النثر العربي في عصر الدول المتتابعة 3
الفصـل الثـالث
النثر القصصي في عصر الدول المتتابعة
تطورت الفنون النثرية في هذا العصر تطوراً واسعاً، وتعددت ألوانها، وكان أدباء العصر قد اطلعوا على ما كتبه العباسيون خاصة من فنون قصصية أعجب بها العامة والخاصة كقصة كليلة ودمنة لابن المقفع، ورسائل المعري، ومقامات الهمذاني والحريري، والمنامات الأدبية لمحمد بن محرز الوهراني([1]) ، والصادح والباغم لابن الهبارية([2])، وسلوان المطاع في عدوان الأتباع لابن ظفر الصقلي، و" أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم " للجهشياري([3]) وتقع في (480) سمراً وكل سمر في ليلة، وكان بعضها على ألسنة الحيوانات ، وقد تمثل أدباء العصر هذه القصص وأمثالها، ثم راحوا ينسجون على منوالها، ليرسخوا جذور هذا الفن، ويضيفوا إليه ما ابتكروه من مقامات وقصص وعظية أو اجتماعية، أو سير شعبية ...
وسأدرس الألوان القصصية في هذا الفصل المقامات والقصة النثرية والسير الشعبية .
أولاً - المقامات :
هي قصة أو حكاية قصيرة خطها مؤلفها بأسلوب منمق ،أبدى من خلاله مقدرته على الإتيان بالبديع من الأسلوب ، لتكون طرفة أو متعة للسامعين بأسلوبها ومضمونها معاً .
ومقامات عصر الدول المتتابعة حدث فيها تغيير وتجديد ، إذ لم تلتزم المنهج الذي خطه مبدعو المقامات في العصر العباسي، فلم يحو بعضها راوية ولابطلاً، وإنما اكتفى بالحكاية، و قد تخلو من الرحلة والاغتراب والكدية ، و قد تكتفي بالحوار فحسب بين شخصيتين من العقلاء أو من غيرهم ، وقد تروى على لسان المؤلف نفسه.
ولهذا اختلطت المقامات بالرسائل الأدبية حتى صعب التمييز بينهما أحيانا فكأن المفاهيم لم تكن واضحة في أذهان الكتاب بعد ، فالصفدي والقلقشندي يسميان مفاخرات العلوم أو الأشياء رسالة أدبية ([4]). بينما نرى جلال الدين السيوطي يسمي شبيهها مقامات، كمقامة رشفة الزلال من السحر الحلال، وقد أوردها على لسان عشرين عالماً فيهم المقرئ والمفسر والأصولي، وكل واحد من هؤلاء يبين فضل علمه، وكذلك فعل ابن حبيب الحلبي في كتابه نسيم الصبا إذ سمى أحاديثه فيها مقامات، ومنها مقامة في رمي البندق([5])، وهي في الصيد. وللقلقشندي مقامة سماها (الكواكب الدرية في المناقب البدرية) وهي أشبه بالمقال العلمي المكتوب بأسلوب مصنوع لا بالمقامة، وقد شرحها في كتابه صبح الأعشى.
وتعددت موضوعات المقامات فكان منها في المديح، والهجاء، والوعظ، والتسلي ، ولتعليم اللغة…
وكثرت مقامات العصر و كتابها، فجلال الدين السيوطي له أكثر من أربعين مقامة كالمقامة النحوية الأسيوطية، والمقامة الجيزية في الألغاز، والمقامة العلمية، والمقامة المكية، ومفاخرات بين النباتات كالمقامة الفستقية، والوردية، والتفاحية، وكأنه كان يرى أن المقامة صالحة لكل غرض وفن…
ولابن أبي حجلة([6]) المقامة الزعفرانية، وهي تتحدث عن فيضان النيل . ولعمر بن الحسين الرسعني مقامة في وقعة حلب في عهد التتر، وكذلك كتب صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي خمسا وخمسين مقامة لم يبق منها إلا ثلاثون. وخط عمر بن الوردي([7]) مقامات فيها راو من مدينة المعرة ، ومنها المقامة الصوفية، ولابن نباتة مفاخرة سماها مقامة بين السيف والقلم، ولمحمد القواس الحلبي([8]) مقامات سماها على أسماء البلدان مثل المقامة الحلبية ، والطرابلسية ، والمكية ، والقاهرية، وفيها راو وحيلة، وهدفها تعليم اللغة إلى جانب الوعظ ، وتعتمد على السرد والحكاية ، ولأحمد بن محمد الخفاجي ... وفي أواخر العهد العثماني كتب ناصيف اليازجي([9]) ستين مقامة ضمنها كتابه مجمع البحرين، وأراد بالبحرين الشعر والنثر، وقد جعل لهما راوية وبطلاً على غرار مقامات الحريري ([10])، وكتب محمد المويلحي ([11]) مقامات في كتاب أسماه "حديث عيسى بن هشام " وهي تشبه أحاديث ابن دريد العباسي، وتتحدث عن المجتمع وتنقده على لسان ابن هشام.
وسأدرس عدة مقامات تمثل نماذج تكشف عن منهج المقامات والتغير الذي طرأ عليها وأسلوب تأليفها في عصر الدول المتتابعة .
1ـ مقامة رمي البندق أو المقامة الطردية ([12]) لابن حبيب الحلبي:
وفيها نرى الكاتب يتخذ دور الراوي، وله صديق يرافقه في رحلته .
تبدأ المقامة بذهاب الراوي مع رفيق له إلى روضة أنيقة، ويصف الكاتب هذا الرفيق بما يدل على إعجابه بمنزلته وحكمته، كما يصف الروضة بأنها ذات ظلال كثيفة وتمتد الغيوم فوقها، ويبدو الطل كدمع يراق فوق أفنانها، وقد توارت الشمس بالحجاب. ولما نزلا فيها رأيا عصبة من الرماة نفوسهم أبية، وسلوكهم كريم، وفعالهم حميدة وكان الكاتب ينعتهم شعراً ونثراً ليبدي خلالهم الرفيعة، فالقِسي بأيديهم رشيقة، والبنادق كالكواكب، وكانت الطيور المختلفة تمر بهم، وهي لا تدري أن أيدي المنون قد تمتد إليها، وعندما خيم الليل فلا ضوء إلا من النجوم، خطر لصاحبه أن يصطاد إوزة رآها، فرماها سريعاً، فأعجب الصحب بمهارته، ثم راحوا يصطادون مثله، وراح الراوي يشيد بمقدرتهم في أرجوزة حوت تسعة وأربعين بيتاً حكت براعتهم في الاصطياد وأنواع الطيور وأوصافها، وأنهاها بدعاء لصديقه الذي برع في الصيد. يقول الحلبي في هذه المقامة :
برزتُ يوماً مع رفيق رقيق، يُسِرّ بمنادمته سِرّ الصديق . لا يخرج عن الواجب. ولا يَحجُبه عن ذكر الجليل حاجب. رفيع المقام، صادق الكلام. ينطق بالحكمة وفصل الخُطّة([13])، وهو لدائرة الفضل بمنزلة النقطة. ويحبّ معالي الأمور، ويتقدم إلى كل مقدمة تنتج السرور. ويتمسك بما كان داعياً إلى المروّة، باعثاً على امتثال : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ([14]) " .
قد أَلِفَ لخطبة الطير كلَّ خطب مَهُول، واعتاد خوض المنايا فأيسرُ ما تمرّ به الوحول([15])، إلى روضة أنيقة تُهدي الأنَق، وتضيء في جوانبها وجوه الملَق([16]) . والغَيْم ممدود الرُّواق، والطَّلُّ دمعه يُراق، والجوّ مسكيّ الإهاب، والشمس قد توارت بالحجاب.
فنزلنا بفِنائها، وشمَمْنا الأرَج من أرجائها، واجتلينا محاسن أزهارها، وطربنا لسماع نغمات أطيارها. ورأينا بها عصبة من الرُّماة، وفرقة تَفْرَقُ منهم الأبطال والكُماة، فألْمَمْنا بحضرتهم، وانتظمنا في سلك زمرتهم، فلما أنِستُ بذَراهم( ([17]، وآنستُ نار قِراهم، شاهدت قوماً نفوسهم أبيّة، ومقاماتهم عليّة. يرعَوْن حق الذِّمام، ويقتفون آثار الكرام، ويرفلون في حلل العفاف، ويسلكون سبل الإنصاف، ويوقّرون الكبير، ويرضَوْن من العيش باليسير، ويعتمدون حسن الوفاق، مع الرفاق، ويُعرضون عن أهل العَرَض لعلمهم أن ما عندهم يَنْفَدُ وما عند الله باق (النحل /96 ).
فلو رأيتهم وقد أتوا إلى الخِطة والتفوا، وحملوا غير متحاملين واصطفّوا، مسرعين إلى الأخذ بالثارات، متدرِّعين الغبار لشنِّ الغارات :
لَعاينْت قوماً فـي مقاماتِ عزِّهم
وقوفاً، وكلاًّ منهم قد ترسَّما
جفَوْا في الظلام النومَ كي يتقدموا
وَمن سَهِرَ الليلَ الطويلَ تقدَّما
وكم لهم من دعْرة وشطارة، يقولون ما أهْون الحرب عَلى النظّارة، ونُكْتةٍ غريبة يأتي بحرها بالعجب، ومصطحَب شريف، وما أدراك ما المصطحَب ؟ ما ألطفَ سجاياهم الطاهرة، وأطيبَ أوقاتَ وجوههم الناضرة .
بأيديهم قسيٌّ قدودُها رشيقة، وملابسها مدبّجة أنيقة، من الطين اللازب، أجاد خَرْمها الصنّاع، وهذّبت كماةُ الرماة منها الطباع . كأنها حواجب مقرونة، أو نونات معرَّقة موضونة، أو أهِلّة مشرقة النور، أو مَناجل لحصادِ أعمار الطيور .
حواملٌ إذا دنا نتاجُها
تقْذف من أكبادِها كواكبا
ومعهم للرمي بنادق، أسرع في الإصابة من الفَيالق([18])، كأنها كُرات دورية، لا بل كواكب دُرّيّة، تمرّ بهم عساكر الطيور المختلفة، وهي تختال في برودها المفوَّفة ولم تدرِ أن أيدي المنون إليها ممتدّة، وأن سيوف الحتوف لها معدَّة . إن هبطت مُسبّقة أصابتها عيون أوتارها المبصرة، وإن نهضت محلّقة فكُرات قسيّهم عنها غير مقصّرة، فتسقط عليهم سقوط الندى، وتهوي إليهم مجيبةً لداعي الردى .
فبينما هم في وجْهٍ([19]) عشاؤه أضاء بنور التهاني، ولمعت فيه بارقة بروق الأماني، والليل قد أرخى أستاره، وأبرز من النجوم درهمه وديناره، والأنهار سارية وسارحة، والأطيار في الملَق سابحة وسائحة… عنَّ لصاحبي إوزة فضّية اللون… ، تسبق الريح في المطار، وترتفع إلى أن تغيب عن الأبصار، فرماها في حال بُعدها عن العيون، وصرعها عاجلاً أسرع ما يكون، فحسنتْ له الجُفّة ([20]) وباركت فيه، وأظهر من سرّ الظفر ما كان يُخفيه، وخرج فرحاً بتحصيلها مائداً وحملها من كان له شاهداً، ورمى لمن قبله وسبقه، وفي بحر الحمد والشكر غرّقه. ثم تواتر الرمي من كلِّ نبيه ونبيل، وتفرقوا من ذلك الوجه على وجه جميل.
فلما شاهدتُ من أحوالهم ما راقني، ومن نوالهم ما قيدني عن غيرهم وعاقني، أثنيت على من بهم عرّفني، وبالطيب المسكيّ من أنفاسهم عرّفني . وقمت ناشراً وصف المواقف والأطيار قائلاً على سبيل التشوق والتذكار :
يا صاحِ قم نسعى إلى الأملاق
فنحوَها قد ذبْتُ من أشواقي
السُّحْب قد تتابعتْ وفودُها
وانفرطتْ على الربا عقودها
وروضةُ الأنس يفوح طيبها
وينثني في دوحها رَطيبها
ونغمات الطيورُ بالألحان
تُغْنِي عن الجُنُوك والعيدان ([21])
أحسِنْ بها يا سعدُ من أطيارِ
تلوح كالأنجم للأبصار
قد جمعتْ أوصاف كل طائر
مبيّنات المجد والمآثر
فالتِمّ يبدو في لباس يقَقِ
كأنه مُرَكَّبٌ من وَرِق([22])
في الرأس منه نقطة تحكي السبَجْ
من الرماة نحوَه تصبو المُهَجَ ([23])
وللإوزّ نغمةُ الأوتار
إذا بدَتْ تختال في المطار
قم نجتلي الكرْكيَّ تحت الشفقِ
فقد بدا في ثوبِ خَزٍّ أزرق
ومدّ جيداً يا له من جِيد
وأطرَبَ الأسماع بالتغريد
لا زلتَ ترمي الطير والأعادي
بأَسْهُمٍ ذي أَلْسُنٍ حِداد
ودمتَ تلقَى السعدَ في مَسيركا
حتى تُعِدًّ الكلَّ من طيوركا ([24])
دراسة المقامة :
المقامة كما رأينا تتحدث عن موضوع الصيد في أسلوب حكاية أو قصة واقعية فتصف الصيادين وآلات الصيد، والطيور التي اصطادها، بأسلوب منمق مسجع، لا يخلو من بعض الجمال وبعض الكلفة، شأنه في ذلك شأن النثر الفني غير التأليفي في ذلك العهد، وقد جاء بها على لسان الراوي، وهو المؤلف نفسه [25])) ، وكان معه صديق، وقد التقيا بفئة من الصيادين، وكان الراوي يصف كلاً منهم، وأدوات صيدهم، والطيور التي لاقت حتفها على أيديهم، وقد أنهى مقامته بشعر على غرار ما كان يفعله كتاب المقامات في العصر العباسي.
وإذا كان موضوع مقامات العباسيين الشحاذة والحيلة فإن هذه المقامة أظهرت أمراً اجتماعياً مشروعاً لا غبار عليه وهو التمتع بالصيد، والمهارة في رميه، بأسلوب قصصي رمى صاحبه إلى إظهار براعته فيه، فقد أدى معناه بأسلوب مسجع، حقق فيه نغمة موسيقية وأضاف إلى نغمة السجع جرس الازدواج والتوازن على نحو قوله:
(شاهدت قوماً نفوسهم أبية، ومقاماتهم علية ... يرعون حق الذمام، ويقتفون آثار الكرام، ويرفلون في حلل العفاف، ويسلكون سبيل الإنصاف) .
فالعبارتان الأوليان فيها ازدواج عذب، والجمل بعدهما فيها توازن منسجم بعضه إلى بعض. ولكن التكلف في النص كان أبين وأوضح، من ذلك قوله ( فرماها في حال بعدها عن العيون، وصرعها عاجلاً أسرع ما يكون " فاللفظان الأخيران جاءا للصنعة. وهناك تكلف في إيراد مصطلحات علمية على نحو قوله (ينطق بالحكمة وفصل الخُطّة، وهو لدائرة الفضل بمنزلة النقطة) فالدائرة والنقطة، بل والعبارة التي حوتهما جاء بهما في تعمّل غير مطلوب. وفي المقامة اقتباس من القرآن الكريم على نحو قوله (لعلمهم أن ما عندهم ينفذ، وما عند الله باق): من الآية الكريمة )ما عندكم ينفذ وما عند الله باق( . وقد ضمن المقامة شعراً كثيراً امتزج بوصف الصديق والجماعة والطيور، كما أتبعه بأرجوزة في الصيد، وهو من الفنون التي شهرت في العصر العباسي، وكأن الكاتب أراد أن يبدي براعته في الشعر كبراعته في النثر.
كما أن هدف تعليم اللغة بدا واضحاً من اختياره كلمات غريبة على نحو : فصل الخُطّة ، وروضة أنيقة تهدي الأنق ، ووجوه الملق والأرج الرائحة الطيبة ، أنِسْتُ بذَراهم ، وآنست نار قراهم، والأطيار في الملق ، وحسنت له الجُفّة ، والتِّم في لباس يقق ،السبج ...
ولكن المقامة على تكلف أسلوبها، وجزالة ألفاظها، واختيار الغريب من اللغة لا تخلو من التصوير الجميل، فعصبة الصيادين (تمر بهم عساكر الطيور المختلفة، وهي تختال في برودها المفوفة (شبه الطيور المخططة الألوان بالثياب اليمانية المخططة)، كما أنه شخّص الطيور إذ جعلها تختال إعجاباً بجمال خلقتها، أو بثيابها، وهي (لم تدر أن أيدي المنونة إليها ممتدة) استعارة مكنية تشخيصية جعل المنون إنساناً يمد يده ليغتال فريسته، و(أن سيوف الحتوف لها معدة) تشبيهِ جعل فيه الموت سيفاً على سبيل التشبيه البليغ الإضافي ، وفي هذه الصورة التقابلية بين إحساس الطيور بالأمن وترصد المنون جمال وخيال . .
والليل في مخيلة الكاتب قد لمعت فيه بارقة بروق الأماني، شبه الأماني بالبرق اللامع، والليل قد أرخى أستاره وأبرز من النجوم درهمه وديناره . والصورة الأولى للّيل وقد أرخى أستاره وإن كانت معهودة إلا أنها جاءت موفقة، وقد شبه النجوم بالدراهم والدنانير الذهبية والفضية .
وهذه صورة واقعية رائقة بدت فيها (الأطيار في الملَق سابحة وسائحة). أما القسي فقدودها رشيقة، وملابسها مدبجة أنيقة، من الطين اللازب ... كأنها حواجب مقرونة، أو نونات معرّقة موضونة أو أهلة مشرقة النور، أو مناجل لحصاد أعمار الطيور وهذا التشبيه الجمع([26]) المصاحب باستعارات تشخيصية للقسي جمّل الصورة وإن لم تخل من كلفة في تشبيهها بالحاجب أو بحرف النون .
و في قوله هذا مشهد جزئي يصور لنا الصائد (عنّ لصاحبي إوزة فضية اللون ... تسبق الريح في المطار، وترتفع إلى أن تغيب عن الأبصار، فرماها في حال بُعدها عن العيون، وصرعها عاجلاً أسرع ما يكون، فحسّنَتْ له الجُفَّة وباركت فيه، وأظهر من سر الظفر ما كان يخفيه . وخرج فرحاً بتحصيلها مائداً، وحملها من كان له شاهداً، ورمى لمن قبله وسبقه، وفي بحر الحمد والشكر غرّقه، ثم تواتر الرمي من كل نبيه ونبيل، وتفرقوا في ذلك الوجه على وجه جميل).
فلو تركنا ثقل السجع لرأينا مشهد الصاحب وهو يرمي الإوزة الجميلة السريعة، والصحب يعجب بمهارته فيشكرونه، فيختال من الفرح، ثم يقوم الجميع إلى الصيد وهم سعداء مسرورون). منظر رائق جميل يختصر عملية الصيد ودوافعها النفسية ، وثمرته الطيبة .
وأخيراً تعد هذه المقامة في الفن القصصي لأنها لم تحك لنا الصيد مجرداً كما يحكيها العلم، وإنما أضفى على الفكرة حيوية من خلال قصة الذهاب إلى الروضة، وعملية الصيد، واجتماع الصحب ومشاركتهم جميعاً في هذا العمل الذي كان معهوداً في ذلك العهد ، ولأنها جاءت بأسلوب فني جمع اللغة المنتقاة والموسيقى العذبة والتصوير الجميل .
2ـ مقامة أحمد البربير([27]) التأملية :
ولأحمد البربير البيروتي مقامة أوردها البيطار في كتابه حلية البشر، وذكر أنها في مديح العلامة عبد الرحمن أفندي العمادي المرادي([28])، وهي مقامة كما سماها مؤلفها، طويلة تبلغ تسع عشرة صفحة وهي أيضاً تشبه المفاخرة، لأن كلاً من الماء والهواء استعلى على صاحبه، ثم راح يحتكم إلى العلامة الممدوح، وبهذا جمعت هذه المقامة سمات الرسالة الأدبية كما جمعت سمات القصة التأملية، إذ حكى الأديب أن خياله أخرجه إلى روضة سمع فيها المفاخرة، وبذلك تتداخل هذه الأنواع الأدبية في صورة المقامة العربية في العهد العثماني.
بدأ الأديب بحمد الله سبحانه والصلاة على رسوله وعلى آله وصحبه على غرار ما يفعل كتاب الرسائل ثم قال "أما بعد"، وذكر أن خياله أوصله إلى روضة بديعة ... ولندع الكاتب يعبر عن فكره وأخيلته بقوله:
"حمداً لمن خلق العناصر، وجعل لكل منها فضلاً تعقد عليه الخناصر، وصلاة وسلاماً على الجوهر الفرد الذي منه عرض العالم ومَنْ هو في الدارين سيد بني آدم، وعلى آله وصحبه ومن تعلق بحبه، ما اكتحلت عيون الطروس بمراود الأقلام، وقلدت نحور الدروس بعقود ألفاظ العلماء الأعلام.
وبعد.
فإن الفكر والخيال دخلا بي إلى رياض ضاع زهرها، فنمّ عليه النسيم، ودار علينا الماء الزلال، أكلها دائم وظلها ... فتلقتنا عوديات طيورها بالصدح، ومجامر كمائم ورودها بالنفح ... وأدارت علينا سلاف طَلِّها كؤوس الزهور . قبل أن ترشفه شمس البكور . وحيتنا راحة الراحة والسرور. بأصابع المنثور . وغنت لنا مُطَوَّقات شواديها على العيدان… ورقصت بين أيدينا جواري الماء. غير أننا كنا نسمع محاورة، ضمنها منافرة ومحاضرة، فسألنا الرياض عن جلية الأثر. فقالت سلوا النسيم فقد أصبح عند النسيم الخبر. فوجهنا وجهة السؤال الوسيم . إلى قبلة النسيم، فتدلى وتدلل، وما ألطف النسيم إذا تعلل، وقال يا أهل الفراسة والسياسة، والفتوة والمروءة والحماسة، إنها منافسة بين الماء والهواء أوجبها حب انفراد كل منهما عن صاحبه بالرياسة، فهل تنعمون بحضورهما لديكم، ومثولهما بين يديكم، ليعرض كل ما له من حسن الأوصاف، وتحكموا بينهما بالعدل والإنصاف، فقلنا لا نكره ذلك ولا نأباه، فهلموا بهما إلينا لنرفع ما بينهما من الاشتباك، فشمس الحق لا يحجبها حجاب الباطل، وهيهات تكتم في الظلام مشاعل، فلم يزل الحق أبلج والباطل لجلج، وحسبك قول خالق الخلائق، " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق"، فعند ذلك سرى النسيم إليهما مسرى النوم في الأجفان، والروح في الأبدان، فأتى بهما، فحيا كل منهما وبيّا([29]) وسلم، فقلنا: وأنتما حُيِّيتما ما عطس الفجر ودب الظلام، فإنكما أعظم دعائم الجماد والنبات والحيوان والإنسان، وأنتما الشقيقان اللذان لم يوجد لهما ثالث في عالم الإمكان، فهل ولج بينكما ذو نفاق، حتى صدر منكما هذا الشقاق، أو ذلك من دسائس النفس الأمارة، ووساوس تلك العدوة الغدارة الغرارة، التي لا تأمر إلا بالشر ولا تصبو إلاّ إلى الضر، كيف لا وهي عروس إبليس، ومصدر أفعال التدليس والتلبيس، أعدى العدى، وسبب الردى، قال لها الحقُّ أقبلي فأدبرت، وأعرضت عن جانبه واستكبرت، حتى ألقاها في الجوع، وألجأها به إلى الذل والخضوع، فمن أطاعها ندم، ومن عصاها سلم، ومن قهرها بالجهاد فهو بطل، ومن ملّكها من مدينة جسمه خَرِب نظام إنسانيته وبطل، فالرأي للعاقل أن يحذرَ مكرها، ويخالفَ أمرها، لا سيما إن أمرته بقطع رحم القرابة والأرب، أو رحم الصحبة أو الحرفة التي كل منها لُحمة كلحمة النسب . والمرء قليل بنفسه كثير بالإخوان، والرحم مشتقة من الرحمان، ولهذا يصل من وصلها، ويفصل من فصلها، كما قال الشاعر :
وما كنت إلا مثل قاطع كفه
بكف له أخرى فأصبح أجذما
على أن الدنيا دار زوال، ومنزلة ارتحال، ولا يليق بالعاقل أن ينافس فيما يزول، ويوجه وجه آماله ما للفناء يؤول، ولقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من جار السوء في دار المقامة.
فلما سمع الماء ما قلناه من الكلام، تموج وتأود، ورغا وأزبد، وجرى واضطرب، وعبس بعد القهقهة وقطب، وقال يا معشر الأكابر، أما بلغكم قول الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
أما عرفتم أن الأخ المعاند، كالعضو الزائد، يشين الذات، ويمنع اللذات، فقَطْعُه من الرشد، وإن آلم الجسد، هذا ولا يَغُرّ الهواءَ صفائي فكم تكدرت، ولا يثق بسلاستي فكم انعقدت واستحجرت، فإن زعم الهواء أن له عليّ فضيلة، فلْيعرضها على أسماعكم غير متعلل بعلة ولا متحيل بحيلة. فقلنا نعوذ بالله من اجتماع النفس والهوى، فمن رام منكما أن يتكلم فلْيجعل منبر الفخر له مستوى.
فعند ذلك ثار الهواء وله غبار، وصعد منبر الفخار، وقال الحمد لله الذي رفع فلك الهواء، على عنصر التراب والماء، ونفخ في آدم من روحه، وعلمه جميع الأسماء. أما بعد فمن عرفني فقد اكتفى، ومن جهلني فأبدو له بعد الخفا. أنا الهواء الذي أؤلف بين السحاب، وأنقل ريح الأحباب، وأهب تارة بالرحمة وأخرى بالعذاب؛ نصر الله بي محمداً وصحبه الأمجاد، وأهلك الله بي قوم عاد، وأنا الذي تم بي ملك سليمان، وأجرى الماء في خدمتي بكل مكان، وسير بي الفلك في البحر كما تسير العيس في البطاح، وأطار بي في الجو كل ذات جناح، وأنا الذي يضطرب مني الماء. إذا صفوت صفا العالم وكان له نضرة وزهو، وإذا تكدرت انكدرت النجوم وتكدر الجو،؛ لا أتلون مثل الماء، المتلون بلون الإناء، لولاي لما عاش كل ذي نفَس، ولولاي لما تكلم آدمي ولا صوّت حيوان، ولا غرد طائر على غصن بان، ولولاي ما سُمِع قرآن ولا حديث، ولا عرف طيب المسموع والمشموم من الخبيث، فكيف يفاخر بي الماء الذي يشبّه الله به الدنيا البغيضة، التي لا تعدل عنده جناح بعوضة، وأنا الذي أطير بلا جناح إلى جميع الجهات، وهو الذي يخر على وجهه ويمشي على بطنه كالحيات، وحسبي وحسبه هذا التفاوت العظيم )أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم(، وحسب الماء ذمّاً خلوه من الحرارة المشتقة منها الحرية، وكون الرطوبة فيه طبيعية غريزية. وأنا الذي سلم قلبي من القلب وإن كان من أحرف العلة، وهو الذي قلّب الله قلبه، لتحركه وانفتاح ما قبله، … هذا وما خصني الله به من المزايا يعجز عنه فم الدواة ولسان القلم وصدر الرقيم، وفوق كل ذي علم عليم، وأما أنت فحسبك عيباً قول بعض الأدباء، فلان كالقابض على الماء، وبالله قل لي أي فخر لمن إذا طال مكثه، ظهر خبثه، ومن نبع من الصخور، ومر مذاقه في البحور، وعلت فوقه الجيف، وانحطت عنده اللآلئ في الصدف، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم . ثم انحدر من منبره، ووعينا ما سرده من مفخره، وقال للماء، هات يا أبا الدأماء.
فعلا الماء بموجه، حتى صعد إلى ما انحط عنه الهواء من أَوْجِه، ولولا الأرض تملكه لسال، لكنه تجلد وأقبل علينا وقال، الحمد لله الذي ... جعل من الماء كل شيء حي، أما بعد فقد سمعت جعجعة ظننتها صرير باب، أو طنين ذباب، باطلٌ في صورة حق، وسرابٌ إذا تأملتَه زال وانمحق، فاسمع أيها الهواء ما أتلوه من آيات فخري الشامل، وما أجلوه عليك من عقد فضلي الذي أنت منه عاطل، "وقل جاء الحق وزهق الباطل".
اعلم أولاً أن الدعوى قبيحة، وإن كانت صحيحة، … فكيف إذا كانت بالزخارف مموهة، فهي ولا ينبئك مثل خبير. هذا وقد سردت ما زعمته فيك من الخصوصيات على سبيل المفاخرة والمباهاة، وأنا أقول ما منَّ الله به عليّ على سبيل التحدث بنعمة الله، فأقول : أنا مخلوق ولا فخر، وأنا لذة الدنيا والآخرة ويوم الحشر، وأنا الجوهر الشفاف، المشبه بالسيف إذا سل من الغلاف، وقد خلق الله مني جميع الجواهر حتى اللآلئ في الأصداف، أحيي الأرض بعد مماتها، وأخرج منها للعالم جميع أقواتها، … وأنا الذي أُذهب حرارة آب وتموز، … وأما أنت أيها الهواء فكم ذهبت فيك نصائح النصاح، …
ولعمري لطالما أهلكت أمماً بسمومك وزمهريرك، فكم تواتر عنك حديث تشمئز منه النفس وتمجه الأذن، وحسبك من العناد أنك تجري بما لا تشتهي السفن، وأنت المولع برقص الجواري كفعل الفساق، وأنت الذي تهيج التراب وتغري النار بالإحراق، … ومن عيوبك أنك لا تسكن ولا يقر لك قرار، ولم تفهم الإشارة في قوله تعالى )وله ما سكن في الليل والنهار(، وأما قولك لولاي ما عاش إنسان، ولا بقي على أرض حيوان، فجوابه لو شاء الله لعاش العالم بلا هواء، كما عاش عالم الماء في الماء، … وأما تعبيرك لي بأني متلون، فالتلوين صفة عارف الزمان، المتخلق بقوله تعالى )كل يوم هو في شأن( (الرحمن / 29) وأما قولك قلبي قد انقلب، فالحمد لله الذي قلبه لأعلى الرتب، لأنه كان آخر الحروف فصار أولها، إذ الألف تدل على الذات الأحدية، … هذا وأنشدك الله أيّنا كان عليه عرش الرحمن قبل خلق العالمين، وأيّنا الذي جعل منه كل شيء حي وذكره بذلك في كتابه المبين، وأيّنا الذي بعث فيه ابن عباس إلى ملك الروم في قارورة كان أرسلها إليه مع بعض الجنود،وطلب منه أن يضع له فيها كل شيء والشيء عندنا هو الموجود([30])، أما كفاك شهادة الله لي بالطهورية في قوله تعالى: )وأنزلنا من السماء ماء طهوراً، لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثير( ( الفرقان /49) ، أما رأيت ما حباني الله به من عظيم المنة، حيث جعلني الله نهراً من أنهار الجنة، أما علمت أن مني حوض من كان إذا مشى في الشمس تظلّه الغمامة، أما تيقنت أنني نبعت من بين أصابعه فكنت له معجزة كما أكون لوارثي مقامه الرفيع كرامة، أما عرفت أني أرفع الأحداث، وأطهر الأخباث، وأكون للمؤمنين في الآخرة نوراً في محل التحجيل والغرر، … وأعلم أنني ما نلت هذا المقام الذي ارتفعت به على أبناء جنسي، إلا بانحطاطي الذي عيّرتني به، وتواضعي وهضم نفسي، وأنا لا أحب المعالي، وأنا سلم للمحل المنخفض، وحرب للمحل العالي، لا أتجاوز حد العبيد، … فلذلك باعدني الله من النار، وجعلك حجابا بيني وبينها، أتقي بك ما تطاير منها من الشرار، وقد علم كل عالم أن فضائلي تحل عن الحصر، وأني سيد العناصر ولا فخر، أقول قولي هذا وأستغفر الله من لغو الكلام، وأسأله لي ولأحبابي حسن الختام .
ثم نزل، والتمس منا أن نحكم له بالفضل على الفور، وأن نجانب في حكمنا الميل والجَور ، فقلنا له بأن كلا منكما أدلى إلى الفضل بحجة، وسلك من الدلائل العقلية والنقلية أوضح محجة، غير أن تكافؤ الأدلة، غادر منا الأفكار مضمحلة، وقد عجزَتْ عن ترجيح فضلكما الأفكار، وليس لهذه المعضلة، غير إمام عصرنا، وعزة شامنا ومصرنا، المجتهد الذي قلد ببره أعناقنا تقليدا، أعظم الموالي قدرا، وأعلاهم نجرا، وأَرْحَبُهُم صدرا، وأكثرهم برا، وأنفذهم نهيا وأمرا، المحسود، المحشود، والمتقلد من فرائد المحامد بثمينها؛ خلاصة العبّاد من العباد، وثمرة دوحة روض الحقائق من آل مراد، جناب مولانا وسيدنا عين أعيان الموالي الكرام السيد عبد الرحمن أفندي، لا زال وهو البر بحر الجود، ونجم الهدى والسعود، حامي الذمار والأطراف، منيفاً على آل عبد مناف، ملحوظاً بعين العناية والألطاف، فإنه عذيق الشام المرجّب([31])، وروضها المشذب المهذب، ومعشوقها المحبب،… كالنجم في الدآدئ ([32]) المدلهمة، يحب المحاسنة، ويكره المخاشنة. فيا له من جواد ونجيب لا يقعقع له بالشنان([33]) ولا ينبه بطرق الحصى وهل ينبه اليقظان ؟ وإن تأملت عزمه ولحظه، تحققت أنه أسد بيشة ولحظه، كما قلت فيه :
لا غَــرو لابن المرادي
وذاك شمس المواكب
أن فـاق كل الموالي
فالشمس بعض الكواكب
فهلم للوفود عليه، والمثول بين يديه، فهو الذي يستنبط المسائل ويرضى بفضله وبذله كل مسائل، وإن لم يكن غير مكارمه إليه وسائل .
فلما سمع الماء والهواء بمعروف ذلك الحبيب السري، والإمام الهمام العبقري، تعشقاه على السماع، وطلبا منا المبادرة إلى جنابه ليبلغا منه حظ الاجتماع، فسرنا بهما إلى جنابه، حتى بلغنا فسيح رحابه، وكحلنا الجفون بإثمد أعتابه، فنهضنا له على الأقدام، وحيانا بألطف سلام، وتسلم سلم قصره الفريد، وأشار إلينا أن نتبعه في الصعود إلى ذلك القصر المشيد، فرأينا قصراً ينسب الخورنق للقصور، ويغمد غمدان كما تغمد في أجفانها الذكو[34]ر، وما بالك بقصر شهدت فضلاء الأكياس، بأنه جمع محاسن الدنيا كما جمع صاحبه محاسن الناس، فكنا كما قال القاضي الفاضل :
فمتَّعْتُ آمالي بمولى هو الورى
ودارٍ هي الدنيا ويومٍ هو الدهر
ثم أمر لنا بالجلوس، هذا وعِطْفُ كلٍ منا من الطرب ينوس ([35])، فأقبلت علينا ذات الدولة وبنت الوجاق، التي كلما مرَّتْ حَلَتْ، وكلما ثَقُلَتْ خفت، على كل من رشف منها وذاق، السمراء المعشوقة المقبولة، مشروبة ومرئية ومنشوقة، بنت اليمَن واليُمْنِ، ذات الجمال والحسن:
كسواد العيون تظهر للنا
س سواداً، وفي الحقيقة نور
التي أرخصت الغالية([36]) وكانت ندها، وملكت عنبر الطيب وأين بنت الحرام من بنت الحلال؟ وأين جونة المسك من قوارير الأبوال؟ فأخذنا تلك البُنَيَّـة بالنية الصافية، وشربناها فقامت بها دعائم العافية، ولم نزل نرشف منها ذوب المسك، … وقد اشتمل مجلسنا على كل نديم له صورة الدمية ونفحة الريحانة، أديب ألمعي، كأنه الأصمعي تراه الكامل في الأدب، والعُمْدَة في كل مطلب، يتقن المحاورة، ويحسن المجاورة، يجود على السمع بما يطلب القلب من الاقتراح، ويجلو عليك من راح مُلَحِـه ما يوجب لك الراحة والارتياح، كما قيل في أمثالهم :
لنا جلساء لا يُمَلُّ حديثُهم
ألِبّاءُ مأمونون غيباً ومشهداً
إذا ما خلونا كان حسن حديثهم
معيناً على نفي الهموم ومُسْعِداً
يفيدوننا من علمِهم علمَ مَنْ مضى
وعقلاً وتهذيباً ورأيا مُسَدَّداً
ولا غيبةٌ تخشى ولا سوءُ عشرةٍ
ولا نتقي منهم لِساناً ولا يداً
وما زلنا نقتطف منهم زهور الآداب، ونخترق ثمار الألباب، … وصاحب المنزل لهم كالواسطة، ومجلسه يحتفل بالوافدين، ويغص بالواردين، وهو يخاطب كلا على حسب قدره وعقله، ويتحف كل من له وَطَر بقضاء وَطَرِه، ولا يتعلل كغيره بشغله، حتى أقبل مَلَكُ الليل بسواده الأعظم، ونثر على الأفلاك جواهر النجوم التي كأنها العقد المنظم . هذا ونحن في فلك السعود، كواكبُنا وسماؤنا دخان العنبر والعود، وقد أشرق بدر تلك المنازل بالنور والكمال، وأشرف علينا بجبين لطيف رأينا عليه الهلال، وشنف بدر منطقة منا الأسماع، حتى خُيِّل لكل منا أنه جليس القعقاع ، وما زلنا في ليلنا نجمع عقود السرور، حتى هجم علينا ملَك الكرى، وقد كاد أن يشيب عارضُ الليل مما سال من دمع الشمع وجرى، وعند ذلك طوينا من المنادمة بساطها، وتفرقنا تطلب كل نفس منا راحتها وانبساطها، ثم اضطجعنا، وأعطينا الجفون حقها من الإغفاء بعد السهاد، ولم نزل في ضيافة المنام، تقربنا أياديه السرور في الأحلام، حتى لفظ الشرق من لهواته ياقوتة سهيل، ودب مشيب الفجر في عارض الليل، فنهضنا للصلاة، وجلس كل منا بعدها في مصلاه، ... ثم دخلنا عليه وسلمنا ودعونا له بطول البقاء، فأجاب وأجاد وأجاز وتلقانا أحسن اللقاء، ثم جاءت القهوة التي طابت منظرا، ومخبرا وذوقاً وشما، ثم جيء بقصبات التبغ فارتضعنا منها كل ثدي يلذ دَرّه ربحاً ولونا وطعما، فلما استوفينا أوفر حظٍّ، بادرْتُه بالدعاء، وعرضت عليه مفاخرة الماء والهواء، وسألته فصل الخطاب، والإنعام بالجواب، فالتفت عند ذلك للماء وأخيه، وقال : إن كلاً منكما محق فيما يدعيه، فما أشبهكما في السماء بالفرقدين، وفي الأرض بالعينين، ففضلكما معجز، لا يكاد يميَّز أحدَكما عن أخيه مميز . وقد نفع الله بكما العالم على تباين أنواعه وأشكاله . وقد ورد أن الخلق عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، فلا تشتغلا بالمفاخرة عن شكر هذه النعمة، واعلما أن حب الفخار أهبط إبليس إلى حضيض اللعنة من أوج شرف الرحمة، فلا تجعلاه لكما إماماً، فمن يفعل ذلك يلق اثاماً، واعلما أن الفخر في الدنيا بالمال، وفي الآخرة بالأعمال، وأحسن الافتخار بالافتقار، وظهور الذل والانكسار، فقد قال مَنْ سال بين أصابعه الماء المنهمر، "الفقر فخري وبه أفتخر"، فمن كان عبداً لله كان له به الافتخار، فمن مناجاة علي كرم الله وجهه وزاده منه قربا: سيدي كفانا شرفاً أن نكون لك عبيداً، وكفانا عزاً أن تكون لنا ربًّا، وللقاضي عياض :
ومما زادني شرفاً وتيهاً
وكدت بأخمُصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن صيَّرْتَ أحمد لي نبياً
على أن مرآة الحق أرتني فضيلة تفضل بها أيها الماء أخاك الهواء، وحققت لي أنكما لستما في الفضل سواء، وهي أن الله خلق آدم من الماء وخلقَ منكَ إبليس، فاعترف لأخيك بالفضل عليك، ودع عنك زخارف التلبيس، والتذلل للحق أقرب من التعزز بالباطل، وأعظم الزلات زَلَّة العاقل، فعند ذلك عدَل الهواء عن هوجه واعوجاجه، ومخاصمته وعلاجه، وأقبل يقبل ذيل الماء ويعتذر إليه، من استطالته عليه، وأقبل كل منهما على صاحب المنزل يؤدي بالدعاء له حقوقه، وسألاني أن أمدح جنابه عنهما بطريق النيابة، ففتح الله لي من النظم بابه، فأنشأت أقول :
عارضْتُ قوماً عن ودادِك أعرضوا
وتركتُهم إنْ صرحوا أو أعرَضوا
من كل ذي مَلَقٍ له إن جئتَه
نفسٌ مُذَبْذَبَةٌ ورأسٌ مُنْغِضُ ([37])
يحكي ثُعالةَ وهو في رَوَغانِه
والحيةَ الرقطاءَ حين تنضّض ([38])
دراسة المقامة :
أ- مضمون المقامة :
يروي أحمد البربير بعد حمد الله سبحانه خالق العناصر في الدنيا والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم سيد العلماء، أن خياله أدخله معه إلى روضة فاح عبيرها، وصدحت طيورها، فسمع فيها محاورة ضمنها منافرة. فسأل الرياض عن جلية الأمر. فدلته على النسيم لأن عنده الخبر اليقين، فأخبره هذا أنها منافسة بين الماء والهواء. إذ يدعي كل منهما فضله على صاحبه، ثم طلب منه أن يعرض عليه كل منهما رأيه، علّه يحكم بالإنصاف بينهما، فجاءا إليه فقال لهما إنكما أعظم دعائم الجماد والنبات والحيوان والإنسان وأنتما شقيقان لا ثالث لهما، فهل دخل بينكما ذو نفاق فأفسد قلبيكما ؟ أم أن هذا من النفس الأمارة بالسوء ؟ ثم راح ينصحهما ويحذرهما منها، ويذكرهما بضرورة حسن الصلات، وهنا جاء بشعر يؤيد فيه أضرار القطيعة، كما بين لهما أن الدنيا زائلة، وقد استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم من جار السوء في الآخرة، وطوبى لمن جعل الدنيا قنطرة لآخرته، لأنها سراب زائل. ولكن الماء لما سمع الكلام قطب واضطرب وادعى أنه ظُلِم، وافتخر فخر معجب بنفسه على الهواء وراح يعدد صفاته ولعل أهمها (الماء فيه الحياة والغرق)، وطلب من الهواء أن يعرض عليه فضيلته إن كان له فضيلة فثار الهواء، وصعد منبر الفخار، وحمد الله سبحانه الذي رفع الهواء على عنصر التراب والماء وأخذ يعدد سماته، فهو يؤلف بين السحاب، ويكون رحمة تارة وعذاباً أخرى، وبه يطير كل ذي جناح، إلى صفات أخر، ثم طلب من الماء أن يدافع عن نفسه فبين أن الله سبحانه خلق كل شيء حي من الماء، وأنه يعترف بنعمة الله سبحانه عليه، ثم بين أن عرش الله سبحانه كان قبل خلق العالمين على الماء، وأن الله سبحانه أنزله من السماء مباركاً وأسكنه في الأرض، وجعله نهراً من أنهار الجنة، إلى صفات عديدة أخرى ، ثم استغفر الله سبحانه من لغو الكلام، وطلب من الراوي أن يحكم بينهما فقال هذا إن كلاً منهما قد جاء بالأدلة العقلية والنقلية ما فيه حجة له، وقد عجز عن ترجيح أحدهما على الآخر، وعليهما أن يذهبا إلى عالم العصر عبد الرحمن العبادي المرادي، وبهذا تخلص إلى الثناء على الممدوح ووصف خلاله، فهو أعظم الموالي قدراً، وأرحبهم صدراً، العالم العابد، الجواد الضرغام، وهو شمس المواكب يستنبط المسائل ويرضى بفضله كل سائل . فلما سمع الماء والهواء بفضله طلبا الذهاب إليه، فسلم عليهم أحسن سلام، وكان قصره كالخورنق جمع محاسن الدنيا كما جمع صاحبه محاسن الناس، وقدم لهم قهوة هي بنت اليَمن واليُمْنِ، وراح يصف القهوة كأنها فتاة حسناء، وكان في المجلس كل نديم بهي الطلعة، لطيف المظهر، أديب ألمعي، وما زال الحاضرون يمزجون الجد بالمفاكهة حتى جاء الليل فناموا عنده ليلتهم فلما طلع الفجر صلوا وشربوا القهوة والتبغ ثم بادره الراوي بالدعاء، وعرض عليه مفاخرة الماء والهواء، وسأله الفصل بينهما، فقال إن كلاً منكما محق فيما ادعاه، وقد نفع الله بكما العالم فلا تشتغلا بالمفاخرة عن شكر النعم، لأن الفخر أنزل إبليس من الجنة، ووعظهما ؛ ثم فضل الماء على الهواء لأن الله سبحانه خلق آدم من الماء وخلق إبليس من الهواء، وطلب من الهواء أن يعترف لأخيه بالفضل عليه فترك هذا عنجهيته، واعتذر للماء، ودعا كل منهما للعالم المرادي لأنه سلك بهما طريق الحق، فطلبا من الراوي أن يمدح العالم فمدحه بقصيدة طويلة.
ب- مصادرها:
تعد هذه المقامة في مجملها من المقامات التأملية إذ جمعت بين التأمل والواقع، في موضوعين دمج بينهما الأديب بإتقان .
ففي قسمها الأول نرى الراوي يخبرنا أن خياله أدخله إلى روضة بديعة سمع فيها مفاخرة بين الماء والهواء، وكان كل منهما يبدي فضائله على حساب الآخر، أما في قسمها الثاني فيحكي فيه فضائل الممدوح.
وقد اعتمد الأديب في هذه المفاخرة أو المنافرة على ذكر حسنات الشيء وضده، على لسان القائل وخصمه، وهذا يذكرنا بما فعله الجاحظ في رسائله حين فضل الخير على الشر، ثم فضل الشر على الخير، وكذلك فعل في الأبيض والأسود، والديك والكلب .. وهذا الفكر الجدلي يبين عن مقدرة عقلية وعلمية بدت عند الأدباء المثقفين في ذلك العصر.
وقد بدا في معاني هذه المقامة تأثر بالقرآن الكريم والحديث الشريف، وبأقوال الشعراء وأمثال العرب.
فمن اقتباسه منالذكر الحكيم حديثه عن الحق والباطل، )قل جاء الحق وزهق الباطل( والجنة والنار، والدنيا مزرعة الآخرة، وعن إبليس لعنه الله الذي خلقه الله سبحانه من نار، وخلق آدم من طين ممزوج بالماء، وعن إنزال الماء مباركاً وطهوراً ليحيي الله سبحانه به بلدة ميتاً. وعن إهلاك العباد بالهواء أو بالريح ... ومن تأثره بالحديث الشريف والسيرة العطرة قوله أن الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب الحوض الأكبر، وهو الذي إذا مشى ظللته الغمامة، وقد نبعت الماء من بين أصابعه الكريمة معجزة له،…
وقد أورد كثيراً من الشعر العربي ليؤيد به معانيه، وذكر أسماء بعض الشعراء وأعرض عن بعض، وممن ذكرهم: نفسه، وابن الرومي، والمتنبي، وأبو تمام، والقاضي الفاضل، والقاضي عياض، كما ختم المقامة بقصيدة له على غرار ما كان يفعل أصحاب المقامات .
وفي النص مواعظ ومعان دينية كثيرة، من ذلك حديثه عن الدنيا والآخرة، وعن ضرورة عصيان النفس الأمارة بالسوء، الغدارة الغرارة، التي لا تأمر إلا بالشر وهي عروس إبليس، ومصدر التدليس وهي سبب الهلاك والعداوة، وقد استكبرت عن تلبية نداء الله سبحانه لها فأجاعها فتذللت له، كما نصح بصلة الجار أو الصاحب في المهنة، وحذر من الفخر، وبين أنه سبب هلاك إبليس، ودعا إلى التواضع وإلى شكر نعم الله سبحانه والخوف من بطشه.
والمؤلف متأثر بالفكر الصوفي السائد في عصره، فالرسول r برأيه (الجوهر الفرد الذي منه عرض العالم)، وهذه الفكرة جاءت من المتصوفة الذين يزعمون أنه لولا الرسول r لما كان هناك أرض ولا سماء ولا جنة ولا نار وأنه انبثق منه العالم فهو أصل الوجود .
وهناك حِكَم وأمثال متناثرة كقوله لا يَروجُ الدرهمُ المغشوش، وإن أحكموا فيه أنواع النقوش، وقوله "ولا ينبئك مثل خبير"، و"الزنبور غير البازي وإن شاركه في الخفق والطيران"، و"أشد ندماً من الكسعي".
ومن التأثر بالإرشادات التاريخية حديثه عن نصرة الله سبحانه يوم الخندق بالعاصفة الهوجاء ، وإشارته إلى قصر الخورنق الذي شبه به قصر الممدوح العمادي ، وذكره لقصة ملك الروم الذي أرسل إليه ابن عباس قارورة فيها ماء، وكان ملك الروم قد أرسل إليه أن يضع في القارورة كل شيء، فوضع فيها ماء، لأن حياة كل شيء ترتبط به.
وهناك مصطلحات بلاغية وأدبية ، وذكر لأسماء الأدباء على سبيل التشبيه بهم كقوله" وتراهم الكاملين في الأدب والعمدة في كل مطلب"، إشارة إلى كتاب الكامل للمبرد، والعمدة لابن رشيق القيرواني.
ومن العادات الاجتماعية أن القادم الغريب يبقى في ضيافة من يأتيه ولا يسأله عن حاجته إلا بعد أن يكرم ويبيت، ثم يعرض عليه أمره وأن القهوة والتبغ مما يكرم به الضيف.
وهناك إرشادات علمية كحديثه عن الرطوبة والجوهر الفرد وهو الممدوح برأيه، وعن عنصري التراب والماء، ورفع فلك الهواء وتأليف الهواء بين السحاب، وأن الماء إذا طال مكثه فسد، وحديثه عن اللآلئ في الأصداف، والماء سيد العناصر.
كما توجد قضايا نحوية كحديثه عن انقلاب واو مَوَه إلى ألف لتصير ماء، بينما بقيت واو هَوَي فصارت هواء.
ج- منهج المقامة:
بدأت المقامة بحمد الله سبحانه خالق العناصر كلها، وبالصلاة على الرسول r سيد العلماء، وهذه المقدمة مناسبة للفكرة لأن الكاتب سيتحدث عن عنصري الهواء والماء، وعن تحكيم العالم الجليل عبد الرحمن العمادي بينهما لفضله وشهرته وانتقلت بعد ذلك بكلمة "أما بعد" إلى المضمون وبذلك شابهت الرسالة الأدبية ، خلافاً للمقامات الآخر التي تأتي على شكل رواية حدّث بها واحد عن آخر .
وقد جنحت المقامة في العرض إلى الأسلوب القصصي، إذ جرد الكاتب من نفسه شخصاً وهو فكره و خياله، فأدخله إلى روضة بهجة ، فسمع فيها المحاورة، وقدم كلّ من الهواء والماء مافيه دليل على فضله، ثم احتكما إليه، فأخذهما إلى عالم أفضل منه هو الممدوح العمادي.
وانتهت المقامة بالثناء عليه في قصيدة طويلة.
د- أسلوب المقامة:
جاءت هذه المقامة كأخواتها بأسلوب مسجوع، قلّ فيه اللفظ الغريب وإن وجد منه نحو (الدآدئ "المظلمة الشديدة"، والحُجُنّة "الاعوجاج أو ما خصصت به نفسك" المجسَّة: الصدر، والمخاشنة "أي السب والشتم").
وكثر فيها أيضاً المحسنات اللفظية والمعنوية كالطباق والجناس في قوله "وأعربت وهي عجماء بفنون تمايلت لها قدود الأفنان" فقد طابق بين الإعراب والعجم، وجانس بين فنون وأفنان. وكذلك طابق بين الحق والباطل، وجانس جناساً اشتقاقياً بين يحجب وحجاب "شمس الحق لا يحجبها حجاب الباطل" والطباق في قوله "وهيهات تكتم في الظلام مشاعل" ومن الازدواج الجميل قوله: فلما سمع الماء ما قلناه ...تموج وتأود، ورغا وأزبد، وجرى واضطرب، وعبس بعد القهقهة وقطب...
ومن السجع المقبول قوله عن النفس "وهي عروس إبليس، ومصدر أفعال التدليس والتلبيس، أعدى العدى، وسبب الردى، قال لها الحق أقبلي فأدبرت، وأعرضت عن جانبه واستكبرت، حتى ألقاها في الجوع، وألجأها إلى الذل والخضوع" .
فهنا نرى السجع في إبليس، تلبيس، والعدى والردى، وفيهما أيضاً ازدواج جميل، ثم هناك سجع بين فأدبرت واستكبرت، وبين الجوع والخضوع .
ولكن بعض السجع جاء خشناً متكلفاً على نحو قوله "يحب المحاسنة ويكره المخاشنة ، ويحاشي مجلسه من المحاشنة" .
وقد لجأ الكاتب إلى الأسلوب الإنشائي تارة ليجذب الانتباه إلى الفكرة كقوله "أما رأيت ماحباني الله به من عظيم المنة، حيث جعلني الله نهراً من أنهار الجنة ؟"
فهذا الاستفهام التقريري يشيد به الماء بعظمته وينبه الهواء إليها. وكذلك في قوله "أما علمت أن مني حوض … أما تيقنت أنني نبعت من بين أصابعه …"
والمقامة مليئة بالتصوير الفني صوراً جزئية ومشاهد، ففكر الأديب إنسان أدخله الروضة، والنسيم امرؤ يسأل، ويدلي بآرائه ويفتخر (على سبيل الاستعارات)، وكذلك النفس تعصي، وتقهر، ويحذر مكرها، على سبيل الاستعارات، والورود عرائس تسفر عن لثامها، وتقدم الخمر في كؤوسها، وجواري الماء ترقص (استعارة مكنية)، والفجر يعطس، والظلام يدب (استعارة)، والنعاس يسكر (استعارة) والنفس عروس إبليس (تشبيه) والدنيا تمر مع السكون كالظل مرّ السحاب (تشبيه تمثيلي)، وهي شراب بل آلة وسراب (تشبيهات) والكرى ملك يهجم (تشبيه).
وهناك مشهد خيالي بين الماء والهواء وهما يدليان بحججهما، ومشهدهما مع العالم الممدوح والهواء يعتذر للماء، ومشهد واقعي يمثل مجلس العمادي مع ضيوفه والقهوة بنت الحلال تدار، والكاتب يصف جناب مولانا: (كناية عن نسبة) .
وهذا مشهد من مشاهد الطبيعة وهي تستقبل زائرها الكاتب: "فإن الفكر والخيال دخلا بي إلى رياض ضاع زهرها ، فنمّ عليه النسيم، ودار عليه الماء الزلال، أكلها دائم وظلها ... ، فتلقتنا عوديات طيورها بالصدح، ومجامر كمائم ورودها بالنفح... وأدارت علينا سلافَ طلها كؤوسُ الزهر، قبل أن ترشفه شمس البكور، وحيتنا راحة الراحة والسرور، بأصابع المنثور، وغنت لنا مطوّقات شواديها على العيدان ..."، فهنا نرى الكاتب يشخص خياله فيجعله إنسانا يدخل، والروضة قد فاح عطر زهورها، والنهر ذو المياه العذبة يدور عليه. والأكل والظل دائمان، وهذا الوصف مقتبس من تصوير الجنة في القرآن الكريم، والطيور تصدح بأعواد، والورد كالبخور في مجمرته ينفخ بالعطر، والزهر يهديهم الندى كما تهدى الخمر في الكؤوس والحمائم تشدو".
ففي هذا المشهد الجميل نرى عدة استعارات أجاد الأديب عرضها ولم يؤثر السجع في جماليتها.
وهذا مشهد آخر يصف فيه القهوة التي كانت تدار عليهم في المجلس:
(ثم أمر لنا بالجلوس، فأقبلت علينا ذات الدولة وبنت الوجاق ..السمراء المعشوقة، المقبولة مشروبة ومرئية ومنشوقة، بنت اليَمن واليُمْن ، ذات الجمال والحسن :
كسواد العيون تظهر للنا س سواداً وفي الحقيقة نور
التي أرخصت الغالية وكانت ندها، وملكت عنبر الطيب فأصبح يقول لا تدعني إلا بيا عبدها، وغارت بكر السلاف حتى اصفرت من غيرتها، وأصبحت عجوزاً شمطاء، ما رآها راءٍ إلا وقد طاب وجهه من قباحة صفرتها، وأين بنت الحرام من بنت الحلال، وأين جونة المسك من قوارير الأبوال ، فأخذنا تلك البُنَيّة بالنية الصافية، وشربناها ، فقامت بها دعائم العافية).
فالقهوة هنا فتاة يمنية (إشارة إلى مصدر البن في اليمن) حسناء، ذات نكهة وريح لذيذين والخمرة تغار منها حتى يصفر وجهها وتبدو عجوزاً شمطاء. والرائي لها يشمت منها لأنها بنت حرام، والأولى بنت حلال، والقهوة رائحتها مسكية، وتلك كالبول، وقد شرب الراوي من القهوة مع صحبه بنية صافية فأحسوا بالنشاط.
إنه تصوير جميل يجعلني أقول: إن الإعراض عن آداب هذا العصر بسبب سجعه وتكلف بعضه خطأ جسيم نقوم به , وعلينا النظر فيه للإفادة من جمالياته ، وترك ما فيه تكلف غير مقبول.
([1] محمد بن محرز زكي الدين الوهراني ( 575هـ) أصله من وهران في الجزائر ، له مؤلفات كثيرة منها المنامات : الأعلام 7/ 19 .
([2] ) حمد بن محمد المعروف بابن الهبارية (ت509هـ)، شاعر عباسي من بغداد ، له أراجيز في ألفي بيت على طريقة كليلة ودمنة ، كما نظم حي بن يقظان : الأعلام 7/ 23
([3] ) محمد بن عبدوس الجهشياري(ت331هـ) ،مؤرخ ، وولي إمارة الحج ، له مؤلفات كثيرة : الأعلام 6/256
([4]) وردت مفاخرة العلوم للقلقشندي عند الحديث عن الرسائل الأدبية، ويصرحالقلقشندي أنها من الرسائل ، وكذلك الصفدي في كتابه أعيان العصر يعد أمثالها من الرسائل الأدبية كقوله: "ومن إنشاء القاضي علاء الدين رحمة الله تعالى رسالةٌ في المفاخرة بين الرمح والسيف وهي…" ينظر ج3/493 .
([5]) أرى أن ما اتخذ نهج المقامة يعد مقامة، أما ما سوى ذلك فلا يعد منها، إلا إن صرح مؤلفها أنه يكتب مقامة، فإني أعدها كذلك، وإن شابهت المفاخرة، وذلك لأبين سمات مقامات العصر كما أوردها مؤلفوها.
([6] ) أحمد بن يحيى شهاب الدين التلمساني المعروف بابن حجلة ،(725-776هـ) شاعر من تلمسان سكن دمشق ، له مؤلفات وديوان شعر : الأعلام 1/268
([7] ) عمر بن مظفر بن الوردي (ت749هـ) شاعر وفقيه ومؤرخ من حلب أعيان العصر 3/677 ، والأعلام 5/67
([8] ) شمس الدين محمد القواس الحلبي (ت886هـ) له مقامات سماها على أسماء البلدان : فن المقامات بين المشرق والمغرب /249 ، ولمقاماته ص 252 .
([9]) ناصيف اليازجي لبناني (1214-1287هـ ) أديب له حوالي عشرين كتاباً، وديوان شعر ، ينظر:معجم المؤلفين 4/10، والأعلام 7/350
([10]) فنون النثر في الأدب العثماني المقامة القصة الرسالة، ص/14 .
([11]) محمد بن إبراهيم المويلحي (1275-1348) كاتب مصري ولد في القاهرة له كتاب في المقالات سماه حديث عيسى بن هشام طبع (1906) ، وله مقالات في الصحف المصرية ينظر:الأعلام 5/305 .
([12]) البندق: ج بندقة، وهي كرة صغيرة مدورة من طين أو معدن يرمى بها، وتستعمل في الصيد غالباً، وقد ذكر د.عمر موسى باشا أن (رمي البندق هذه) هي المقامة الطردية التي ألفها ابن حبيب الحلبي، ينظر لذلك: العصر المملوكي ص453 .
([13]) الخُطة: شبه القصة أو القضية. وكأنه يريد القضية المشتملة على خصومة أو خلاف، أو الأمر المشكل.
([14]) من الآية 60 من سورة الأنفال.
([15]) من قول المتنبي في ديوانه 2/7 :
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمرّ به الوحول
([16]) الأنق: الإعجاب بالشيء ، وروضة أنيق ، محبوبة ، لسان العرب مادة أنق .
والملق الصفوح :اللينة الملتزقة من الجبل ، واحدتها ملقة ، والملق : ما استوى من الأرض : لسان العرب مادة ملق .
([17]) الذَّرى : بفتح الذال:الكِن ، وما كنَّك من الريح الباردة من حائط أو شجر ، ومنه تذرى بالحائط وغيره من الريح والبرد : لسان العرب مادة ذرى .
([18]) الفيالق: جمع فَيْلق: الكتائب العظيمة : لسان العرب مادة فلق .
([19]) الوجْه: الجهة : لسان العرب مادة وجه .
([20]) الجُفَّة: الجماعة من الناس : لسان العرب مادة جفف .
([21]) الجُنوك: جمع جنك وهو آلة من آلات الطرب : لسان العرب مادة جنك ، أو هو عود ذو رقبة طويلة، ويسمى أيضاً الطنبور: المعجم الوجيز مادة جنك ص 121.
([22]) التِمّ، هنا: طائر يشبه الإوز، واليقق: الأبيض الشديد البياضك لسان العرب مادة يقق .
([23]) السَّبج: الخرز الأسود : لسان العرب مادة سبج.
([24]) ما سهر الليلَ رماةُ البندق: ما مصدرية زمانية، أي مدة سهرهم والنص من كتاب نسيم الصبا /115 .
([25]) هناك مقامات تروى عن إنسان آخر كمقامة "عتاب الزمان" لشهاب الدين الخفاجي، إذ يحكيها عن النعمان بن ماء السماء عن شقيق، وتبدأ على غرار مقامات الحريري والهمذاني بقوله "أنبأنا النعمان بن ماء السماء عن شقيق، وقد نظمني وإياه سلك المحجة بوادي العقيق، قال: خرجت…." ينظر لها في ريحانة الألبا 2/341 .
([26]) تشبيه هو تعدد المشبه به: علوم البلاغة للمراغي ص201 .
([27]) شهاب الدين أحمد البربير أبو العباس (ت1260هـ) قاضٍ وأديب من بيروت، له مقامات عديدة: حلية البشر 1/217-218، والنص في ص218 ، كما ترجم له كتاب علماء دمشق في القرن الثالث عشر الهجري 1/233
([28] ) عبد الرحمن بن محمد العمادي المرادي شاعر ومفتي دمشق ، له مؤلفات في الفقه والتفسير وغيرهما :الأعلام 3/332 .
([29]) حيّا وبيّا الأولى بمعنى التحية والثانية للإتباع .
([30]) تنظر قصة إرسال ملك الروم قارورة ورد ابن عباس لها في كتاب الكامل للمبرد ، ج1، ص350 .
([31]) عذيق الشام المرجب : العذيق ، كل غصن له شعب ، والنخلة . والمرجب : إرفاد النخلة الطويلة لئلا تقع ، يقصد بقوة عشيرته التي تسانده : لسان العرب مادة رجب
([32]) الدآدئ: الدأداء : آخر أيام الشهر : لسان العرب مادة دأدأ
([33]) الشنان:الخَلَق من كل آنية صنعت من جلد ، والمفرد شن : لسان العرب مادة شنن .
([34] ) الذكر من الحديد : أشده وأجوده ، وبذذلك يسمى السيف والفأس ونحوه ، لسان العرب مادة ذكر .
([35]) ينوس : من النوس ، وهو تذبذب الشيء ، وينوس : يتحرك ويتذبذب متدليا : لسان العرب مادة نوس .
([36]) الغالية : نوع من الطيب مركب من مسك وعنبر وعود ودهن : لسان العرب مادة غلا .
([37]) منغضمن نغض رأسه : إذا تحرك واضطرب ورجف : لسان العرب مادة نغض
([38])تنضض تقلق ولا تثبت : اللسان نضض ، و المقامة في حلية البشر 1/218-237، والقصيدة طويلة وقد أعرضت عنها لأن الغاية هي النثر لا الشعر.
وسوم: العدد 674