رواية "معيوف" بين الفصام والاكتئاب
إذا ما كانت الرّواية تستدعيك وتلح على قراءتك النقديّة لها، فذاك يعني أنها جد مؤثّرة، معبّرة، مصوّرة وآسرة لمُتلقّيها القارئ. كما أنك حقًا استمتعت بواقعيّة وعمق أسرار مضمونها، وحُسن آليات شكلها ولغتها، فتتولّد لديك رغبة أكيدة للغوص في أغوار دلالاتها، وسبر طيّات رموزها الدّفينة، وتكون متعطّشا لاستكشاف هذا المنتوج الفكري والإنساني. لن ننسى مقولة الجاحظ بأنَّ الأفكار كلّها موجودة في الطّرقات، لكن الأديب المقدسيّ "عبد الله دعيس" كان متميّزا في سبكها بذوقه، ووضعها في قالب تهوي بها القلوب جمالا وبلاغة. فبعد روايته "لفْح الغربة"، إستمرّتْ الأفكار تعلو قلم أديبنا لتستقطبها أوراق رواية جديدة، تلثم حروفها، تتعانق وكلماتها، وتُعطّرها لنا روحه الغنيّة. فكانت "معْيوف" رواية صادرة عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، والتي تقع في 388 صفحة من الحجم المتوسّط، ويحمل غلافها لوحة الفنّانة التّشكيليّة "جيهان أبو ارميلة".
سأدخل مباشرة من العتبة العجيبة التي تفتح الباب على مصراعيه وتجعل المرور يسيرا إلى سرداب هذه القراءة. إنه العنوان "معْيوف" منارة في شط بحر القارئ، وطُعم متمكّن جاذب له، فيأسره للاهتمام كليّا. هكذا لقّبته أمه، ويعني أنْ يعافه النّاس ولا يقتربون منه خوفا عليه من الحسد. وقد وُظِّفَ لشخص "رضوان الشيخ" المصابة باضطراب الإرادة والتّحكم بين الذّات وبين العالم. شخصيّة تنتابها صراعات فِكريّة، دائمة التّعاسة، تعيش بين المثاليّة والعجز، وذلك من عمر المهد إلى اللّحد في حكايات متتالية، تتصدّع لها القلوب شفقة ورحمة. صفعته الحياة، وتنقّلت بجسده وما يحمل من هموم لا طائل لها، فجابت به بلدان وشعوب، تارة يهتدي إلى سبيله، وتارات أخرى تسرقه أفكاره المتضاربة العجيبة، أو تهوي به إلى أسفل سافلين ودربَ مَن مسّهم الجنون، ولحست عقولهم الخيانة العربيّة، وسذاجة وتخاذل الكثيرين من شعبه.
إنَّ زمان النّص يُعَدُّ كتوأم للمكان، وإن كنّا نُدرك بالعقل ونلمس آثاره، فقد حدثت هذه الوقائع في نهاية العهد العثماني الظالم وبداية الإنتداب البريطاني الأشدُّ ظُلمًا على فلسطين. أمّا السّارد هنا فيوظِّف تقنية استرجاع ما حدث في رواية اجتماعيّة سياسيّة، ظهر فيها الزّمان والمكان منسجمين، وقد خدما بقوّة الحكي والمعاني والدلالة. كانت نشأة "رضوان المعيوف" في قرية "بيت حنينا" الواقعة شمال غربي مدينة القدس في مجتمع يؤمن بالخرافات والخزعبلات وقادة الشّعوذة والدّجل، والتي بدورها أثّرت على مسار حياته. أُجبرَ على الزّواج المُبكّر فكان له ولدان، إلاّ أنه ترك القرية هاربا لوحده دون سابق إنذار، مخلّفا وراءه كل ما يملك. هنا سطّر الكاتب من خلال روايته تفاصيل آلام رجل مُشرّد، يدّعي الجنون، مهمّش، يئنُّ شجنا ورفضا من المجتمع، وعزلة تتبعها لعنة قاتلة. توغّلَ "المعْيوف" في الحياة، وخاض تجارب تعرّف فيها على أماكن ورجال ونساء، أحبَّ وعشقَ وسار في خطّين متوازيين، قدمٌ في الجنّة وأخرى في النّار. والكاتب يبرز لنا جليّا مدى احتدام الصّراع الدّاخلي لدى بطلنا، وتوالي أزمات النّفس المعذّبة، إذ يعاني أمرّ الأوضاع الإجتماعيّة والنّفسيّة.
عاش "رضوان" حياة متناقضة جدا، فأحيانا يكون ذلك الثائر المغوار الذي يحيا طريق الإيمان واليقين، وأحيانا أخرى ينهزم أمام المغريات والشّهوات. ويبقى عنده حساب النّفس من أصعب مشاق الحياة، فيدخل في اكتئاب مصيريّ يخرجه عن وعيه. التردد داخل شخصيّته تقوده إلى حيث لا يشاء، كما أنها تثير الغضب، وتوقد نيران الحيرة داخل القارئ. الكاتب "دعيس" لم يتوانَ في تبيان ذكاء رضوان، فهو مَن عرف عدوّه "يعقوب صموئيل النّجار" اليهودي الأصل الملقب بأبي حمار، الذي كان بائعا متجوّلا في قريته، لكنه كان يشتري الأراضي هناك لتكون بعد ذلك مستوطنات صهيونيّة! كان يرى الحقيقة بعينيه ويعلمها، وبإمكانه أنْ يغيّر مجرى الأوضاع والأحداث. أمّا أصابعه المرتجفة، فقد منعته من الضّغط على الزناد في أكثر الأوقات حاجة، ولسانه الذي ينعقد عن الكلام في أحرج المواقف خطورة، وأفكار وهميّة تباغته وتتغلّب على ما يضمره قلبه من نوايا طيّبة. بيدَ أنَّ امتهان الصّمت عنده كمن يعترف بجرم لم يقترفه، وبالتالي أوْدى به إلى جحيم الدنيا والسّجن خلف القضبان سنين طويلة جدا.
لا يخفى علينا الجانب الجماليّ والفنيّ، فالرّواية خطاب أدبيّ وفكريّ. فبعد وفاة أمه، خلق لنفسه أسطورة يعيشها فقط في خياله وجوفه، ويستمتع فيها للحظات ولا يُطلع عليها أحد. "لطيفة" بطلته القريبة البعيدة الموجودة في عالمه الخاص، يحِنُّ إليها ويستحضرها كلما عانى الوحدة والحزن. وبقيت شخصية "رضوان" لسان حالها كما رسمها لنا الكاتب، يلدغها الإحباط، يفترسها الخذلان، ويشملها الظلم في كل الأرض. روحه متعبة وتلوكه ألسنة المجالس دون اكتراث بحقه وحتى الشّعور بشيخوخته. أمّا الحبكة في الرّواية فكانت تماما ككرة الثلج المُتدحرجة، تكبر مع مرور السنين، بحيث أبقى أديبنا تلك الغصّة في القلب حين ترك "رضوان" عائلته ولم يعُد إليهم من الموت، مع أنه كان قريبا منهم، وقد وَهَنَ العظم لديه واشتعل الرأس شيبا. الكاتب اختار وبأسلوب شيّق، السّرد الرّوائي مع بعض الحوار بين الشّخصيات دون حشو أو ملل في النصوص الكثيفة، ونجح كذلك في تأجيج العاطفة في خاتمة الرّواية، فقد أثقلت الحكايات كاهلنا، وحبست دمعتنا، وزادت من وتيرة خفقان قلوبنا.
أحسن الأديب المقدسيّ "عبدالله دعيس" ربط الجمل بالمعاني وتحاشى التّصنّع، كما كانت عيناه كاميرا متحرّكة في كل الإتجاهات، تلتقط وتترجم وتقارن المواقف، وتكتب ما يبدو على ملامح الأبطال، بل تخترق دواخلهم أيضا، وذلك ببساطة لا متناهية وإنسيابيّة متدفّقة وتسلسل متين. لو كان هناك مَن يحمل الشّعلة ويضيء لغيره طريق الصّواب والحق والعيش الكريم، وكان هناك مَن يقدّم المساعدة في انفتاح التّفكير والبحث عن الحقيقة، لكنّا أسياد هذا الوطن آمنين مطمئنين.
وسوم: العدد 677