في بلاغات الراشدين

جمع الشريف الرضي خُطَب الامام علي كرّم الله وجهه وأقواله في كتاب ما يزال قبلة القاصدين منذ تم تأليفه الى يوم الناس هذا، وثمة تحقيقات وشروح لهذا الكتاب أشهرها ما كتبه ابن أبي الحديد المعتزلي، ثم ما حققه على التوالي الشيخ محمد عبده والشيخ الدكتور صبحي الصالح رحمهم الله جميعا.

ولا نعدم شروحا وتحقيقات غير هذين كثيرة، ولقد اضاء نهج البلاغة الذي جمعه الشريف جوانب من تاريخ الاسلام، منذ وفاة الرسول الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه الى استشهاد الامام علي كرم الله وجهه، كما أظهرنا على طبيعة سيدنا علي وبنيته العقلية والنفسية، وما انعكس في ذلك من قرباه الحميمة من رسولنا الاعظم، ناهيك بما اشتمل عليه من الوان البيان وضروب التفكير العميق.

والناظر في خُطب الخلفاء الراشدين يملك ان يطّلع على تمثّلات اولئك الصحابة السابقين لكتاب الله العزيز وسنة نبيه المشرّفة، وان يرى الى أثر «الكتاب والحكمة» فيهم، وكما جمع الشريف الرضي «نهج البلاغة»، فإن في طوقنا اليوم ان نجمع خُطب الراشدين جميعا واقوالهم في سِفرٍ نفيس نجعله مقتربنا الامثل لفهم تاريخ فجر الاسلام، وما كان غضاً طريّاً في تلك الانفس الفذّة والفِطَرِ الفائقة من قيمه وتعالميه ومناقبه.. وكل ذلك بلسان عربي مبين، حيث لا عُجمة ولا ركاكة، وحيث يتوسم قارئ هذا السّفرِ أُنموذجات بلاغية يقاس عليها.

ولا يقتصر الامر على الخلفاء الراشدين في مثل هذا المشروع، إذ تتوافر خُطب ورسائل واقوال لكثير من كبار معاصريهم، وكل اولئك مما يوسع دائرة النفع في التاريخ والادب على حدّ سواء.

على أن جمع «الخطاب الراشدي» في سفر واحد يُعدّ ضرورة لبيان انطلاق هذا الخطاب من مشكاة واحدة، وتوكيد اثر الكتاب الكريم والرسول العظيم في ذلك النفر المتميز الذي حمل مشاعل الاسلام الى العالمين.

لقد اتفق لي ان قرأت فصلاً بالغ القيمة، في المجلد التاسع من كتاب: «نهاية الارب في فنون الادب» لشهاب الدين النويري (توفي سنة 733 للهجرة) حول سيدنا أبي بكر الصديق، يورد فيه خطبة بليغة قلما تشير اليها المراجع المعروفة، وهي خطبة من ديباجة تكاد تكون هي نفسها ديباجة «نهج البلاغة» يقول فيها:

«إن الله لا يَقَبلُ من الاعمال إلا ما أُريد به وجهه، فأريدوا الله باعمالكم، واعلموا أن ما أخلصتم لله من اعمالكم فطاعة اتيتموها، وحظ ظفرتم به، وضرائب أديتموها، وسلفٌ قدمتموه من ايامٍ فانية لاخرى باقية، لحين فقركم وحاجتكم، واعتبروا يا عباد الله بمن مات منكم، وفكروا فيمن كان قبلكم.. أين كانوا امس واين هم اليوم؟».

«أين الجبارون الذين كان لهم ذكرُ القتال والغلبة ومواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميما، قد تركت عليهم القالات (الاقوال الفاشية في الناس، خيراً كانت او شراً) الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات».

«وأين الملوك الذين أثاروا الارض وعَمَرُوها، قد بَعُدوا ونُسيَ ذكرهم، وصاروا كلا شيء، إلا ان الله قد أبقى عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والاعمال اعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا».

«أين الوضاءُ الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ صاروا تراباً، وصار ما فرّطوا فيه حَسرةً عليهم».

«أين الذين بنوا المدائن، وحصّنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الاعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحسُّ منهم من أحدٍ او تسمع لهم رِكزا؟

وإذ نكتفي بما أوردناه من خطبة خليفة الاسلام الاول فإننا نهيب بهمم الباحثين في بلاغة العرب أن يستخرجوا مثل هذا الكنز الثمين، وأن يفيدوا من معطياته وهم يؤرخون للأدب وعلومه، مؤكدين انه سيتوافر لديهم ما سيعيد النظر في الرؤية التقليدية للاستشراق والناعقين بما لا يعقلون وراءه.

وهي بَعدُ التفاتة أولية، سيكون لها ما وراءها من مزيد اهتمام، ولا سيما ببلاغات الراشدين وفصاحات السابقين.

وسوم: العدد 673