قراءة بعنوان (استقراء مكاني" انتمائي" لزمنية حالمة) في نصوص الشاعرة التونسية ماجده الظاهري

 ماجده الظاهري نفحة تونسية وعبق شعري آت من بلاد قرطاج، تسعى الى مزج الواقع العياني التراب بالوقت والحلم، من اجل اثراء شعري وفكري، عبر استمرارية وصيرورة ذات قيمة انتمائية فذة، حيث تبيح لروحها، لرؤاها ورؤياها، ان تنطلق بلا قيد لتؤثث لعوالم بعيدة، باحثة من خلالها عن ممرات دلالية وصورية ومديات بلاغية روحية لكونها الشعري اللامحدود، وخالقة عبر توظيفاتها متعة دلالية، ولذة تصويرية حركية، لتمارس فعلتها الكينونية الابداعية، حالمة بولادة جديدة في رحم الشعر.

اكثر ما يسترعي النظر في اعمال الشاعرة ماجده الظاهري مفرداتها وجملها الناصعة الناضرة الصافية والمجدولة من عمق الذات الشاعرة والبيئة التي تحاول الشاعرة ان تستوعبها ضمن اطار ذهني تصويري ملتحف بالحداثة الشعرية، وبثقة شاعرة متمكنة من لغتها، تحاول ان تنفرد بطرائقها في التعبير الموفي بأغراض الشعر الواعي.

 

هذه هي ماجده الظاهري في اعمالها تطلع علينا برؤيتها ورؤياها المحملة بعبق الانتماء المكاني، مستقطرة من نبع يعاني جراء ركود وتراجع مستمر، يهدد بالسقوط، سقوط بدوره يحيل الرغبات الى ركام، فتصير في دوامة لانهاية لها، وعلى الرغم من انها تحاول ان تعبر عبر حركية دالة عن محاولات تجنب السقوط، الا ان الواقع في الكثير من الاحيان يفرض نفسه كرقم صعب في معادلة اصعب:

يرفع وطنا مهددا بالسقـوط

حين ينزلها..

ينفض عنـه أنين الفصول

يفتح أبـواب مرافئ الترحال

انه الوطن فحتى عندما يتجنب السقوط نجده يفتح باب الترحال، حيث لامكان لتلك الرغبات، حيث لاجدوى منها، فركوده دائما يخلق للرغبات قضبان، والرغبات بطبعها جامحة، لذا نجدها تؤثث لعوالم الترحال:

يرحل طائر الندى

مقتفيا أثر الوطن

حيث القصيد

لم يكتمل..!

 

ثيمة الاغتراب الذاتي تبرز هنا بصورة واضحة، فكأن تاك الذات المتعطشة للوطن، لاتجد مبتغاها وهي بين احضان الوطن نفسه، فتبحث وتحاول ان تخلق في منفاها وطناً اخراً، لتعود به:

طائر الندى

محملا وطنا

هذا الوطن الذي تحمله الشاعرة في كينونتها، يختلف عن الاوطان العادية، فيه اشتعالات، فيه البحر له لون خاص، فيه حتى العشق له سماء اخرى، لذا فهو وطن تخرج الذات الشاعرة من وراء القضبان وتنتقيها لتسكنها التراب:

تشعل البحر

تنتقيك عاشقا

يسكن وجع التراب

ولكنها الذات الشاعرة، ولكنه حب الوطن، الايكتفي بمجرد ان يسكن التراب، ويحيل العشق سماء، ويشعل البحر، انها تبحث عن رياض واروح صوفية تتحد بالممكن:

تهادى رياض

إلى روض روضك

يصحبك عطر الزهر

هكذا تحاول الشاعرة ان تستكمل رؤاها حول الوطن، لتمارس بعدها دورها كفرد داخل اسوار الوطن، وضمن جغرافية اكثر تحديداً المدينة، فتطلق لامانيها العنان لتعانق سماوات ابعد.

عطر المدينة.. أورق فينا

أمنيات عانقتنا

وتستمر الاماني هنا، لتنتصب، على الرغم من اصطدامها بالركود الحاصل منذ البدء في جسد الوطن والمدينة:

انتصبت

في قلب المدينة النابض

وقلبها لا يدور

 

لكنها مع ذلك تؤثث لعالم سيأتي حيث للروح للذكريات، عبق خاص، لاسيما وان الذات الشاعرة حفرت منذ البدء عميقاً من اجل ان تصل بنا الى هذه النقطة الدالة انتمائياً ومكانياً وجغرافياً  :

 

لروح ذاكرتي

بلاد.. ترتحل لبلاد

ومن القيروان

رأيت الطريق للأشعار

تشع النجوم قصائد،

القيروان تلك المدينة النابضة في الشاعرة، والملهمة والتي افاضت عليها هذه الرؤى، الخالقة لجمالية فنية تعطي نصوص ماجده الظاهري قيمة دلالية وصورية فذة، وتصدمنا بما يكمن في محتواها من التياعات ورغبات انتمائية، حتى أنها سمت احدى قصائدها الرائعة  " القيروان ".

 تنتقل الشاعرة ماجدة الظاهري برؤيتها ورؤاها صوب افاق الزمن والحلم، لتمزجها معاً من اجل رسم الصورة النهائية للانتمائية الروحية الذاتية، بحيث تتجلى في اعمالها قيمة الزمنية كعنصر ومرتكز اساسي لاستكمال تلك الرؤية والرؤى، وهذا ما يمنح تلك النصوص مساحات اوسع مما تبدو عليه، كما ان ذلك يعطيها خاصية الفعالية الديناميكية التي لايمكن تأطيرها ضمن حدود زمنية واحدة، فالزمن على الرغم من كونه خارج عن ارادة الذات الشاعرة، الا انها تمارس رؤاها ضمن اركانه الغير محددة:

هـذا المدجج بالقلق

يلهو بحبل أرجوحة

يديرها في ركـن من حانـة الوقت

 وعلى الرغم من الارباك الحاصل في بنية الوقت لدى الشاعرة الا انها تنطلق من هذه النقطة لتعانق تفاصيل زمنية اخرى اكثر اتصالاً وعمقاً بالوعي الذاتي والشعري، حيث يتم توظيف الوقت  كأداة استرجاعية محمل بالكثير من الاماني التي تحفر في امكانية التغيير وامكانية العودة، مع الوعي التام بأن الوقت نفسه ليس متاحاً كما ترغب الذات الشاعرة:

ما انطفات الروح

مازالت الوردة ترتعد

ما فكت كل الألغاز

بعد تخاتل الوقت

حين يسرقها

تخاتل الوقت..

حين تسرقه

حتى يعود

 هو الحلم بالعودة، تلك العودة التي تحقق للذات الشاعرة السكينة، لكونها ترتعد من الواقع العياني بكل تفاصيله، فلولا رغبة العودة والانبعاث من جديد ما كانت تلك الذات ترتعد، لكنها الاماني المحملة بالكثير من الرؤى تعمل على خلق تلك المساحة الواعية من اجل الانبعاث:

حث إليها الخطى

تشتت ظلك في المرايا

بعد قليل

تنتثر البقايا

بعد قليل

تنشطر نصفين

نصفاً يمتد عمراً

بين وجهك والقمر

نصفا ينسكب

في مآقيها مطرا

 هنا تحتال علينا الشاعرة برؤاها النابعة من فيض زمني آت، غير متسقر، مربك حتى في بنية الشعرية، لكنها رؤى تخلق لذة الانتظار لدينا، وتخلق قيمة الانبعاث من التصوير البلاغي الذي ختمت به مقطعها الشعري، الانشطار الحال هنا، الى العمر الرقم الذاتي للمعادلة الزمنية، والمطر الحصيلة التعبيرية للانبعاث تعطينا رؤية واضحة حول امكانيات الشاعرة في توظيف معجمها الدلالي الصوري وفق معطيات شعرية ديناميكية فائقة.

 ومع ان الشاعرة قامت بتوظيف الفعل الزمني في الكثير من نصوصها على اسس تشاؤمية الا انها ترصد الكائن الذاتي داخل النفس، وتحاول سطر رؤاه وفق تدفق شعري عفوي، لذا نجدها ترصد تلك الحركية بدقة لامتناهية:

ذات عيد

تنصل منه الفرح

إلا من زغاريد

الـ... موت

وتضيف في موضع اخر:

أم وجهها

وشى باحتراق الفصول..!

 وتستمر في ديمومتها اليأسية الحزينة النابعة من صميم الذات الشاعرة، الملتحملة بالروح الصوفية النقية لترصد لنا مواطن اخرى تفيض علينا بتلك الزمنية القابعة في عمق اليأس:

لا تذكرة سفر أومات

عن موعد للرحيل

لا تأشيرة عبور أسرّت

عن مثوىً ينتقيك

 

ولاتبقى الروح خاضعة هكذا للنهاية فالاماني دائما تعانق مساحات ابعد وشاعرتنا لاتدع منفذاً لامانيها الا وترتاده، لتخرج الروح من دوامتها اليائسة تلك:

قلت:

ثبتني نخلة

تكتحل أهدابها

بصباحات

أحلى الكلام

وكأنها تنتفض على كينونتها، وتحاول ان تستمد قوتها من الكائن المكمل لتعانق افاق ابعد لكنها تصطدم بالزمن والواقع فتعود لتلعن الزمن:

كلما مر بها

رفع عينيه إليها

أنزل عينيه إلى ساعته،

ثم لعن الزمن.

وتستمر لغتها المطعونة بالزمن، ورغبتها في الاقتصاص من الزمن، حتى انها تكتب قصيدة بعنوان" الساعة "، وكأن الزمن وحده هو العائق امام التغيير وامام الحلم بالعودة، وامام خروج الوطن مما هو عليه، فنجد نصها مؤثث للحفر في مكامن الزمن الماضي، الحاضر، الاتي:

"وقفا.. بين رياح الصباحات

جلسا.. بين رياح المساءات

وتمددا على ناصية الوقت"

"تمعنت في الساعة

أجئت قبل الوقت..؟

قالت:

أو بعد الوقت..

ليس الزمان زماني،

ليس المكان مكاني،"

 وعلى هذه الشاكلة تؤثث شاعرتنا لعوالمها الزمنية، محاولة ان تعطينا صورة واضحة حول رؤيتها العميقة تجاه الحركية الحاصلة في كينونة الوجود، ومن ثم محاولة رصدها وفق رؤاها ورؤياها الذاتية، لتنقلنا عبر وترياتها الممشوقة صوب الحلم:

وتاه عندي في اتجاه

أبواب الأمس حنيني

وإن تبعثرت

على أبواب القيروان

أحلامي

الشاعرة تمتلك حلماً تسعى إلى تثبيت رؤاها من خلاله، تلك الرؤى التي تكون عندها العنصر الذي يمتد مع حلمها إلى الزمن وفق ذائقة الحلم نفسه، حيث تتحول لديها هذا الحلم العلامة الأولى لكل أحلامها الاخرى المنقادة إلى رؤاها الفكرية التي عن طريقها يمتد لترسيم الاستعارة لكل الأشياء الموجودة في جوانيتها، وتحدث الاستعارة من خلال إحداث انزياح في ترتيب احلامها حسب رؤاها بانسيابية شفافة مع الاحتفاظ بالعمق لكل الموجودات التي ترمز  للذات الشاعرة، لكونه حلم يحاكي واقعها الذي بات شغلها الشاغل، حيث العودة والاماني بواقع متغير افضل:

رفـع مواويلها صوب الصدى

سنرجع يوما..

سنرجع يوما الى حلمنا

ليس الرجوع الى واقع افضل وحده كان ما يشغل شاعرتنا، بل حتى الرجوع الى الحلم نفسه كان امراً غير ممكناً، لذا نراه تؤكد مرات ومرات على حلم العودة:

حتى يعود

طائر الندى

محملا وطنا

محملا حلما

ينطوي بين بتلتين

هذه الاستعارة التي تحقق رؤاها على مستويات متعددة "الانتمائي والزمني والحلمي" تجعلنا امام حقائق واضحة بأن الذات الشاعرة تعاني الاستلاب والفقد والحرمان والاغتراب النفسي، لذا نجدها تسترسل" لتسترسل في حلمها وردة عاشقة.." وتتحول من عموم الحلم الى جزئيات وحيثيات تمكنها من حزم امورها وتصوير رؤاها ببلاغة ودلالات تفضي الى الواقع العياني بمشهدية حركية مؤثرة:

لك أن تأتي

كما الرياحين

تراود الحلم على الحلم

الخروج من دائرة الواقع الى دائرة الحلم التخيلي وجعل الحلم نفسه يرواد الحلم امر يثير الدهشة من جهة ويعطي انطباعات حول ماهية الذات الشاعرة والحالة التي وصلت اليها:

يسترد الصدى ما يقول

وما يبقى من الحلم

الا القليل.. القليل

فكأن الذات النفس تعيش في دوامتها الاولى التي لانهاية لها، فالوطن والزمن والحلم قضبان تعيد اليها صداها، دون حراك يمكن ان تنقذها من تيهها:

حلما محضورا

تتنازعه حبال الصوت

تروعه نار الرغبات

تلك هي الحال التي رست عليها الشاعرة، وكأني بها تنازل ذاتها في البقاء، فالحلم والرغبات صورت بدلالات متوحشة، ولعل استمرار ذلك التوحش الدلالي اثر على مسار الرؤى لديها:

على أوتار الرمش

فتدق العينان أوتادا

في الحلم

تصير فراشة

في أريج الكلمات

 حيث نراها تمزج مع ذلك التوحش الدلالي كلمات تخرجها من دائرة التوجس الحلمي، لتتعلق برباط الكلمات واريجها، فيمتد حلمها الى اقاصي بعيدة يساعدها مخيلتها البارعة في الالتقاط، لتصور الواقع الحلمي مشهداً درامياً رائعاً:

وتمددا على ناصية الوقت

استغرقا في حلم

الزمن القادم.

 ومن هذه النقطة تبدأ الاحلام تتحول الى مسارات اخرى اكثر اغراقاً في تمفصلات الذات الشاعرة، ونراها ترصد الحالة النفسية بصورة اكثر دقة واكثر عمق، بحيث نلامس تحولاً حتى في الرؤى ومساراتها وهدوءً نفسياً حلمياً واضحاً على الرغم من نزوح الحلم روحاً تصعد الى الاعلى:

صوبت حلمها

نحو المنارة

ارتجفت ضلوعها

ارتفعت أنفاسها

غيما

 وعلى هذه الشاكلة يبدأ حلم شاعرتنا بالاستغراق في التفاصيل الجوانية التي ترصد حالتها النابعة من صلب انتمائها وزمنيتها، بحيث يتحول الحلم الى ناطق باسمها، ومعلن عن جوانيتها:

نام البحر

وفي حوضه حلمها

قالت:

ما الضرّ

لو استدار قليلاً

 تلك احدى الصور الناجمة من ذلك الاتحاد الحلمي الجواني بالبراني، حيث تلتقط من خلال حركية البراني هذا الامتداد الدلالي لتعبر بعفوية وبمشهدية صورية احدى تلك الالتقاطات، مظهرة معها رؤيتها الفاحصة عن مدايات الحلم نفسه، بل يمتد ذلك في جوانيتها الى تساؤلات تثير في نفس الوقت زوبعة داخلية جوانية حول مدايات الحلم وهذا ما جعلها تكتب قصيدة بعنوان " إلى أي مدى يمتد الحلم " وعلى الرغم من الاسترسال الحاصل في بنية النص ونزوحه نحو التقريرية احياناً الا ان القصيدة رسمت الملامح الجوانية للحلم وارتباطه الوثيق بمخيلة الشاعرة  حتى تحول الحلم الى منولوج داخلي بين الذاتين:

"لك قلبي متسلِّلاً

من حراس حلمه،

لك حنيني منتشيا

بوميض البرق في الصدر"

"لي رحيق الحلم نقيا

مثبتا جناحيه في السماء"

وبذلك يتعدد مدلول الحلم في نصوص ماجدة ، فقد يرمز بها إلى الواقع أو إلى الشعر أو النفس، او اليه هو الاخر، ونلاحظ براعة ماجدة الظاهري في نسج قصائدها في رداء يتسم بمسحة قصصية تتجلى في أسلوبها الحكائي والحواري، كما تتمي نصوصها بتنوع الدّوال وتعدد المدلولات حتى نكتشف في نهاية النصوص المعنى المركزي المراد من ثلاثية الانتماء والزمن والحلم.

وسوم: العدد 675