخ منوطا بمستقر الشمس من الأفلاك ، ... فلم أر لساناً إلا وهو مشغول بشكر أياديه، ولم أسمع بيانا إلا وهو مقصور على نشر معاليه، هو جناب المولى المشار إليه، ... قدوة للفضلاء يقتدون بآثاره، من محب يرى أن لا طيب إلا شذا عبير ترابه، ولا نجيبَ إلا مَنْ تَشَرَّفَ بلثم أعتابه، وأُقْسِمُ بمَنْ جعل محاسن الدنيا في بهجة ذاته محصورة، وأسباب العليا على ملازمة أعتابه مقصورة، أن عقد عبوديتي عقد لا تتطاول إليه الأيام بفسخ، وعهد مودتي لا تتوصل إليه الحوادث بنسخ، كيف وقد رفع بفضله قدري، وشرح بعلمه وآدابه صدري، وسقاني كؤوس الآداب وكانت أحشاي صادية، وكساني حلل الوقار وكانت مساويَّ بادية، ولعمري مهما نسيت فلا أنسى طيبَ أيامي في شرف خِدمته، والتقاطي أفخر الدر من بحار مذاكرته، فطالما جنيت من محاضرته ثمار فوائد مائساتَ الأعطاف، وقطفت من مذاكراته أزهار فرائد مستعذبات الجنى والقطاف، فالله تعالى يزيد باع مجده امتدادا ، وشعاع فضله سطوعاً وازديادا، وغاية جهد أمثالي دعاء، يدوم مدى الليالي أو مديح .
هذا وإن المشوق من حين فراقِكم لم يزل بنار الجوى يتقلب وفؤاده من ألم النوى بجمر الغضا يتلهب، كيف وقد غلب الوجد، وغاض الجلَد ، ولازم السهاد، وفاض الكمد، ... وليس يبرد بغير لقائكم غليله، ولا يشفى بغير رؤياكم عليله، فإن شوقه إليكم قد زاد عن حده، وغرامه بكم لا ينبغي لأحد من بعده، فلذا خدم الجناب بهذه الفقرات المعتله، ... اعتماداً على عواطف سحب كرمكم، ثم غلبه الوجد وفاض عليه الهيام، ففاه بأبيات من هذر الكلام وإن لم يكن من أهل هذه الصناعة، لقصر باعه وقلة البضاعة، على أن من تجرع مرارة كاس فراقكم لا يلام، وأن تعدى الصواب وأخطأ المرام، مع علم سيدي بأنه لم يفه لساني قبل بشيء من الشعر فليعامل مملوكه بالإغضاء والستر.
فقلت متيمناً ومضمناً منها البيت الأخير، رجاء أن يقرب الله ساعات الاجتماع إنه ولي التيسير وهو على جمعهم إذا يشاء قدير:
إلى السيد المفضال أُهدي تحيةً
تعم الربا طيبا وتملاْ النواحيا
تحيةَ عبدٍ قد أباح ولاءَه
لديه عسى يرضاه رقاً مواليا
تُرى هل يعيدُ الدهرُ أوقات أنسنا
وهل ترجع الأيامُ ما كان ماضيا
فمن مجده يستقبس المجدُ كله
كذا جودُه يحكى الغيوثَ الهواميا
ترى البشرَ يبدو من أسارير وجهه
وضوءُ محياه يفوق الدراريا
إذا ما دجى بحثٌ وأَعضَلَ مُشكِلٌ
هدانا بنورٍ منه يجلو الدياجيا
وهيهات مدحي أن يحيط بوصفه
ولو طاول السبعَ الطباق العواليا
لقد كان جيدي قبل لقياه عاطلا
فأصبح من نعماه تالله حاليا
وأنهلني من فيض بحرِ كمالِه
وكم علمني من بعد ما كنت صاديا
وكنت قريرَ العين في روض أُنْسِه
وعيشي من الأكدار قد كان صافيا
والملاحظ في هذه الإخوانية أنه ألح على وصف الممدوح بالفضل والنبل، وبالفصاحة والبلاغة، وبفكره السديد، وعلمه الواسع المنير الذي لا يزال العلماء يستضيئون بنوره، وكان المرسل إليه أستاذه الذي ثقف من محاضراته ومذاكراته.
كما عبر المرسِل عن شوقه إلى لقاء أستاذه الذي آلمه فقده فجعله يتقلب من ألم النوى على حجر الغضا وبين أنه لا يشفي غليل وجده إلا لقاؤه، وقد أنهى رسالته بتقديم قصيدة له من أربعة عشر بيتاً وذكر أنها أول قصيدة يقولها في حياته، وقد أطلق لسانَه بها شدة شوقه فإنه أعجب بها، وإلا فالستر وتمنى أن يقرب الله ساعات التلاقي.
وهذه الرسالة جمعت المديح والحب الذي لم يوجه إلى امرأة وإنما إلى أستاذ، وكثيراً ما نلقى في هذا العصر قصائد يحسبها القارئ في الغزل ولكنها كانت في التعبير عن حب الطالب لمن أسدى إليه نعمة العلم ، وكأن الحب هو الحب، وعباراته هي عباراته، ولهذا نقرأ له مثل (لم يزل بنار الجوى يتقلب، وفؤاده من ألم النوى يتلهب، كيف وقد غلب الوجد، وغاض الجلد، ولازم السهاد، وفاض الكمد….. وليس يبرد بغير لقائكم غليله….. فإنه شوقه إليكم قد زاد عن حده وغرامه بكم لا ينبغي لأحد من بعده).
ونقرأ له من الشعر :
ترى هل يعيد الدهر أوقات أنسنا
وهل ترجع الأيام ما كان ماضيا
رعى الله هاتيك الليالي التي خلت
ليالي الهنا أكرم بها من لياليا
ونقرأ له من الثناء عليه ما يضاهي كلمات المديح في القصائد:
(من ملك من الفضل زمامه، فانقاد إليه انقياد الجواد، وجرى في ميدانه فأحرز قصب السبق بفكره الوقاد، الحِبر الذي فاق بجميل صفاته الأوائل ، والبحر المشتمل بذاته على جواهر الفضائل، الفصيح الذي إن تكلم أجزل وأوجز وأسكت كل ذي لسن ببلاغته وأعجز….. عامر أندية المجد والكرم، وناشر أردية الأدب والحكم … وكم طافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقه وعلومه، وسعت أفكار بني الآداب بين صفا منثوره ومروة منظومه…. ولا فتئ علماً للعلماء يهتدون بأنواره، وقدوة للفضلاء يقتدون بآثاره…
وهذا المديح والثناء لا يقل عن مدائح القصائد للعلماء هداة البشرية إلى الخير والنور، وقد جاء بأسلوب عذب تأنق فيه صاحبه على عادة أبناء العصر، لكنها أناقة لفظية متوائمة لا نفور فيها ولا نبوّ، بل تتسلسل فيها العبارات تسلسل الماء النمير .
وقد بدا التأثر بالفكر الديني واضحاً عنده فأفهام الطلاب طافت بكعبة حقائقه، وأفكار بني الأداب سعت بين صفا منثوره ومروة منظومه، وهي عبارات مقتبسة من عبادة الحج.
كما أنه أقسم بالله سبحانه بقوله (وأقسم بمن جعل محاسن الدنيا في بهجة ذاته محصورة) إلا أنه تكلف حينما أورد مصطلحات العقود كالفسخ، و النسخ .
أما شعره فكان في مجمله رقيقاً عذباً كما في :
إلى السيد المفضال أهدي تحية
تَعُمُّ الربا طيباً وتَمْلا النواحيا
ترى هل يعيد الدهر أوقات أنسنا
وهل ترجع الأيام ما كان ماضيا
وتخفيف الهمز في (تُمْلا) جاء مناسباً للجرس الموسيقي "وللضرورة الشعرية" ، والاستفهام في البيت الثاني أدى إلى الإحساس بالتجربة العاطفية التي كان الكاتب الشاعر يعاني منها لشدة شوقه إلى أستاذه.
ولم نر في الرسالة اقتباسات متكلفة ولا محسنات مصطنعة إلا ما جاء عفو الخاطر، لكن أسلوبه عامة يمتاز بالتصوير، فلا تكاد عبارة تخلو من صورة وذلك على نحو قوله (فلا زالت الأيام باسمة الثغور بمعاليه، والأنام حالية النحور بمنن أياديه، ولا برح سرادق مجده الشامخ مضروباً على هام المجرة والسماك، وشرف فضله الباذج منوطاً بمستقر الشمس على الأفلاك…)
فالأيام باسمة الثغور "استعارة مكنية تشخيصية"، وكذلك في الأنام حالية النحور والمجرة لها هام تضرب فوق سرادق مجده وفضله منوط بمستقر الشمس، وفي ذلك دلالة على علو كعبه في بلاغته.
وهذه إخوانية كتبها الإمام أبو القاسم العبدوسي ليقرظ فيها كتاب (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) لمؤلفه "محمد الحسني المالكي([10]) "، فكانت أشبه بالتعريف بالكتب، إذ أشاد الكاتب بمقدرة المؤلف، وخير دليل على ذلك كتابه المذكور إذ صدر عن خبير ينتسب إلى بيت النبوة، ويجاور في بيت الله الحرام، ثم دعا له أن يسبغ الله عليه نعمته، وقد ذكر موضوع الكتاب وإيجابياته وسلبياته وهذا يشبه ما يفعله كتاب اليوم الكتاب الذين يعرفون بنتاج الأدباء. يقول في ذلك:
"الحمد لله يقول كاتبه أبو القاسم بن موسى بن محمد بن موسى بن معطي، عرف بالعبدوسي، لطف الله تعالى به: وقفت على ما ألفه سيدنا الإمام العالم العامل، القدوة المصنف، قاضي قضاة المالكية، تقي الدين أبو الطيب محمد بن أحمد بن علي الحسني المالكي نفع الله تعالى به، في تعريفه بحال مكة المعظمة، ومشاعرها المكرمة، وجميع أحوالها المحترمة، ومجاورة نبيه العظيم، فوجدته أسأم نفسه، وقطع وقته في طاعة الله الكاملة، وما يقربه من ربه في جنة عالية، وكيف لا، وهو فرع النبوة، المعظمة، وسليل السيادة المحترمة، ومجاور بيته العظيم، وسيادة كل من هو به من عالم وحكيم، أكمل الله تعالى عليه نعمه، ووالى عليه فضله وكرمه، والله تعالى يرشد الجميع إلى طاعته، ويحملنا على ما يرضيه بمنه وكرامته. جمع بما ألفه بين المختلفات ووفق بين المفترقات، وبين ما أشكل من المشتبهات، وسرد من أحاديث سيدنا ومولانا محمد r ما أبلج القلب باليقين، ويوجب على كل عاقل أن يشد عليه باليمين، ويجعله في ذخائره العقد الثمين، انتهى بنصّه" ([11]) .
ومن الإخوانيات ما اتخذ شكل المداعبة، وأنواعها غير متناهية كما يقول القلقشندي، لأنها مستوحاة من أحوال متباينة يصعب حصرها،وقد حدد شروطها فذكرأن على أصحابها أن يترفّعوا عن بذيء الكلام وفاحشه، وعما يدل على خفة أحلامهم مما يقوله السفهاء والعوام، إذ لا فرق بين جرح اللسان وجرح اليد، وفي ذلك صون لمروءتهم، وأسلم من إيغار الصدور عليهم، مما يؤدي إلى التباعد، أو مما لا تؤمن عاقبته. وأن يستعمل المداعب والممازح (ما خف موقعه ولطف موضعه، وهش له سامعه، وتلقاه الوارد عليه مستحلياً لثماره، مستعدياً لأنظاره، ولا يعدل به عن سمت الصدق وطريق الحق ومذهب التحرر من المَذْق([12]) ، ويقتصر فيه على النادرة المستطرفة، والنكتة المستظرفة، واللُّمْعَة المستحسنة، والفِقرة المستغربة دون الإطالة المملة، ولا يجعل المزح غالباً على الكلام، مُداخلاً لجميع الأقسام، فإن ذلك يفسد معاني المكاتبة، ويحيل نظام المخاطبة، ويضع من معناها وإن كان شريفاً… ويذهب بجدها في مذهب الهزل، ويميله عن القصد). وينبغي على صاحبها أن يقتصد في الدعابة، وأن يضعها في المواضع اللائقة بها لأن الغاية منها هي الظرف، وطلاقة النفس، وترك العبوس، وإلا عُدَّ الكلام من المجون، وكان فيه من رذالة الطبع وسفه اللسان مما لا يليق بالكُتّاب الذين هم خيار الأنام.
وفي الجواب يجب أن يشعر الكاتب صاحبه بالمسامحة، وتحسين القبيح لتبقى المودة، وأن يختصر ويورد فيه نكتاً رائعة ([13]) .
ومن أمثلة ذلك ما كتبه أحد الكتاب إلى كمال الدين بن الأثير، وكان قد جاءه في بستانه فلم يجده، ولا وجد من أكرمه فقال:
"حضر المملوك البستان مستدنياً قطوف الإنعام والإحسان، واستمطر سحائب فضله، وهز إليه بجذع نخله فلم تتساقط عليه رطباً جنياً، فعلم أنه قد جاء شيئاً فرياً، فثبَّتَ نفسَه مع تصاعد الأنفاس، والطمع ينشده:
"مافي وقوفك ساعة من باس ….. " ([14]) .
فانطلق حتى أتى القرية مستطعماً أهلها فأبوا أن يضيفوه، مستعطفاً حاشيته الرقيقة، فأبَواْ حاشيتُه([15]) أن يستعطفوه، وقال كل منهم تُطالب بالقِرى كما تطالب بدَيْنِك، ارجع حيث شئت، هذا فراق بيني وبينك، وعلم أنه لو أقام بها جداراً لما أعطي عليه أجراً، ولو حاول قرًى لسمع من التوبيخ ما لم يستطع عليه صبراً، فرجع بخفي حنين بعد مشاق جرعت كاسات الحَيْن، فأين هذه المعاملة مما نشيعه اليوم من كريم الخلال، وكيف نشكو نقصَ حظٍ وله كمال الإحسان وإحسان الكمال" ([16]) .
فالكاتب في هذه المداعبة أشبه بالمعاتب، بل بالهاجي الذي استخدم قصتي مريم وموسى في سورة الكهف ليؤيد فكرته ، ولكنه في الأولى خالف السياق الذي وردت فيه في القرآن الكريم، إذا كان بستان ابن الأثير بخيلاً والنخل في قصة مريم معطاء، كما أنه أفاد من المثَل العربي الشهير (رجع بخفي حنين) وفي عرض المفارقة بين البخل وكريم الخلال إشعار بسوء المعاملة التي لقيها، كما أن الكاتب أفاد من اسم كمال الدين بن الأثير فقال: "وكيف نشكو نقص حظ وله كمال الإحسان، وإحسان الكمال".
وكان أسلوب الكاتب المداعبة مسجعاً بسجع لطيف الوقع على النفس إضافة إلى الاقتباس من القرآن الكريم، ومن الشعر العربي والأمثال، وقد أحسن الإفادة من هذا كله في تقديم طرفته ومداعبته.
وهكذا رأينا أن الرسائل الإخوانية لا تقتصر على رسائل التهنئة والتعزية بل تتعدى ذلك إلى التعبير عن إعجاب بالمرسل إليه والثناء عليه ، والتعبير عن الشوق والحنين إلى لقياه ، وتـقريظ كتب المؤلفين ، ووصف الطبيعة ، بل إلى الدعابات أيضا ، وكأني بهذا الفن قد حوى ما حوته قصائد الشعر من مديح وشوق وحنين وتأمل بالطبيعة الفتانة ... .
ثالثاً – الرسائل الأدبية:
هي رسائل يعبر فيها الأديب عن قضية ما بأسلوب فني منمق، يبدي فيه الكاتب براعته في التعبير والتصوير، وتجمع غالباً بين النثر والشعر، وتجنح إلى أسلوب السجع خاصة ليحقق به الأديب نغمة موسيقية تعوضه عن موسيقى الشعر، وقد يأتي متكلفاً.
وتأتي أحيانا على شكل مفاخرة بين الجمادات أو البشر ويشبهها في ذلك المناظرات العلمية.
إذاً هي ثلاثة أنواع: رسائل ومفاخرات ومناظرات:
1- الرسائل:
من ذلك الرسالة القلمية للشهاب الخفاجي([17]) ووصف الشمعة لناصر الدين العسقلاني([18])، ورسالة في وصف الخيل لشهاب الدين محمود، ورسالة الدار عن محاورات الفار لصفي الدين
الحلي([19])، ورسالة في الكتابة لابن حبيب الحلبي([20]) .
وقد كتب ابن حبيب الحلبي في مؤلَّفه (نسيم الصَّبا) ثلاثين رسالة جمعت بين الشعر والنثر، وهي رسائل أدبية تتحدث عن الشمس والقمر، والسحاب والمطر، والليل والنهار، ووصف الغلام، ووصف الجارية، والشيب والخضاب والطيور والوحوش، والأخلاق والحكم، والرثاء والمواعظ و….
ويذكر د.محمود فاخوري محقق كتابه أن للأديب ثلاث مقامات هي مقامة الوحوش، والمقامة الطردية، ومقامة الخيل والإبل، وأغلب الظن أنها الرسائل الأدبية الموجودة في كتابه نسيم الصبا وعناوينها: في الوحش، في رمي البندق، في الخيل والإبل ([21]) وتعني كلمتا المقامة الطردية، وفي رمي البندق الحديث عن الصيد، وهذه الرسائل أشبه بمقالات تأملية أو علمية أو وصفية تتحدث عن أمر ما، بل إنها شابهت مقامات العصر على نحو ما سنرى عند الحديث عن المقامات([22])، وقد جاء بعضها على شكل مفاخرات بين الجمادات كالمفاخرة بين الشمس والقمر، وبين الطارق والليل.
من ذلك رسالته "في الكتابة" وهي تمثل أهمية الكتابة الفنية في ذلك العهد، ومنزلة صاحبها، والأسلوب المحبب في ذلك العصر. يقول المؤلف :
" الكتابة ألهمك الله معرفة فضلها، ولا حرمك نفْع صداقة أهلها، أشرفُ الوظائف والمناصب، وأرفع المنازل والمراتب، قطب دائرة الآداب، وصدْر أسرار الألباب، ورسولٌ صادق، ولسانٌ بالحق ناطق، تُلحِق خبر الحاضر بالغائب، وإليها تنتهي الآمال والرغائب. بها تَتِمّ النعمة، وتُفصل شذور الحكمة. تُبْرزُ إبريز([23]) البلاغة، وتصوغ لُجين الكلام أحسنَ صياغة… قد تحلّت بصحة الوضع والتركيب، وحلَتْ بما حكت من أعضاء الحبيب:
فاللام والألف كعِذاره وقدِّه. والجيم كصُدغه المعقْرب على خدّه. والصاد والنون كعينه وحاجبه. والميم فمه النائي عن رائدِ وِرْده بجانبه:
لا تعْدُ عن فنّ الكتابةِ، إنها
مغنَى الغِنَى ومَفاتحَ الأرزاقِ([24])
واخشَ اليراعة وارجُها فهي التي
عُرفَتْ بنفثِ السُّمِّ والدِّرْياق
والكُتّاب عمادُ الملِك وأركانُه، وعيونه المبصرةُ وأعوانه، وبهاءُ الدول ونظامُها، ورؤوس الرياسة وقوامُها، ملابسهم فاخرة، ومحاسنهم باهرة، وشمائلهم لطيفة، ونفوسهم شريفة، مدارُ الحلّ والعقد عليهم، ومرجع التصرف والتدبير إليهم. بهم تُحلّى العواطل، وتبتسم ثغور المعاقل. مجالسهم بالفضائل معمورة، وبنِدائهم أندية القصّاد مغمورة … يميلون إلى القول بموجب المدح، ولا يملّون من مراجعة الراغبين في المنح، دأبهم استخدام الناس بالمعروف، وعدم التورية عن العاني والملهوف. ويُجِلّون الكبير ويبجّلون الصغير، ولا يُخلُون بمراعاة النظير. لهم إلى الخير رجوع والتفات. وبالجملة فقد حازوا جميع جميل الصفات.
كتبتُ، فلولا أن هذا مُحلَّلٌ
وذاك حرامٌ، قِسْتُ خطَّكَ بالسحر
فإن كان زَهْراً فهو صنع سحابة
وإن كان دُرّاً فهو في لُجَّةِ البحر
بأيديهم أقلام تختلس بلطفها الأحلام. صافية الجواهر، زاهية الأزاهر، لينة الأعطاف، ناعمة الأطراف. تبكي وهي مبتسمة، وتسكت وهي بما يُطرب السمع متكلمة … تجتهد في خدمة الباري، وتبدي من دُررها ما يفضح الدراري. تميس في وشْي أبرادها، وتشرح الصدور بعذوبة إبرادها. نشأت على شطوط الأنهار، وتعلّمت اللحن من إعراب الأطيار ،… الشجاعة كامنة في مهجتها، والفصاحة جارية على لهجتها … إن قالت لم تترك مقالاً لقائل، وإن صالت رجعت السيوف مستترة بأذيال الحمائل . سجدت للطِرس، فرُفِعَتْ إلى أعلى الرتب …
قلمٌ يفلُّ الجيش وهو عَرَمْرمٌ
والبيضُ ما سُلّتْ من الأغماد
وهبت له الآجامُ حين نَشا بِها
كرمَ السيولِ وصولةَ الآساد
يكرع من دواةٍ ريقُها رائقٌ، ونيلُ نيلِها دافقٌ، تكشف غطاءها عن كل معنى أنيق، وتفتح فاها بكسر العدو وجَبْر الصّديقْ. شرفُها ليس فيه نزاع، وَسْقَطُها من أنفس المتاع. تحنو على أولادها طول المَدى، ثم تقطُّ رؤوسهنّ – ولا ذنبَ لهن- بحَدّ المُدى. سَمَتْ إلى المعالي بنفسها. وأعارَتِ المِسكَ السحيقَ بنِقْسها([25]) ترشد بنور جمالها، وتُنشدُ بلسان حالها:
إن السعادةَ، حيث كنتُ، مقيمةٌ
والبحر أخبارُ الندى عنّي روَى
كم من عليلِ مقاصدٍ أبرأتُه
فأنا الدواةُ حقيقةً وأنا الدوا
لله أطراسها التي أضاءت بمدادها، وأشبهت عيون العِين ببياضها وسوادها، وانطوت المحاسن تحت رَقّ منشورها ([26]) ، وصدحت حمائم البلاغة على أغصان سطورها. صحائف تنوب عن الصفائح، وقراطيسُ تزفّ إلى الأسماع عرائسَ القرائح… كم حازت من در منظوم، وعلم لفظٍ بوشي المعاني مرقوم. وفِقَر تفتقر إليها أجياد الحسان، وغُرَرِ كَلِمٍ تُذهب العقول بسحرها وإنّ من البيان ([27]) :
كتاب في سرائره سرور
مُناجيه من الأحزان ناجي
كراحٍ في زجاج بل كَرُوحٍ
سرت في جسم معتدلِ المزاج
فاجتهد أعزك الله في طِلابها، واحرص على الدخول في زمرة أربابها، وتمسك بأذيال بَنيها، تجد جواداً أو نبيلاً أو نبيهاً. وحسبهم شرفاً أن الله تعالى نوَّه بذكرهم في العالمين، ووصف الكَتبة بالحفظ والكرم فقال: )وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين( ([28]) .
الدراسة الفنية :
مضمون الرسالة ومنهجها:
بدأت الرسالة بكلمة الكتابة، ثم دعا الكاتب القارئ أن يلهمه الله معرفة فضلها، وألا يحرمه نفع صداقة أهلها، ثم أخذ في تبيين فضلها فجعلها (أشرف الوظائف والمناصب، وأرفع المنازل والمراتب، قطب دائرة الآداب…، ورسول صادق، ولسان بالحق ناطق، وإليها تنتهي الآمال والرغائب، وبها تتم النعمة، وتفصّل شذور الحكمة)،وهي صناعة للكلام في أحسن صياغة".
ثم انتقل إلى أهمية الكتّاب في المجتمع، فهم المثقفون الذين يطلعون على ما يدور في الحياة، وينقلون آراءهم إلى المجتمع، فكأنهم عيون بصيرة، وبهم يزين الملك. وهم دائماً في مظهر حسن، ومعشر فاضل، ونفوسهم وشمائلهم رفيعة، وهم يدافعون عن الدولة بأقلامهم، ويدعون الناس إلى المعروف، ويجلون الكبار، ويرحمون الصغار.
ثم تحدث عن أدوات الكتابة وهي الأقلام والدواة والأوراق ووصفها وصفاً مادياً ثم بين أهميتها في مجاز مرسل علاقته آلية، لأنه أراد من وصف الآلة وصف نتاجها وما تقدمه، فالقلم الناعم الأطراف الذي نشأ على شطوط الأنهار تعلم الغناء من الأطيار، وخدم الباري بما يسطره مما يشرح الصدور؛ والدواة الحالكة السواد تكشف عن المعاني الأنيقة ولها أثر ضد العدو؛ وهي رحمة للصديق ولذلك فشرفها لا ينازع، بما يسطر في حبرها من أنفس الكلام، وأجوده… وأما الأوراق فقد صدحت البلابل كالأطيار على أغصان سطورها، وهي تزف إلى الأسماع عرائس القرائح…
ثم دعا في آخر المطاف إلى أن يسعى القارئ للانتساب إلى شرف الكتابة، وبين أنه يكفيها شرفاً أن المولى تعالى كرمها فقال )وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين( .
وقد حوت هذه الرسالة الشعر إلى جانب النثر… وجاء بها في أسلوب مسجع لطيف العرض في التعبير والتصوير، لولا بعض تكلف ورد فيه من تأثير العصر وأساليبه.
فمن الأسلوب الطريف قوله عن الكتابة (رسول صادق، ولسان بالحق ناطق) وما أشرفه من وصف، والكُتّاب عماد الملك وأركانه وعيونه المبصرة (وبهم تحلى العواطل، وتبتسم ثغور المعاقل) . فالكُتّاب ركن من أركان الدولة وعين من عيونها، ولأقلامهم أثر قوي ضد أعدائها وهذا يذكرنا بقول صلاح الدين الأيوبي عن القاضي الفاضل حين بين أن القدس فتحت بقلم القاضي الفاضل قبل أن تفتح بسيوف المسلمين، لما للبلاغة من أثر في النفوس، ويكفي ذلك أن الرسول r قال (إن من البيان لسحراً).
ومن الأساليب البليغة في هذه الرسالة أيضاً (بأيديهم أقلام تختلس بلطفها الأحلام، صافية الجوهر، زاهية الأزاهر، لينة الأعطاف، ناعمة الأطراف)، فهذا الازدواج أضفى على النص موسيقى عذبة فضلاً عن التصوير البديع فيه، فالأقلام تستولي على العقول فتملكها (استعارة مكنية تشخيصية)، وهي صافية الجوهر، وزاهية كالورود (تشبيه)، وهي لينة الأعطاف، ناعمة الأطراف (تشخيص).
وفي قوله: الشجاعة كامنة في مهجتها، والفصاحة جارية على لهجتها، تبهر بالنضارة نواظر النهار، وتطرز بالليل أردية النهار، إن قالت لم تترك مقالاً لقائل، وإن صالت رجعت بالسيوف مستترة بأذيال الحمائل). تعبير لطيف جاء في كل عبارتين في توازن جميل الوقع على الأذن، حسن التصوير، في استعارات متواليات فالفصاحة نضرة، وهي تطرز الأردية، وتصول كالسيوف.
وفي النص طباق حسن كقوله عن الأقلام (تبكي وهي مبتسمة، وتسكت وهي بما يطرب السمع متكلمة) وهذا يشير إلى أثرها في النفوس.
ولكن هذا الوصف البديع لم يمنع من وجود تكلف بادٍ، فالكتابة (قد تحلت بصحة الوضع والتركيب، وحلَتْ بما حكت من أعضاء الحبيب، فاللام والألف كعذاره وقدّه، والجيم كصُدغه المعقرب على خده، والصاد والنون كعينه وحاجبه، والميم فمه النائي عن رائد ورده بجانبه) وكأن الكاتب أراد أن يزين رسالته بأوصاف الحبيب فأساء من حيث أراد التوشيح، وكذلك بدا التكلف في إيراد مصطلحات بلاغية كقوله (ولا يُخلون بمراعاة النظير، لهم إلى الخير رجوع والتفات).
ولو حذفت هذه المصطلحات والتشبيهات المُتَعمَّلة لكان النص قطعة فنية في الكتابة وأدواتها وكاتبها. ولكن لكل عصر ذوق ونِظرة إلى الجمال.
وبعض رسائل هذا الأديب حوت لغة عويصة ذكرتنا بلغة مقامات الحريري من ذلك قوله في رسالة (في المعقل والدار):
(عرض لي فكر أثار العزيمة إلى مشاهدة الآثار القديمة، فأعددت الزاد، وسرت أجوب البلاد، وأَصِلُ العَنَق بالوَخْد والزَّمْيَل([29])، وأكتحل من إِثْمِدِ الفلاة بميل بعد ميل، فينما أنا أترامى لنيل المراد، لاح لي بناءٌ على أَيْهَمَ خُشام([30])، فتوجهت…) .
فهنا نرى الكاتب يعدد في هذه الرسالة أنواع المسير: العَنَق والوَخْد والزميل، ثم يأتي بكلمات عويصة أخرى كالأَيْهم والخُشام)، وكأنه أراد أن يعلم اللغة على غرار ما يفعل أصحاب المقامات ويهدفون .
وبعض هذه الرسائل اتجهت وجهة تأملية إيمانية إذا عبرت عن تعظيم مؤلفها للخالق سبحانه وعن فناء الدهر، وزوال الدنيا، والتفكر في الآخرة. يقول في رسالة (في الروض والأزهار): "فلما تأملت محاسن هذه الروضة الأنيقة، ونظرت إلى ما فيها من النبات بعين الحقيقة، شكرت أيادي صانعها… وإن كنت لا أحصي ثناء عليه… وانقلب قلبي من نورها نوراً، وانقلبت إلى أهلها مسروراً" ([31]) .
وللشهاب الخفاجي رسالة سميت الرسالة القلمية وفيها يقول: "يا سائلي عن صفة القلم إنه في العلم علَم، علَم يتراءى في بيداء النور، )والطورِ، وكتاب مسطور، في رَقٍّ مَنشور( يعجز عن بيان غرر وصفه بنان الأفهام،، )ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام(، ذو اللسانين واللَّسَن، والبيان العذب الحسَن، فقيه فائق، سرَّح في رياض الهمة فاقتطف شقائق النعمان. حليم حاذق، جلس على خُوّانِ الحكمة فالتقم حقائق لقمان … متجرد خلّى نفسه للتزهد، متعبد رافع أصبعه للتشهد، يحدث بأحاديث الليالي للأنام، ويظهر ما جرى على لسانه في صفحات الأيام، كأنما يتنزه في مراتع الطرب، ويتبختر في ملابس القصب" ([32])
هذه الرسالة طويلة يتخللها شعر ونثر واقتباس من القرآن الكريم، لعلاقة القلم بالكتاب المسطور والرق المنشور، والأقلام المصنوعة من الأشجار وفيه سجع مقبول، على نحو قوله: (متجرد خلى نفسه للتزهد، متعبد رافع أصبعه للتشهد)، وقوله: (يحدث بأحاديث الليالي للأنام، ويظهر ما جرى على لسانه في صفحات الأيام).
وما أجمل الازدواج والتوازن اللذين اجتمعا في عبارتيه : فقيه فائق، سرح في رياض الهمة فاقتطف شقائق النعمان، حليم حاذق، جلس يحدث بأحاديث الليالي للأنام .
وفي النص تصوير جميل يوحي بالحيوية والحركة، وذلك من خلال الاستعارات التجسيمية والتشخيصية، من ذلك تصويره القلم راية ترفع في بيداء من النور، وهو فقيه سرّح في رياض الهمة، وإنسان يقتطف شقائق النعمان، ويلتقم حقائق لقمان، زاهد متعبد يرفع أصبعه للتشهد، وخبير بالحياة يحدث ناسها بما جرى على صفحات الأيام، وهو يتبختر بملابس القصب…. وهذه الصور الاستعارية التشخيصية والتجسيمية أضفت على النص جمالاً فحببته إلى القراء وقدمت صورا جميلة عن بعض أساليب العصر ، وربما تغير النظرة إليه من الوجهة الفنية .
2- المفاخرات :
وهي محاورة بين اثنين أو أكثر يبدي كل منهما تفوقه على الآخر مستدلا بأدلة يراها مناسبة .
ومنها ما سطره علاء الدين بن عبد الظاهر([33]) في مفاخرة بين السيف والرمح، وهي شبيهة بالرسالة القلمية السابقة، ولكن الأديب أضفى عليها صفة الواقعية حين جاء بها على شكل جواب مرسل إلى غير معين ليحكم بين هذين المتفاخرين السيف والرمح، ومما جاء فيها:
"بعثت إليك رسالتي، وفي ذهني أنك الكمي الذي لا يجاريك نَدّ، ولك معرفة في الحرب ولاماتها([34])، والشجاعة وآلاتها… وها هي احتوت على المفاضلة بين السيف والرمح، فإن السيف قد شرع يتقوّى بحده، ولا يقف في معرفة نفسه عند حدّه، والرمح يتكسر بأنابيبه، ويستطيل بلسان سنانه، ولم يثن في وصف نفسه فضل عنانه، وقد أطرقتهما حِماك لتحكم بينهما بالحق السويّ، وتنصف بين الضعيف والقويّ.
أما السيف فإنه يقول أنا الذي لصَفْحتي الغُرَر، ولِحَدّي الغِرار، وتحت ظلالي في سبيل الله الجنة، وفي إظلالي على الأعداء النار، ولي البروق التي هي للأبصار والبصائر خاطفة، وطالما لمعْتُ فسحَّتْ سحب النصر واكفة، ولي الجفون التي مالها غير نصر الله من بصر، وكم أغفت فمر بها طيف من الظفَر، وكم بكت عليّ الأجفان لما تعوضْتُ عنها الأعناقَ غموداً، وكم جلبْتُ الأماني بيضاً والمنايا سوداً… فهل يتطاول الرمح إلى مفاخرتي، وأنا الجوهر وهو العَرَض… وهو الذي يُعتاض عنه بالسهام، وما عني عِوَضٌ… وهل أنت إلا طويل بلا بَركة، وعاملٌ كم عزلتْكَ النبالَ بزائدِ حرَكَة؟
فنطق الرمح بلسان سنانه مفتخراً، وأقبل في علمه معتجراً، وقال أنا الذي طُلْتُ حتى اتخذت أسنتي الشهب، وعلوْتُ حتى كادت السماء تعقدُ علي لواء السحب…. كما وهّى بي ركن الملحدين، وللموحدين تَشَيَّد، وكم شمس ظَفَرٍ طلعَتْ وكانت أسنتي شعاعَها، وكم دماء أطَرْتُ شعاعَها طالما أثمر غصني الرؤوسَ في رياض الجهاد، وغدَتْ أسنتي فكأنما صيغَتْ من سرور فما يَخْطرْنَ إلا في فؤاد، ولو وقف السيف عند حده لعلم أنه القصير وإن كان ذا الحُلى، وأنا الطويل ذو العلا، وطالما صدَع هاماً فعاد كَهاماَ([35]) وقصر عن العدا، وألمّ بصفحتِه كلفُ الصَّدا…. فهل يطعن فيّ بعيبٍ وأنا الذي أطعن حقيقةً بلا ريبٍ، ومن ههنا آن أن أمسك عنك لسان سناني، ونرجع إلى من يحكم برفعة شأنك وشاني، ونسعى إلى بابه، ونبث محاورتنا بترحابه.
وقد أوردهما المملوك حماك فاحكم بينهما بما بصّرك الله وأراك" ([36]) .
هذه الرسالة كسابقتها أقرب إلى العمل الفني الذي يبدع فيه كاتبه أساليب في التعبير وصوراً جميلة تجعل الرسالة أقرب إلى الوصف منها إلى الرسالة.
ونرى الكاتب يحتكم فيها إلى أديب آخر يكون الحكَم بين الطرفين المفتخرين، وفيها يعرض كلا الطرفين فضله ومآثره، ثم يسلب الطرف الآخر ما ماز به عليه ليحط من شأنه، ثم يطلب أن يتوسط ثالث بينهما ليكون كلامه القول الفصل في القضية.
ولعلّ كتاب هذه الرسائل تأثروا بالجاحظ الذي كان يصف الشيء وضده، كحديثه عن الخير والشر، وعن الكلب والديك ليثبت بذلك مقدرته البلاغية والأدبية والكلامية .
ومن الصور الطريفة في رسم السيف تصويره وقد لمع كالبرق فوكفت سحب النصر، وتشخيص الأجفان إذ جعلها تبكي لأن السيوف اتخذت الأعناق أغمادها.
ومن الصور الجميلة أيضاً حديثه عن طول الرمح فهو يصل إلى الشهب، ويطاول الغمام في السماء، أما صاحبه السيف فقد أصابه الكَلَفُ فصدئ، وهو يمسك لسان سنانه ليحتكم إلى آخر عله يفصل بينهما.
وحبذا لو ثقف كتابنا بهذه الرسائل وأخواتها لتبقى اساليب العربية عذبة الجرس والتصوير، ولئلا تنحدر على أيدي أشباه الأدباء ممن أساء إلى جمالياتها، وتخلى عن عذوبتها وإيقاعاتها وأخيلتها، بحجة ضرورة الكتابة بأسلوب مرسل بسيط.
وهذه مفاخرة أيضاً بين أقسام العلوم جاءت في رسالة أدبية للقلقشندي، وفيها يتنازع اثنان وخمسون عِلماً، ويبرز كل منها جليل أعماله. وكان القلقشندي قد ألف هذه الرسالة في سنة 798هـ لقاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البُلقيني، وذكر فيها اثنين وخمسين علماً، بدأها بعلم اللغة، وختمها بعلم التاريخ.
استهل الكاتب الرسالة بحمد الله سبحانه والثناء عليه، فهو الذي أطلق الألسن بجميل الثناء، وعلم البشرية آيات وحدانيته، ونبوة رسوله r الذي جاء بفصل الخطاب فأفحم الخصوم ببلاغته، وهذه المقدمة عن الفصاحة والنبوة والقرآن الكريم تناسب المقام ولأنه سيبدأ أولاً بعلوم اللغة العربية.
ثم بين الكاتب أن لاشيء من العلوم ضار، فلكل نفع في مجال، وتفاوت العلم يكون بحسب الحاجة إليه لا بما يدعيه كل منها من رفعة وفضل.
ثم ذكر أن العلوم اجتمعت يوماً اجتماع معنى لا صورة ليجادل بعضها بعضاً في منافرة أدبية يبدي فيها كل علم مكانته، وينصر مذهبه على مذهب غيره، فكان أول من بدأ علم اللغة، وكان القلقشندي كاتب الإنشاء يهتم بها ويبين أن العلماء القدامى فصّلوا في علوم العربية على نحو ما نفعله اليوم، فهناك علم للغة، وآخر للصرف، وثالث للنحو، ورابع للبلاغة، ثم الشعر، والعروض والنقد… وقد حاور القلقشندي هذه العلوم، ثم جاء دور الطب فالبيطرة والقيافة، وعلم قص الأثر، وعلم النجوم والمواقيت، وعلم الهندسة وجر الأثقال، والمساحة والكيماء([37]) والجبر والمقابلة، ثم الفقه وأصوله، والجدل والمنطق، والحديث والتفسير، والعلم الإلهي، وعلم أصول الدين، والتصوف، وعلم السياسة، وتدبير المنزل، والفراسة، والأخلاق والتاريخ.
وتعدد هذه العلوم التي حاورها القلقشندي يظهر أنواعها في عصره، واهتمام أبناء عصر الدول المتتابعة بالدراسات العقلية والنقلية، كما يظهر أن بعض العلوم اختلفت أسماؤها اليوم كعلم الجدل "الفلسفة" والكيماء "الكيمياء" وأن بعضها لم يعد له وجود كعلم القيافة وقص الأثر.
كما تبرز هذه الرسالة تعدد أنواع بعض التخصصات كاللغوية، والهندسية، فهناك الهندسة المعمارية، والمدنية وسماها علم عقود الأبنية وعلم المساحة)، والميكانيكية وسماها علم جر الأثقال، وعلم مراكز الأثقال، والزراعية، وسماها علم الفِلاحة. كما تبدي اهتمام علماء العصر بالفلك إذ ذكر علم أحكام النجوم، وعلم الهيئة، وعلم كيفية الأرصاد، وعلم التخت والميل في مساحة الأفلاك، وعلم المواقيت، وعلم المناظر والمرايا المحرقة.
كما بدا فيها الاهتمام بالعلوم العسكرية إذ ذكر علم الآلات الحربية.
ولما تم اجتماع هذه العلوم النثرية أقبلت بوجوهها على الشعر تعاتبه وتطالبه بتقريظ العالم الحبر البُلقيني المرسَل إليه، فانطلق لسان الشعر يشيد بفضائله وعلمه ودروسه، وبآرائه الحكيمة، وخلقه الحميد، ومنزلته التي لا تضاهى.
ثم بين القلقشندي أنه لم يُسْبَق إلى هذا النوع من المفاخرة بين العلوم سوى ما ذكره القاضي أبو الحسين بن الزبير من علوم قليلة، وأن الله سبحانه هداه إلى الإفاضة فيها، وترجيح بعضها على بعض بإنصاف، وقد أعانه على ذلك فضل ممدوحه وكثرة علومه "إذ صفات الممدوح تهدي المادح وترشده"([38]) .
يقول مثلاً في مفاخرة علم اللغة ورد علم التصريف عليه:
"قد علمتم معشر العلوم أني أعمكم نفعاً، وأوسعكم مجالاً، وأكثركم جمعاً، على قُطب فلكي تدور الدوائر، وبواسطتي تدرك المقاصد، ويستعلم ما في الضمائر، وبدلالتي تعلم المعاني المفردات، ويتميز ما يدل على الذوات مما يدل على الأدوات، وتتبين دلالاتُ العام والخاص، ويتعرف ما يرشد إلى الأنواع والأجناس، وما يختص بالأشخاص، على أن كلكم كَلٌّ عليّ، ومحتاج في ترجمة مقصوده إلي، فلفظي (المحكم) وأقوالي (الصحاح) وكلامي (الجامع)، وسيف لساني (المجرد)، ناهيك من سلاح، وفضلي (المجمل) لا يحتاج إلى بيان، استأثر الله تعالى بتعليمي لآدم عليه السلام، وآثره بي معرفة على الملائكة، فكان خصيصة له على الملائكة الكرام.
فلما انقضى قيله، وبانت للمستبين سبيله، ثاب إليه علم التصريف مبتدراً، ولنفسه ولسائر العلوم منتصراً، فقال: رويدك أيها المساجِل، وعلى رِسْلك يا ذا المناضل، فقد ذل من ليس له ناصر، وحُطّ قدرُ مَنْ ترفَّع على أبناء جنسه، ولو عُقِدت عليه الخناصر، وما يجدي البازي بغير جناح؟ أو يغني الساعي إلى الحرب بغير سلاح؟ وأنى يطعن رمح بغير سنان؟ أو يقطع سيف لم يؤيد بقائم ولم تقبض عليه بنان؟ إنك وإن حويت فضلاً وأعرقْتَ أصلاً، وكنت للكلام نظّاماً، وإلى بيان المقاصد إماماً، فأنت غير مستقل بنفسك، ولا قائمٌ برأسك، بل أنا المتكفّل بتأسيس مبانيك، والملتزم بتحرير ألفاظك وتقرير معانيك، بي تعرف أصول أبنية الكلمة من جميع أحوالها، وكيفية التصرف في أسمائها وأفعالها، وما يتصل بذلك من أحوال الحروف البسيطة وترتيبها واختلاف مخارجها و….
على أنك لو خُلّيت ومجرد التعريف وبيان المقاصد بالاصطلاح أو التوقيت لكان (علم الخط) يقوم مقامك في الدلالة الحالية لدى الملتقى، ويترجح عليك ببعد المسافة مع طول البقا، مع ما فيه من زيادة ترتيب الأحوال، وضبط الأموال، وحفظ العلوم في الأدوار، واستمرارها على الأكوار وانتقال الأخبار من زمان إلى زمان، وحملها سراً من مكان إلى مكان، بل ربما اكتُفِي بالإشارة والتلويح، وقامت الكناية منها مقام التصريح.
فعندها غضب علم النحو واكفهر…" ([39])
فهنا نرى علم اللغة يباهي غيره من العلوم باتساع مفرداته، وأنه الأساس في فهم العلوم كلها، وأنواع الأشياء وأجناسها، ويستعين الكاتب بمصطلحات علم الحديث الشريف للدلالة على هذا الفضل من نحو الصحاح والجامع والمجمل والمحكم …. كما يفخر عليها بأن الله سبحانه علّم آدم اللغة وآثره بها من دون الملائكة.
ونرى أن علم الصرف يتصدى له، وينتصر لنفسه، ويحط قدر صاحبه لترفعه على بني جنسه كما يقول، ويبين له أن علم اللغة ما كان يجدي شيئاً لولا الصرف، ويشبه حال الأول والثاني بحال الطائر بلا جناح، أو المحارب بلا سلاح، أو الرمح بلا سنان، أو السيف بلا قائم له، وهذا التشبيه الجمع ([40]) أضفى على جفاف العلوم شيئاً من الحيوية خفف به ما كان ذكره من مصطلحات وحجاج منطقي.
وبعد أن يورد أدلته ومنها إمكانية الاستغناء عن اللغة بالخط أو بالإشارة نرى علم النحو يقطب جبينه ويتصدى له ليدلي دلوه في مجال الفخر والحِجاج وهكذا من علم إلى علم حتى تنتهي العلوم كلها.
وقد أبرز رد التصريف، أو علم الصرف معرفة العرب بتقسيماته منذ ذلك العهد فهناك الأبنية، والمجرد والمزيد، والصحيح والمعتل، والجامد والمشتق و… وهذه العلوم هي نفسها التي تدرس حالياً في هذا المجال.
ومن قول الكاتب في العلوم العقلية حديث علم الهندسة راداً على علم المواقيت، إذ قال الأول للثاني: "إن فضلك لمشهور، ومقامك في الشرف غير منكور، إلا أن آلاتك بي مقدّرة، وأشكالك بأوضاعي محررة، فأنا إمامك الذي به تقتدي، ونجمك الذي به تهتدي، بل جميع علم الهيئة موقوفة علي وراجعة في قواعدها إلي، لولاي لم يعرف السطح والكرة، ولم يميز بين الخطوط والقِسِي، والدوائر المقدرة، مع ما ينشأ عني ويُسْتملى من صحابي، ويقتبس مني، من أحوال المقادير ولواحقها، ومعرفة ظواهرها الواضحة ودقائقها، وأوضاع بعضها مع بعض ونسبها…
فقال علم عقود الأبنية لعلم الهندسة (نعم إلا أني أجلّ مقاصدك، وأعذب مواردك، ونور عيونك، وعروس فنونك، مني يستفاد بناء الحصون والأسوار، ويتعرف شق الأقنية وحفر الأنهار، وعمارة المدن، وعقد القواصر، وبناء القناطر، ووضع المنازل… وترتيب الرياض ذوات الخمائل…".
فهنا نرى علم الهندسة يُدِلّ على علم المواقيت بأن سبب معرفته للدوائر والسطوح، ويأتي علم عقود الأبنية، وهو جزء من علم الهندسة ليدلي دلوه في هذا المجال فيبين فضله في بناء الجسور وشق الأنهار وتزيين المدن وعمارتها… وهو ما يعرف اليوم بالهندسة المدنية…
وينهي القلقشندي رسالته بالثناء على الممدوح شعرا، ويمهد له بعتاب العلوم النثرية للشعر على تقصيره في الثناء على البُلقيني، العالم الجليل، لأن النثر لم يستطع أن يوفيه حقه، فلابد أن يختم الشعر هذه الرسالة بأبيات لائقة بمقام الممدوح، فأنشد مرتجلاً:
بشراكُم معاشرَ العلوم أن
جُمِعْتم بصدرِ حَبْر كامل
كم عمَّرت دروسُه من دارسٍ
وزَيَّنتْ بحَليْها من عاطل
وأوضحَتْ أقوالُه من مُشْكِل
لما أتى بأوضح الدلائل
وكم غدَتْ آراؤه حميدةً
ونَبَّهت بجدِّها من خامل
من ذا يروم أن ينال شأوه
أنى له بأمثلِ الأماثل
حاشا لراجٍ فضلَه أن ينثني
صفرَ اليدينِ أو مُمَنّى الأجلِ ([41])
وإذا كان الكاتب قد أجاد في حديثه عن العلوم، وبين حاجة البشرية إليها جمعاء فإنه -برأيي- أغفل قضية هامة فيها وهي أنه الله سبحانه سخرها لخدمة الإنسان، وعمارة الكون، وقد تعرض عبد الغني النابلسي لهذا المعنى في مفاخرته الشعرية بين الماء والهواء([42]) .
وقد استخدم الكاتب القلقشندي أسلوب السجع في مفاضلته، أو لنقل في رسالته الأدبية، وكان عليه أن يستخدم الأسلوب المرسل ليظهر مباهاة العلوم وحجاجها، ذلك لأن العلم جاف وتكلف السجع لا تميل إليه النفس، ولذلك تعد هذه الرسالة الأدبية أقل جمالاً من أخواتها التي تصف السيف والقلم والرمح، لأن العاطفة والأخيلة فيها لم يبدوا بشكل يجذب القارئ إليها، كما أن موسيقى العبارة كان فيها ضعف، وإن كانت قد أفادت الدارسين حين أطلعتهم على أنواع العلوم في ذلك العصر .
ومن المفاخرات الأدبية أيضاً مفاخرة بين فصول السنة لابن حبيب الحلبي، وهي تتحدث عن الفصول الأربعة، تحت عنوان: "في أقسام العام" استهلها بقوله:
"حضر فصولُ العام مجلسَ الأدب في يوم بلغ منه الأديب نهاية الأدب بمشهد من ذوي البلاغة، ومتقني صناعة الصياغة، فقام كل منهم يعرب عن نفسه، ويفتخر على أبناء جنسه، فقال الربيع: أنا شاب الزمان، وروح الحيوان، وإنسان([43]) عين الإنسان … عَرْف أوقاتي ناسم، وأيامي أعياد ومواسم، فيها يظهر النبات، وتنتشر الأموات([44]) ، وترد الودائع، وتتحرك الطبائع… وتفيض عيون الأنهار، ويعتدل الليل والنهار، كم لي عِقْد منظوم، وطراز وشي مرقوم… عساكري منصورة، وأسلحتي مشهورة، فمن سيف غصن مجوهر، ودرع بنفسج مشهر… بي تحمر من الورد خدوده، وتهتز من البان قدوده، … وتخرج الخبايا من الزوايا([45]) ويفتر ثغر الأقحوان قائلاً: "أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا":
إن هذا الربيعَ شيءٌ عجيب:
تضحك الأرضُ من بكاءِ السماء
ذهبٌ حيثما ذهَبْنا ودُرٌّ
حيث دُرْنا، وفضةٌ في الفضاء
قال الصيف: أنا الخلّ الموافق….
فلما نظم كل منهم سلك مقاله، وفرغ من الكلام على شرح حاله أخذ الجماعة في الطرب… وتجاذبوا أطراف مطارف الثناء والشكر، … ثم انفض المجلس، وحل النطاق، وتفرق شمل أهله، وآخرُ الصحبةِ الفراق" ([46])
التعبير في هذه الرسالة جميل الوقع على النفس والأذن ، ففي قوله (عَرْف أوقاتي ناسم، وأيامي أعياد ومواسم، فيها يظهر النبات، وتنتشر الأموات، وترد الودائع، وتتحرك الطبائع) نرى التوازن في العبارتين الأوليَيْن، والازدواج في الأُخريَيْن أضفيا على النص نغمة ذات جرس موسيقي عذب، كما أكثر الكاتب من إيراد الشعر ومن الحكم كقوله في الثانية وآخر الصحبة الفراق، ولكن النص لا يخلو من التكلف كقوله (أنا شاب الزمان، وروح الحيوان، وإنسان عين الإنسان)، فالعبارة الأخيرة فيها جناس تام واضح التعمل.
وفي النص أيضاً تصوير يتراوح بين الجمال والتصنع في محاولة الإبداع، فمما جاء في رسم جميل قوله عن الربيع (أنا شاب الزمان)، فقد شبه نفسه في نشاطه وحيويته بين الفصول بالشباب وسط عمر صاحبه. وفي قوله (عرف أوقاتي ناسم) صورة شمية طريفة، وفي (تنتشر الأموات، وترد الودائع وتتحرك الطبائع) كناية عن انبعاث الطبيعة في الربيع، ففيه تهب من رقادها، وتزهر بعد جدب، وينشط الإنسان بعد خمول وفي هذا إضفاء جو من الحيوية على الوصف، وتشخيص الجماد، وتصوير حالته وحال الإنسان المادية، والمعنوية أيضاً.
وصورة الأرض والسماء طريفة أيضاً فالأولى تضحك من بكاء السماء، وفي هذه الصورة التقابلية جمال، وإن كانت غير جديدة، ثم يأتي الجناس في (ذَهَبٌ حيث ذهبنا، دُرٌّ حيث درنا، فضة في الفضاء) ليكمل الصورة عن الطبيعة حيث تكثر فيها الورود من كل لون بديع.
لكني أرى أن صورة (أنا ابن جلا وطلاع الثنايا) ليست مناسبة في هذا المقام لأن القول تمثل به الحجاج، في مقام القسوة ولا يناسب هذا الحديثَ عن جمال الطبيعة.
3- المناظرات :
ومما يشبه المفاخرات الأدبية المناظرات التي تجري بين اثنين إذ يحاول كل منهما أن يثبت أهليته ومقدرته على مقارعة الحجة بالحجة، وإفحامه لإقناعه أو إسكاته.
وقد عرفت هذه المناظرات في العهود السالفة ولاسيما عند علماء النحو والحديث الشريف وعلماء العقيدة، كما بين سيبويه والكسائي والمبرد وثعلب، وكذلك المناظرات التي جرت بين علماء الحديث لإثبات أفضلية فلان أو تقهقره؛ وبين المسلمين وذوي الملل الأخرى، وكانت تجري غالباً في بلاط الخلفاء والأمراء وغيرهم من المسؤولين.
من ذلك أن محمد بن محمد الطيب التافلاني([47]) وكان حافظاً لكتاب الله ومتون الحديث الشريف ناظر وهو أسير في مالطة راهباً نصرانياً عالماً بالمنطق والعربية على مدى ثمانية أيام أكبته الله خلالَها حتى وقع في حِيْصَ بِيْصَ ، ومما كان من مناظرتهم قول كبيرهم لمحمد الطيب:
"يا محمدي إن حقيقة عيسى قد امتزجت مع حقيقة الإله فصارتا حقيقة واحدة.
قال فقلت له: لا يخلو الأمر فيهما قبل امتزاجهما إما أن تكونا قديمتين، أو حادثتين، أو إحداهما قديمة والأخرى حادثة. وكل الاحتمالات باطلة… والحادث لا يصلح للألوهية … والقديمة منهما بعد الامتزاج يلزم حدوثها والحادثة منهما بعده يلزم قدمها فيؤدي إلى قلب الحقائق، وقلبها محال، ويلزم أيضاً اجتماع الضدين، وهو باطل باتفاق العقول. فبهت الذي كفر وعبس واكفهر.
ثم قلت لكبيرهم: بالله عليك أعيسى كان يعبد الصليب؟
قال لا وإنما ظهر الصليب بعد قتله على زعمهم ونحن نعبد شبيه الإله، فقلت له بالله عليك أ للّه شبيه؟ قال لا، فقلت له: يجب عليكم حرق هذه الصلبان. فاستشاط غيظاً وقال:
يا محمدي إني رأيت في كتبكم أن نبيكم انشق له القمر نصفين فدخل نصفه من كمّ ونصفه من الكمّ الآخر، وخرج تاماً من جيب صدره، ومساحة البدر مثل الدنيا ثلاث مرات وثلث وهي ثلاثمئة وثلاث وستون سنة وثلث فما هذه الخرافات([48])
فقلت له أما ورد أن إبليس جاء لسيدنا إدريس وهو يخيط بالإبرة وبيده قشرة بيضة وقال له أيقدر ربك أن يجعل الدنيا في قشرة هذه البيضة.
قال لي: نعم ورد ذلك.
فقلت له كيف يقدر.
فقال إما أن يكبر القشرة أو يصغر الدنيا.
فقلت له سبحان الله تحلونه عاماً وتحرمونه عاماً، وإذا سلمت هذا فلم لا تسلمه لنبينا؟ فغض بريقه واصفر، وعبس وتولى )فقتل كيف قدر( .
وهذا الجواب مني من باب إرخاء العنان للإلزام وإلا فدخول نصفي البدر في الكمين باطل عند جميع المحدِّثين الأعلام، لكن كبيرهم لا يعرف اصطلاح علمائنا ذوي المقام العالي، فلو أجبته ببطلانه قال لي رأيته في كتبكم … فلذلك دافعته بالبرهان القطعي العقلي لأنه لا تمثيل بعدما رآه للدليل العقلي.
ثم إن كبيرهم في ميدان البحث أنكر نبوة نبينا السيد الكامل وقال: عندنا [أي النبي r في رأيهم] مَلِك عادل فقلت له: ما المانع من نبوته … أليس النبي الذي أتى بالمعجزات وأخبر بالمغيبات فقال كبيرهم أي معجزة أتى بها؟ وأي مغيبات أخبر بها؟ فسردت بعض المعجزات وأعظمها القرآن، وذكرت له بعض المغيبات فقال لي رأيت البخاري نم علمائكم ذكر بعضها. ثم قال لي (إنما علمه ذلك الغلام) ([49]) يشير لقوله تعالى )إنما يعلمه بشر( فقلت له بالله عليك لسان ذلك الغلام ماذا؟ قال أعجمي، فقلت بالله عليك لسان نبينا ماذا؟ قال عربي، قلت بالله عليك نبينا يقرأ ويكتب أم أمي؟ قال أمي لا يقرأ ولا يكتب، فقلت له: بالله عليك هل سمعت عربياً يتعلم من عجمي، قال لا، فأفحم في الجواب وانقطع عن الخطاب، ثم قال لي كيف يقول قرآنكم )يا أخت هارون( وبينه وبينها ألف من السنين فقلت له: أنت أعجمي لا تعرف لغة العرب كيف مبناها، … يطلق الأخ في لغتهم على الأخ النسبي، وعلى الأخ الوصفي، … ومعنى الآية: يا أيتها المتصفة عندنا بالعفة والديانة والعبودية مثل هارون الموصوف بتلك الصفات الكاملة، وهذا المعنى في لسان العرب شائع وفي مجاراتهم ومجاري أساليبهم ذائع.
ثم قال:
تصلح أن تكون مثل ولد ولدي، فمن أين جاءتك هذه المعرفة التامة، فقلت له جميع ما سألتني عنه هو من علوم البداية، ولو خضت معي في مقام النهاية لأسمعتك ما يصم أذنيك، وفي هذا القدر كفاية. فترك المناظرة ورجع القهقرى، وشاع صيتي في مالطة بين الرهبان والكبراء" ([50]) .
نلاحظ هنا أن المناظرة كانت بين عالمين كبيرين أولهما محمد بن محمد الطيب وهو فقيه حافظ للقرآن الكريم وللأحاديث الشريفة، وكان مدرساً لعلوم الدين، والآخر راهب كبير عالم بالمنطق والعربية، وهذا يعني أنها كانت بين عالمين بدينيهما وشرعيهما، وقد اعترف الراهب لمحمد بن محمد الطيب بالفضل حينا قال له (تصلح أن تكون مثل ولد ولدي فمن أين جاءتك هذه المعرفة التامة؟ وقد بين له أن هذه معلومات أولية ولو أراد المزيد لأسمعه ما أصم أذنيه مما جعله يترك المناظرة لأنه علم أنه لا قدرة له أمام أقوال المسلم وحججه، وقد شاع صيت ابن الطيب حتى احترمه الناس كباراً وصغاراً بما فيهم علماء الدين عند النصارى، لأن المناظرة لم تكن بهذه الأقوال فحسب وإنما استمرت على مدى ثمانية أيام، ولكن التاريخ لم يحفظ منها إلا ما يتعلق بحقيقة عيسى والصلب والمعجزات والنبوة، وهذه الأمور هي مدار الخلاف بين المسلمين والنصارى، فالمسلمون يقولون بألوهية الله وحده لا شريك له، والنصارى يعتقدون بأن الحقيقة البشرية امتزجت مع الحقيقة الإلهية فصارتا حقيقة واحدة، وقد أثبت له نبوة الرسول r ورد الاتهامات عنه r في قضية انشقاق القمر، وفي قوله تعالى يا أخت هارون ، وفي قضية افتراء النصارى بأن الرسول r تعلم الإسلام من الراهب بحيرى حينما التقى به مع عمه في بصرى الشام، فهذه الأمور الخمسة اقتطفها لنا العالم محمد بن محمد الطيب وهي تشير إلى أسلوب وطريقة المحادثة في هذه المناظرة وإلى نوعية الأسئلة والمنهج المتبع في الرد.
فالمحادثة كانت في جو من الاحترام المتبادل بين الطرفين إذ لا نرى فيها مهاترات ولا مشاجرات كالتي نلمحها في مناظرات اليوم المعروضة في التلفاز، فابن الطيب يقول عن الراهب (كبيرهم) وهذا يقول عن المسلم (يا محمدي)، وابن الطيب يسأل الراهب مستعيناً بالقسم (بالله عليك) عدة مرات على نحو: (بالله عليك أ عيسى كان يعبد الصليب؟) دون أن يرى في أسلوبه أي سخرية ما، ومعظم الأسئلة يوجهها الراهب إلى المسلم ويطلب منه الرد عليها.
وأما نوعية الأسئلة فكانت حول الله سبحانه ونبوة الرسول r وما ورد في القرآن الكريم مما أشكل على النصارى.
فالله سبحانه بزعم النصارى له حقيقتان إلهية وبشرية وقد امتزجتا معاً فصارتا حقيقة واحدة. وقد اتبع في الرد عليها الأسلوب المنطقي، وكان على ما يبدو عالماً بالمنطق فجوابه يدل على هذا، فالحقيقتان إما أن تكونا قديمتين أو حادثتين، والحادث يحتاج إلى محدث ،فإن احتاج فإنه لا يصلح للألوهية، والقديمة بعد الامتزاج يلزم حدوثها، فضلاً عن اجتماع الضدين، وهذا باطل، ولم يكتف محمد الطيب بذلك بل سأله مقسماً عليه أن يجيب بصدق: أ عيسى كان يعبد الصليب؟ وبديهي أن يكون الجواب لا، فكأن محمد الطيب يقول له: اعبدوا مَن عبده عيسى لا تعبدوا بدعة ابتدعتموها. ولكن الراهب قال نحن نعبد شبيه الإله، فقال له هل لله شبيه؟ فأنكر، وسقط في يده، ووقع في تناقض مما دعا محمد الطيب أن يطلب منه حرق الصليب فاغتاظ وترك الأسئلة العقائدية إلى الحديث عما أشكل عليه في القرآن الكريم.
وفي هذا النوع من الأسئلة يركز على أن المعجزات لم تكن صحيحة-برأيه- فقد قرأ أن القمر انشق قسمين فصار قسم منه في كم الرسول r والثاني في الكم الثاني ثم خرج تاماً من جيب صدره، وقال إن مساحة البدر مثل الدنيا ثلاث مرات فكيف يتحقق هذا.
وعلى الرغم من أن محمد الطيب يدرك أن هذه الرواية منحولة لا أصل لها في الدين وأن علماء الحديث الشريف أثبتوا انشقاق القمر في السماء دون دخوله في كمي الرسول r وخروجه من جيب صدره، إلا أنه لم يقل له هذه الرواية باطلة،بل اعتمد على قصة مثيلة وردت في كتبهم وهي قصة إبليس وإدريس حين جاء إبليس إلى النبي إدريس فقال له أيقدر ربك أن يجعل الدنيا في قشرة بيضة ؟ فقال إدريس: نعم . وهذه الرواية يعرفها أهل الكتاب لأنها كانت لنبي سابق ويصدقون بها على أنها من المعجزات الدالات على قدرة الله ونبوة نبيه ولذلك قال له (سبحان الله تحلونه عاماً وتحرمونه عاماً) إذ كيف تقبلون رواية ولا تقبلون أخرى مثيلة لها، مما دعا الراهب أن يصفر ويعبس .
كما سأل الراهب سؤالا يتعلق بمصداقية القرآن الكريم وهو قوله تعالى عن مريم: )يا أخت هارون( إذ كيف تكون أخته وبينهما ألف سنة، وقد بين أساليب العربية في التعبير فالأخت بمعنى أخت النسب، وكذلك بمعنى الشبيهة بالوصف، فهي كهارون في طهارتها وعبادتها وكمالها، وبين له جهله بأساليب التعبير في اللغة العربية جعلته يتوهم ما أخطأ فيه.
وأما السؤال الثالث فكان حول نبوة الرسول r إذ يزعم النصارى أن الرسول r لما التقى بالراهب بحيرى تعلم منه الدين، ولذلك فهم يعدونه ملِكاً عادلاً لا نبياً مرسلاً،وقد بين له باسلوي منطقي أن علامة الرسول هي المعجزات، وإخباره بالمغيبات، وكلاهما قد تحقق . ثم قال له بأسلوب مقنع : إن بحيرى رجل أعجمي، والرسول r عربي، وهو أمي لا يقرأ في الكتب فمن أين له بهذه المعلومات كلها؟ فأفحم وانقطع عن الخطاب.
أما أسلوب المناظرة فعربي فصيح لا تكلف فيه ولا تصنع، إذ يعتمد على المحاورة بين الاثنين، ويسير هيناً ليناً، لأن الغاية ليست إثبات المقدرة البلاغية وإنما إظهار الحقيقة العلمية الدينية، ولذلك نأى كل منهما عن الأخيلة والعواطف، واعتمد ابن الطيب على الاقتباس من القرآن الكريم الذي ورد للتأكيد على فكرة ما وليس للتزيين والزخرفة الكلامية، من ذلك قوله: (سبحان الله تحلونه عاماً وتحرمونه عاما) وقوله: فغض بريقه واصفر، (وعبس وتولى) (فقتل كيف قدر) فالعبارة الأولى تأثر فيها بقوله تتعالى عن الأشهر الحرم: )إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما…(
وقوله (عبس وتولى) مقتبس من الآية الأولى من سورة عبس
وقوله (فقتل كيف قدر) ورد في سورة المدثر أيضاً.
ولم يخل الأسلوب المرسل في هذا النص من ضعف أحياناً كما في: (بالله عليك لسان ذلك الغلام ماذا؟ قال أعجمي فقلت بالله عليك لسان نبينا ماذا؟ قال عربي) والأولى أن يقول ما لسان ذلك الغلام ؟ وما لسان نبينا؟
كما تبدو في الأسلوب مصطلحات المنطق مثل الحقيقة والحدوث والقدم وهذه جاء بها للرد والإفحام لا للتكلف والتعمل.
وأخيراً فإن المناظرات تعددت في ذلك العصر وكان التاريخ قد خلف لنا هذه وهي أقرب إلى المفاخرات بين العلوم كتلك التي عند القلقشندي، إذ كان المتناظران يذكران قضية ويتناقشان فيها ، ويحاول كل منهما أن يؤيد رأيه بالأدلة والحجج، ومن هنا فقد ألحقتها بهذا اللون الأدبي.
رابعا :سمات فن الرسالة :
تعددت أنواع الرسائل بين ديوانية رسمية، وإخوانية وأدبية.
والرسائل الديوانية هي التي تصدر عن جهات رسمية، وتتعلق بأمور الدولة السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية… وهي أنواع متعددة تختلف حسب الجهة التي تصدر عنها، وحسب المرسل إليه، كما تختلف باختلاف مضمونها.
وهي في مجملها تبدأ بالحمدلة والبسملة، ثم تطري المرسِل والمرسَل إليه، إطراء يقل أو يكثر حسب المرتبة المهنية للطرفين اللذين يتبادلان الرسائل
ثم يأتي الموضوع الرئيس، أو ما يطلب من المرسَل إليه، ويؤدى بأسلوب مصنوع لا يخلو من جمال تعبيري وجمال تصويري، ويضم الشعر والنثر غالباً.
وتختم بأدعية مناسبة، ثم تؤرخ زمن الإرسال، ويوقع المرسِل عليها.
وهذه الرسائل غدت سجلاً حافلاً يصور العصر من جميع جوانبه الرسمية.
أما الرسائل الإخوانية فإنها لا تكاد تختلف في أسلوبها عن سابقتها، وكذلك الرسائل الأدبية، إلا أن الأولى لم تعد تلتزم الاستهلال بالحمد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما قد يأتي ذلك خلال السياق وبعد المقدمة التي تستهل بالثناء على المرسَل إليه .
وحوت الإخوانيات عبارات المودة والمحبة، وقد جاء بعضها أشبه بالمقالة الوصفية كما في وصف الشتاء، وكان بعضها دعابات بين المتحابين.
وهي على أي حال مديح للمرسل إليه لعلمه ونبله ، وتعبير عن الشوق والحنين إلى لقياه وسماع أقواله ، وهذا ما يجعلني أقول إن الإخوانيات عوضت عن شعر المديح والشوق والحنين
وأما الرسائل الأدبية فهي قطع فنية غالباً، تتحدث عن أمر ما بأسلوب فني شابه المقالات العلمية أو الوصفية أو التأملية وجاء بعضها على شكل مفاخرات بين العلوم أو الفصول أو أدوات السلاح.
ولا نرى فيها الاستفتاح بالحمدلة والبسملة، ولا كثرة الألقاب ولا المبالغات التي كنا نشهدها في الصنفين الأولين، إنما هي عرض لمقدرة الكاتب في الوصف، وقد تأتي على شكل رسالة ، ويوصف المتحدث عنه وصفاً رائقاً جميل التعبير والتصوير، وقد يستدعي الموقف الحديث بأسلوب علمي جاف، وهي على أي حال تؤدى بأسلوب في بعضه تكلف وجفاف.
أما المفاخرات فعرض لقضية علمية أو أدبية يعرض فيها الكاتب مهارته من خلال حديثه عن المتفاخرين ، وتأتي بأسلوب مجود منمق .
أما المناظرات فتلحق بالرسائل لما فيها من أخذ ورد بين المتناظرين، ولكن أسلوبها بعيد عن التكلف والتصنع، إذ الغاية منها إيراد الحقيقة، لا إظهار المقدرة البلاغية.
وبصورة عامة يمتزج الشعر بالنثر في هذه الأنواع ، وقد يطول الشعر حتى يغدو قصيدة .
الفصـل الثـاني
فن الخطابة في عصر الدول المتتابعة
الفصـل الثـانـي
فن الخطابة في عصر الدول المتتابعة
كان للخطابة في الأعصر السالفة أهميتها الكبرى، وكان للصراعات السياسية والدينية أثر في إذكاء جذوتها، ومع مرور الزمن وانتشار الكتابة واستقرار أمور الدولة ضعف شأن الخطابة السياسية إلا في أوقات الحروب، على حين بقي للخطابة الدينية والاجتماعية شأنهما لارتباطهما بالعبادة في كل أسبوع، وفي مطلعي العيدين، وفي مناسبات دينية واجتماعية أخر كافتتاح مدرسة، وخطبة الزواج والصداق، وما سوى ذلك من أمور.
والخطبة تبدأ عادة بحمد الله سبحانه والصلاة على رسوله r، ثم تنتقل إلى شرح الغرض الرئيس الذي ذكرت من أجله، متأسية في ذلك خطا النبي r في خطبه، وتوشح بألفاظ منمقة، وعبارات منغمة، وفيها اقتباسات من القرآن الكريم، والحديث الشريف، وتضمين للشعر العربي مما يناسب المقام. وبذلك تشبه الخطبة الرسالة إلى حد كبير.
والخطبة، ولاسيما المقروءة منها، تتأثر بنبرة صوت ملقيها، وبدرجة انفعاله كما تتأثر بثقافته.
وسأدرس فن الخطابة في هذا العصر، الدينية منها والسياسية والاجتماعية.
أولاً – الخطبة الدينية :
وهي تقال في مناسبات دينية كعيد رأس السنة الهجرية، وخطب العيدين وخطبة الجمعة…
ولخطبة الجمعة في الحرم المكي الشريف تقليد متبع ذكره ابن بطوطة في رحلته، إذ حكى أن المنبر يلصق إلى صفح الكعبة الشريفة فيما بين الحجر الأسود والركن العراقي، ويكون الخطيب مستقبلاً المقام الكريم فإذا خرج الخطيب أقبل لابساً ثوبا أسود،ومعتماً بعمامة سوداء، وعليه طبلسان أسود، كل ذلك من كسوة الملك الناصر، وعليه الوقار والسكينة، وهو يتهادى بين رايتين سوداوين يمسكهما رجلان من المؤذنين، وبين يديه أحد القَوَمة في يده الفَرْقعة، وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول ينقضه في الهواء ([51]) فيسمع له صوت عال يسمعه من بداخل الحرم وخارجه، فيكون إعلاماً بخروج الخطيب.
ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيقبّل الحجر الأسود ويدعو عنده، ثم يقصد المنبر، والمؤذن الزمزمي ، وهو رئيس المؤذنين، بين يديه لابساً السواد، وعلى عاتقة السيف ممسكاً له بيده، وتركز الرايتان على جانبي المنبر، فإذا صعد أول درج من درج المنبر قلّده المؤذن السيف، فيضرب بنصل السيف ضربة في الدرج يُسمِع بها الحاضرين، ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة ثم في الثالث أخرى، فإذا استوى في عليا الدرجات ضرب ضربة رابعة، ووقف داعياً بدعاء خفي مستقبلا الكعبة الشريفة، ثم يقبل على الناس فيسلم عن يمينه وشماله، ويرد عليه الناس، ثم يقعد ويؤذن المؤذنون في أعلى قبة زمزم في وقت واحد فإذا فرغ الأذان خطب الخطيب خطبة يكثر بها من الصلاة على النبي r ، ويقول في أثنائها (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما طاف بهذا البيت طائف، ويشير بإصبعه إلى البيت الكريم: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما وقف بعرفة، ويترضى عن الخلفاء الأربعة وعن سائر الصحابة وعن النبي r وسبطَيْه وأمهما وخديجة جدتهما على جميعهم السلام، ثم يدعو للملك الناصر ثم للسطان المجاهد نور الدين علي بن الملك المؤيد داود بن الملك المظفر يوسف بن علي، ثم للسيدين الشريفين الحسنيين أميري مكة سيف الدين عُطيفة وهو أصغر الأخوين، ويقدم اسمه لعدله، وأسد الدين رُميئة ابني أبي نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة، وقد دعا لسلطان العراق مرة ثم قطع ذلك.
فإذا فرغ من الخطبة مضى والرايتان عن يمينه وشماله، والفرقعة أمامه إشعاراً بانقضاء الصلاة ثم يعاد المنبر إلى مكانه الكريم ([52]) .
ومن الخطبة الدينية خطبة رأس السنة الهجرية لنجم الدين علي بن داود([53]) ، بدأها بحمد الله عز وجل حمداً كثيراً على نعمائه العظام وفضله الشامل الجسيم، وشهد بعد بوحدانيته تعالى، وصلى على الرسول r، ثم بين جليل أعماله في نشر الإسلام والقضاء على الباطل ثم تحدث عن غرضه الرئيس، من ذلك قوله في استهلالها:
"الحمد لله الذي لا تُدرِك كُنْهَ عظمتِه ثواقبُ الأفهام، ولا تحيط بمعارف عوارفه خطرات الأوهام، ولا تبلغ مدى شكر نعمه محامد الأنام، الذي طرز بعسجد الشمس حواشي الأيام، ورصع بجواهر النجوم حلة الظلام، وفصّل بلجين الأهلة عقود الشهور والأعوام، أحمده على نعمه الجلائل العظام، ومننه الشوامل الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا ينقص لها تمام، ولا يُخْفَر لها ذمام. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله وسوق الباطل قد قام. ومحب الباطل قد هام، وطرف الرشد قد نام، وأفق الحق قد غام، فجرد سيف العزم وشام، وعنف على الغي ولام، واقتاد الخليقة إلى السعادة بكل زمام. صلى الله عليه وعلى آله الخيرة الكرام. صلاة لا انفصال لمتتابعها ولا انفصام([54]) .
فالخطبة بدأت بحمد الله سبحانه والصلاة والسلام على الرسول r، ثم أتبعت كلاً منهما بالحديث عن عظائم فعاله، فالله سبحانه خالق الشمس والقمر والنجوم. ومننه شاملة عظام، والرسول r جاء في عهد كثر فيه الفساد والضلال فقمعه وأخرج البشرية من الظلمات إلى النور.
ومن الخطب الدينية خطبة صلاة الجنازة كما في قول الشريف "حسن بن أبي نُمَيّ" ([55]) الذي صلى صلاة الغائب على السلطان سليمان القانوني حين استشهد في غزوة له في أوربا:
"الصلاة على الميت الغائب، العبد الفقير إلى الله، المجاهد في سبيل الله، المرابط لإعلاء كلمة الله، الذي خرج من بيته مهاجراً إلى الله، المستوعب جميع عمره في قتال أعداء الله، القائم بنفسه وماله وجنوده لنصرة دين الله، الواقف عند مراد ربه فلا يتعداه، المراعي للعدل والإحسان فيمن ولي عليه واسترعاه، المعظم لشعائر بلد الله الحرام، المؤيد لآل النبي عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، المتخذ ودهم ذخيرة عند الله تعالى في العقبى، عملاً بقوله تعالى: )قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربي( [الشورى/23]، القامع لأعداء بيت النبوة والرسالة، والمفيض على الحرمين الشريفين مكارمه وأفضاله، السلطان الأعظم سليمان خان، أنزل الله عليه شآبيب ([56]) الرحمة والغفران، وجعل قبره الشريف روضة من رياض الجنة، وحف تربته الشريفة بالروح والريحان" ([57]) .
فالخطيب هنا بين منذ المقدمة الغرض من الخطبة، وهو الصلاة على الميت، ثم راح يعدد خلاله الحميدة، وركز على قضيتين هما جهاده في سبيل الله، وحسن خلافته في رعيته، فقد كان عادلاً، محسناً لهم، وكان تقياً وقافاً عند حدود الله، معظماً لشعائر بلد الله الحرام، مفيضاً على أهل الحرمين بره، ولاسيما آل الرسول r وجاء بآية قرآنية تؤيد موقفه منهم. ثم دعا للميت المجاهد بأن يسقيه الله من رحمته وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة.
وهذا النهج يشبه إلى حد كبير نهج القصيدة الرثائية، إلا أنا لا نرى فيه الحزن والبكاء، ولعل الموقف الرسمي الذي وقفه الشريف منعه من ذلك، وجعله يكتفي بالتأبين والدعاء.
وكان الأسلوب المسجع موفقاً إلى حد كبير كما في قوله (الذي خرج من بيته مهاجراً إلى الله، المستوعب جميع عمره في قتال أعداء الله، القائم بنفسه وماله وجنوده لنصرة دين الله) فالعبارات منسجمة إلى حد كبير ولكن في قوله: (الواقف عند مراد ربه فلا يتعداه. المراعي للعدل والإحسان فيمن ولي عليه واسترعاه) فيه حشو فكلمتا "فلا يتعداه، واسترعاه" لا حاجة لهما فيما أرى، وقد جاء بهما للسجعة.
وقوله (أنزل الله عليه شأبيب الرحمة والغفران، وجعل قبره الشريف روضة من رياض الجنة وحف تربته بالروح والريحان)، فيه ضعف موسيقي بسبب طول عبارة السجعة الثانية، ولو قال (روضة من رياض الجنان… الريحان) من غير ما تكلف وإطالة.
ثانياً – الخطبة السياسية:
وهي خطبة تقال في مناسبات سياسية كتنصيب خليفة أو سلطان وتنهج غالباً نهج الرسالة الرسمية لاحتوائها على الألقاب والتقريظ، وتبيان فضائل المحكي عنه، والدعاء له.
من ذلك خطبة السيد أبي حامد التجاري التي ألقاها في مكة المكرمة إثر استخلاف السلطان سليم الثاني بعد استشهاد والده السلطان سليمان القانوني.
ومما جاء فيها:
"اللهم وجدد نصرة الإسلام والمسلمين، وشيّد قوائم أركان الدين المتين ببقاء من جددْتَ به أمر الخلافة العظمى، وشرفت بمقدمه تخت السلطنة والملك الأسمى، واخترته خير خلف عن خير سلف، وعوضت به خير عوض عمن درج إلى رحمة الله تعالى وسلف … وفتحت به للرعية أبواب الأمن والإيمان، فطفق الناس يدخلون في دين الله أفواجاً؛ السلطان الأعظم، والخاقان الأكبر الأفخم، مولى ملوك العرب والعجم، … مستخدم أرباب السيف والقلم، ملك البرين والبحرين … سلطان المشرقين والمغربين، خادم الحرمين الشريفين، السلطان بن السلطان بن السلطان، السلطان سليم خان بن عبدك وفقيرك المندرج إلى رحمتك بقضائك وتقديرك، سلطان سلاطين الزمان، خاقان خواقين الدوران، الفائق بعدله عدل كسرى أنوشروان، المنقاد إلى شرعك الشريف، الممتثل لأوامرك، الواقف عند مراد الله فلا يتعداه، العامل في جميع أموره بتقوى الله، المراعي للعدل والإحسان فيمن استرعاه، المجاهد المرابط في سبيل الله، الغازي الذي استوعب عمره في الجهاد كآبائه الغرّ الغزاة… )ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ( [النساء/100]… المرحوم برحمة الله، الملك الرحمن، السلطان سليمان خان، أنزل الله عليه شآبيب الرحمة والغفران، وقدس روحه الشريفة، وحفه بالروح والريحان، وجعل الملك كلمة باقية في نجله السعيد، وعقبه المديد إلى يوم القيامة، وأعدّ له ولآبائه الكرام ما يليق بكرمه من أنواع العز والكرامة يارب العالمين([58]).
هذه الخطبة بدأت بالدعاء، وكأن قسم الحمدلة والصلاة على النبي r قد حذف منها، ولاسيما أن البداية تشير إلى العطف على كلام سابق. وتنتقل إلى الدعاء للسلطان الجديد ليبقى الدين في عهده قوي الأركان، ثم تعمد إلى تقريظ السلطان سليم الثاني الذي كان خير خلف لخير سلف، وكان أمناً وداعية إلى الله … ودولته بلغت المشرقين بجهوده آبائه وأجداده السلاطين أولاد السلاطين العظام، الذي كان أبوه عادلاً وقد شبه عدله بعدل كسرى أنوشروان، وأحسبه اختار هذه الشخصية بدلاً من شخصية الرسول r أو عمر بن الخطاب من أجل السجعة، وهذا من سيئات التصنع والتكلف، كما تحدث عن جهاد والده لنشر الإسلام متبعاً في ذلك سنة آبائه وأجداده، وفي آخر المطاف دعا له ولوالده ورجا من الله سبحانه أن يتغمد الثاني برحمته، وأن يديم الملك في ابنه وذريته، وأن يغدق عليه من كرمه ويرفع مكانته ويعلي مجده.
وهذه المعاني مما يصلح في هذا المقام، مقام التعزية والتهنئة في آن واحد ، ولهذا يشاد بالمتوفى وبالسلطان الجديد .
وقد جاءت الخطبة بأسلوب مسجع وفيه بعض التكلف ولاسيما حينما ذكر عدل كسرى من أجل السجعة، كما حوت كلمات أعجمية من مثل (تخت، خاقان، خواقين) وهذا ماكثر في ذلك العصر وانتشر، وكان عليه أن يستخدم مرادفهما باللغة الفصحى إذ لا داعي لهما في خطبة عربية وفي أرض عربية.
ثالثاً – الخطبة الاجتماعية :
وهي التي تقال في مناسبة اجتماعية كالزواج، فمن خطب الصِداق ما كتبه الصفدي عند خطبة ابنة الأمير شرف الدين موسى، وقد استهلها كالعادة بحمد الله سبحانه الذي أيد هذا الدين وهدى أهله إلى اتباعه، وشهد بوحدانيته، ثم انتقل إلى الصلاة على الرسول r الذي حصّن النفوس، وحضها على الزواج، وكاثر به الأمم، ثم انتقل إلى تبيان فؤائده، وأشار إلى زواج الأمير محمد بن الأمير المرحوم بدر الدين مسعود([59]) ، وأشاد بفضائله، وضمن الخطبة أبياتاً من الشعر يؤيد به معناه، ثم تحدث عن شمائل الفتاة التي خطبها، وأنهى ذلك بالتصريح بالخطبة، ومما جاء فيها :
"الحمد لله الذي أيد هذا الدين بناصره، وشيد قواعده بشدّ أواخيه، وإحكام أواصره، وخصه بكرم أبوته وطيب عناصره، نحمده على نعمه التي منها الهداية إلى اتباع السُّنة، والعناية بما يؤديه إلى سلوك الطرق التي توصل إلى الجنة، والرعاية لأعمال تكون النفس بها يوم الفزع الأكبر مطمئنة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له … ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الذي حض على النكاح، وحثّ على تجنب السفاح، وحصّ([60]) قوادم الباطل، وراش جناح النجاح، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين حافظوا على اقتفاء آثاره، وبلّغوا الأمة ما وصل إليهم من سُننه وأخباره، وكاثروا النجوم الزاهرة بمهاجريه وأنصاره، صلاة لا تُحط البوارق من رضوانها لثاماً، ولا تشق السوابق من غفرانها غماماً، ما عقد النكاح، وفقد سفاح وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد .
فإن النكاح من مزايا هذه الأمة ومحاسنها التي تجلو بأنوارها الحنادس المدلهمة، والسنة بذلك طافحة، وفي كل مكان منها نافجة نافحة، فمن ذلك ما هو في بيانه ووضوحه كالعَلم، وهو قوله عليه السلام: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم" .
وكان المقر العالي المولوي الأميري الناصري محمـد بن الأمير المرحوم بدر الدين مسعود بن الخطير ممن طاب فرعاً وأصلاً، وحوى الفضلين حكماً وفَصْلاً، وحاز المنقبتين قلماً ونصلاً وتفرد بالمحاسن التي فضلها للعيان مشهود، ….
من النفر الغرّ في قومهم
فطالوا أصولاً وطابوا جدودا
أناروا الليالي، وهزّوا العوالي
وشادوا المعالي، وزانوا الوجودا
لفضل الخطير انتهى مجدهم
فلا زال في كل عصــر جـديـدا
وناصـرُهم فضلُــه بيــــِّّن
فمــا تلتقــي لعــلاه حسودا
… فلذلك تمسك بالسبب المتين من السُّنَّة، وآثر الاتصال بمن حِجابُها بيض السيوف وحُجّابُها زرق الأسنة، ورغب إلى المقر الشريف العالي المولوي الأميري السيفي تمر أمير مهمندار:
غدا في الزمان كبير الأنا
م، بتدبيره تستقيم الدول
بعقل رصين، ودين متين
وفضل مبين، وجود كمل
وما نظرت مقلة مثله
على من مضى في الملوك الأُوَل
… وخطب الجهة المصونة، الخاتون قطلو ملك ابنة الأمير المرحوم شرف الدين موسى، لأنها في كفاية كنفه، وظل حجره وتصرفه، ومهاد برّه وعطفه:
لا يبعث النجم طرفاً نحو مطرفها
وكيف يلحظ طرفاً بالعفاف عمر
ولا تجوز الصَّبا من دون مضربها
ولا تمرّ عليها وهي عند تمر" ([61])
هذه الخطبة مناسبة في مضمونها للمقام الذي ذكرت فيه، فهي تتعلق بالصداق والخطبة، ولذا بدأت بحمد الله سبحانه والصلاة على نبيه r الذي سن الزواج ودعا إلى المكاثرة بالنسل.
ثم انتقل إلى تبيان مكانة الخاطب، وجاء بالشعر مؤيداً ما ذهب إليه من رأي، فبيته بيت سيادة وشجاعة، والخاطب أمير أسرته، وأجود أبنائها وأشجعهم، ثم بين منزلة الفتاة التي سيعقد عليها، فهي ذات صون وحجاب، وربيبة فضل وتقوى، وهنا أشاد بمن ربّاها فأحسن تربيتها،وهو تمر المهمندار.
أما أسلوب الخطبة فقد كثر فيه السجع والتصنع، وجاء بعضه في صور وعبارات منسجمة من ذلك قوله " لأنها في كفاية كنفه، وظل حجره وتصرفه، ومهاد برّه وعطفه" ، فالجمل هنا متوازنة، وفيها كناية عن حسن إشراف ولي أمرها الذي نشّأها فأحسن تنشئتها.
ومن الصور البيانية الجميلة أيضاً قوله: "حِجابها بيض السيوف، وحُجّابها زرق الأسنة، فالسيوف تصونها، والرماح تحميها، وهذه الصورة مأخوذة من الشعر العربي حيث يصف العربي الظعينة وقد أحاط بها أهلها لحمايتها بسيوفهم ورماحهم الكثيرة، والكلام كناية عن عفة الفتاة . ومن الكناية عن النسبة قوله: "وكان المقر العالي المولوي… الأمير المرحوم ممن طاب فرعاً" فهو قد كنى عن الأمير بمقره العالي ثم صرح باسمه، ومنها أيضاً: "وخطب الجهة المصونة" فهو لم يذكر اسمها وإنما كنى عنها بذكر جهتها المصونة .
وفي وصف الفتاة مبالغة شديدة، فالسيوف حِجابها، وزرق الأسنة حُجّابها، وبين حِجابها وحُجّابها جناس ناقص، والنجم لا يراها لعفتها، والريح لا تدخل مضربها لأنها عند تمر، وفي قوله: "ولا تمرّ … وهي عند تمر" جناس ناقص فالأولى فعل، والثانية اسم علم.
كما اقتبس الحديث الشريف "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم"، وفي قوله: "حوى الفضلين حكماً وفصلاً، وحاز المنقبين قلماً ونصلاً" تفريق بعد جمع جاء به للثناء على الممدوح، وضمن الخطبة شعراً كثيراً أشاد به بالخاطب والمخطوبة، وبمربيها.
وكان في الخطبة لفظ أعجمي نجم عن التأثر بالبيئة، فالفتاة (الخاتون قطو ملك ابنة الأمير المرحوم…) وهذه الألقاب والتسميات للأعاجم الذين اختلطوا بالمجتمع العربي والإسلامي آنذاك.
أخيرا فإن فن الخطبة في عصر الدول المتتابعة كان على أنواع: خطب دينية هي من نتاج فريضة الجمعة وصلاة العيدين وخطبها، فضلاً عن المناسبات الدينية الأخرى، وأخرى سياسية، وتكون غالباً عند تسلم منصب رفيع كالخلافة والسلطنة، وثالثة اجتماعية، ولعل أشهرها خطبة الصِداق والزواج.
وهذه الخطب تبدأ بحمد الله سبحانه والثناء عليه وعلى رسوله r، وتختلف صفات الثناء باختلاف المقام والغرض .
وقد مثلت بذلك أوضاع العصر سياسيا واجتماعيا وثقافيا .
وجميع هذه الخطب جاءت بأسلوب فيه سجع كثير، وكان في بعضه عذوبة وتصوير جميل، إلا أن بعضاً آخر كان يتكلفه الخطيب.
وقد يأتي في الخطبة اقتباس وتضمين، وقد يبالغ الخطيب في نعت المحكي عنه مبالغات مستحبة أحياناً، مستقبحة أخرى.
وترد خلال الخطب بعض الألفاظ الأعجمية الناجمة من التأثر والتأثير نتيجة احتواء المجتمع المسلم عناصر أجنبية شتى.
ولمحمد الدكدكجي([62]) كتاب سماه " ديوان خطب " حوى خطبا من العصر .
([1]) في النقد الأدبي، عتيق /233 .
([2]) صبح الأعشى 8/136-191 .
([3]) صبح الأعشى 9/68-69 .
([4]) أعيان 1/431-432 .
([5]) شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله بن المجلّيالمعروف بابن دعجان (700-749هـ) وهو ابن القاضي محيي الدين العمري الدمشقي، إمام فاضل يتوقد ذكاء، وقل من يجاريه في نثره، له مصنفات كثيرة منها دمعة الباكي ويقظة الساهرينظر له في أعيان العصر 1/417 ، والأعلام 1/268.
([6]) الفواخت: ج فاختة وهي طائر : القاموس المحيط (مادة فخت) .
([7]) الرض: الدق والجرش: القاموس مادة (الرض).
([8]) أعيان العصر 1/427-428 .
([9]) حسن بن أحمد المعروف بالمغربل كاتب من دمشق وشاعر وحافظ، توفي يعد 1150: سلك الدرر 2/19.
([10]) محمد بن أحمد الحسني المالكي (775-832هـ) ، إمام عالم وعامل، وقاضي قضاة المالكية، له كتاب شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين ، وترجم لنفسه ، ينظر له في الضوء اللامع لأهل القرن التاسع/18
([11]) نشر الرياحين في تأريخ البلد الأمين /548-549 .
([12]) مذق الود: إذا لم يخلصه، فهو مذّاق أي كذوب: لسان العرب مادة مذق.
([13]) صبح الأعشى 9/224-227 .
([14]) هذا صدر بيت لأبي تمام استهل به سينيته في مدح أحمد بن المعتصم، وعجزه:
" ………. نقضي زمام الأربع الأدراس"
وهو في : شرح ديوان أبي تمام للخطيب التبريزي 1/358 ، والنص من صبح الأعشى 9/195 ، 35 .
([15]) فأبَوا حاشيتُه على لغة "يتعاقبون عليكم ملائكة…." وذلك بالإتيان بالفاعل الضمير، ثم بالفاعل الظاهر، وتخريج هذه اللهجة في جامع الدروس العربية، ج2، ص 239
([16]) صبح الأعشى 9/227 .
([17]) شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي (977-1069هـ) شاعر وقاض من مصر له كتاب ريحانة الألبا ، ينظر له في خلاصة الأثر 1/133 .
([18]) ناصر الدين شافع بن علي العسقلاني (ت730هـ): أعيان العصر 2/510 .
([19] ) صفي الدين الحلي هو عبد العزيز بن سرايا (677-750هـ) شاعر عراقي عرف بمديحه للرسول صلى الله عليه وسلم و بقصائده الأرتقيات ، وله ديوان باسم درر النحور : الأعلام 4/18 .
([20]) ابن حبيب الحلبي بدر الدين الحسن بن عمر (710-779هـ) أديب مترسل من حلب له مؤلفات ومقامات ينظر نسيم الصبا /7.
([21]) نسيم الصبا /10 .
([22]) ينظر لذلك ص 120
([23]) الإبريز: الذهب الخالص. وفي التركيب الإضافي تشبيه بليغ. كما هو في قوله بعده: "لجين الكلام" واللجين: الفضة.
([24]) لا تَعْدُ: أي لا تنصرف، ولا تترك . وماضيه عَدا عن الأمر: إذا جاوزه وتركه.
([25]) النَقْس: الحِبر.
([26]) رَقّ منشورها: الرَّق: جلد يكتب فيه، ومنه قوله تعالى: )في رَقّ منشور( .
([27]) فيه اكتفاء ، وهو عدم إتمام العبارة اعتماداً على فهم القارئ، والقول جزء من الحديث النبوي (إن من البيان لسحراً).
([28]) نسيم الصبا /105 –107 والآيتان الأخيرتان من سورة الانفطار 10-11 .
([29]) العَنَق ضرب من سير الدابة والإبل ، ومعانيق : مسرعين : لسان العرب مادة عنق
ووَخد البعير يخد وخْدا أسرع ووسع الخطو ، ووخد الفرس : ضرب من سيره : لسان العرب مادة ( وخد ) .
الزميل:الكسلان الضعيف : لسان العرب مادة زمل
([30]) أيهم :اليهماء : مفازة لا ماء فيها ولا يسمع فيها صوت : لسان العرب مادة يهم
خُشام الجبل : أنفه ، وجبل خشام : عظيم : لسان العرب مادة خشم .
([31]) نسيم الصبا /56-57 .
([32]) ريحانة الألبا 1/253 .
([33]) هو علاء الدين علي بن محمد المعروف بابن عبد الظاهر (ت717هـ)، وهو ابن القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، كاتب الإنشاء في مصر، وكان قاضياً تتلمذ شمس الدين الذهبي على يديه: أعيان العصر 3/487 .
([34]) اللامة بغير همز : الهول ، لسان العرب مادة لوم
([35]) الكَهام : البطيء لا غناء فيه ، لا يقطع : لسان العرب مادة كهم .
([36]) أعيان العصر 3/495 .
([37]) هكذا سميت وهي عندنا اليوم: الكيمياء.
([38]) الرسالة كلها في صبح الأعشى 14/237-263 .
([39]) صبح الأعشى 14/239-240 .
([40]) تشبيه الجمع هو أن يأتي المشبه واحداً والمشبه به متعدداً: علوم البلاغة للمراغي /201 .
([41]) صبح الأعشى 14/263 .
([42]) القصيدة في ديوانه الحقائق ومجموع الرقائق /29-31 .
([43]) إنسان عين الإنسان: بؤبؤ عين الإنسان، وفيهما جناس تام .
([44]) تنتشر الأموات: تبعث، إشارة إلى تفتق النبات بعد خموده في الشتاء وعودة النضارة له.
([45]) إشارة إلى خروج الحشرات من حجورها.
([46]) النص في نسيم الصبا /35-38 .
([47]) محمد بن محمد الطيب المالكي التافلاني، مغربي، كان مفتي القدس وحافظاً، وقد أسره الفرنجة عند عودته إلى بلاد الغرب، وخلال مدة الأسر ناظر قساً نصرانياً حول عقيدة المسلمين والنصارى: سلك الدرر 4/102 .
([48]) على الرغم من أن ابن الطيب سيوضح أن انشقاق القمر وارد في عقيدتنا، ولكن دخول نصفه في كم الرسول r والنصف الثاني في كمه الثاني وخروجه تاماً من جيب صدره خرافة، ولكنه أراد أن يفحمه بما يعرفه من أمور ثم يوضح له الحقيقة بعد ذلك.
([49]) يشير إلى التقائه وهو صغير بالراهب بحيرى في تجارة مع عمه في بلاد الشام.
([50]) سلك الدرر 4/103-104 .
([51]) ينقضه: يضرب به ليصوت.
([52]) رحلة ابن بطوطة /93-94 فصل ذكر عادة أهل مكة في الخطبة وصلاة الجمعة.
([53]) نجم الدين علي بن داود الزبيري القَحْفازي (ت745هـ) قاض وعالم وشاعر من دمشق: أعيان العصر 3/358 .
([54]) أعيان العصر 3/367-368، ولم يورد الصفدي من هذه الخطبة إلا هذا القسم كنموذج لنثر المترجم له.
([55]) الشريف حسن بن محمد أبي نمي بن بركات (932 -1010هـ) تسلم الشرافة (992هـ) بعد موت والده: سمط النجوم العوالي 4/340 .
([56]) شآبيب : مفردها شؤبوب وهو الدُّفْعة من المطر، وشدة دفعه: القاموس مادة (الشؤبوب).
([57]) سمط النجوم العوالي 4/363 .
([58] ) سمط النجوم العوالي 4/362
([59]) الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين مسعود الخطير (726-763هـ) أحد أمراء دمشق، كان ذا نفس عالية وفضل: أعيان العصر 5/259 .
([60]) حصّ: قطع ، والحص : ورق الشجر إذا تناثر ، وذهاب الشعر ، وانحص الذنب : انقطع : لسان العرب مادة حصص .
([61]) أعيان العصر 5/260-263 .
([62] ) محمد الدكدكجي ( ت 1131هـ) أديب من دمشق خلف كتبا كثيرة بقيت تباع أكثر من أسبوع : علماء دمشق وأعيانها في القرن الثاني عشر الهجري 1/382 .
وسوم: العدد 673