مسرحية "الآنسة روزيتا العانس أو لغة الزهور" لغارسيه لوركا: صراع نفسي بين العقل والعاطفة
يعتبر الموقف الدرامي ركيزة أساسية عند مؤلف المسرحية، كما هو شأن الاسباني غارسيه لوركا الذي استطاع ببراعة اختيار نقطة الانطلاق الدرامية في مسرحيته "الآنسة روزيتا العانس أو لغة الزهور"، أين تتأزم مشكلة في حياة البطلة -روزيتا- ويحتدم الصراع النفسي لهذه الشخصية برحيل ابن عمها الذي كان قد وعدها بالزواج.
لقد أنهى لوركا كتابة مسرحية "الآنسة روزيتا العانس أو لغة الزهور" في جوان من سنة 1935، وقام بعرضها على المسرح في الثالث عشر ديسمبر من نفس السنة في برشلونة الاسبانية.
من يقرأ هذه المسرحية سيتأثر حتما لحالة اليأس التي تعاني منها الآنسة روزيتا العانس، والتي كانت قد اتفقت مع ابن عمها على الزواج، فهي ظلت وفية لحبه بل كانت واثقة من حبها له ثقة عمياء، أما هو فرغم حبه الكبير لها، يخلف وعده ويتزوج من امرأة أخرى، ولكن مهما حاولنا البحث عن السبب فالنتيجة واحدة وهي أن حبه لها يختلف عن حبها الصادق النقي له.
من هنا تبنى المفارقة الدرامية التي يقوم على أساسها الصراع الدرامي للأحداث التي تحركها جملة من الشخصيات الرئيسية والثانوية.
لقد جاءت الحبكة في هذه المسرحية متسلسلة، لا تخلو من عنصر التشويق والدهشة، أين قدم لنا لوركا مشهدا افتتاحيا يكشف عن المكان والزمان وعلاقتهما بالشخصيات الرئيسية (العم، العمة، المدبرة، روزيتا، ابن العم)، وفكرة الموضوع المعالج (العنوسة) والخلفية الاجتماعية التي تدور حولها الأحداث بشكل عام.
ينقلنا لوركا بعد ذلك إلى نقطة الانطلاق أو كما يسميها النقاد بالوضعية، أين تبدأ تلك الأحداث بالتصادم فور رحيل ابن العم المفاجئ، وهذا ما سوف يؤدي إلى ذلك الصراع النفسي الذي ستعيشه البطلة بين عقل يرفض واقعها وعاطفة اشتياقها لحبيب خائن.
وأخيرا نصل مع كاتب المسرحية إلى الأزمة (ارتهان عم روزيتا لمنزل العائلة)، وهنا يشتد الصراع إلى درجة يحتدم فيها الوصول إلى حل حاسم ونهائي.
تنقسم مسرحية "الآنسة روزيتا العانس أو لغة الزهور" إلى ثلاثة فصول، أين نكتشف كقراء قصة درامية مأساوية لفتاة تتوقف حياتها على حب ابن عمها الذي يعدها بالزواج، لكنه يسافر إلى أمريكا الجنوبية فجأة، ليلتحق بوالده هناك من أجل مساعدته في أعماله.
من هذا المنطلق تبدأ معاناة تلك الوردة المتغيرة -روزيتا- كما يصفها لوركا، لتصبح هي الأخرى ضحية من ضحايا العنوسة التي أصبحت ظاهرة في هذا العصر للأسف الشديد.
تسير أحداث المسرحية في الفصل الأول وفق خط درامي طبيعي هادئ، أين يتعرف القارئ على الشخصيات الرئيسية لغارسيه لوركا، كالعم الذي يمضي جل وقته في الاهتمام بالنباتات والورود في مستنبته الزجاجي الذي أقامه في منزله كما نقرأ ذلك فيما يلي: "العم : (يدخل) انها وردة لم ترى ابدا مثيلا لها. مفاجأة ادخرتها لك لأن الوردة المائلة. ذات البراعم المتدلية والساق الخالي من الشوك شيء لا يصدق. يا لها من أعجوبة، هه؟ ولا شوكة واحدة. والاس الذي يجلب من بلجيكا، والكبريتيه التي تضيء في الظلمة. ولكن هذه تفوتها جميعا في الغرابة. ويسميها علماء النبات 'روزا موتابيلي' أي الزهرة المتغيرة وقد ورد في هذا الكتاب وصفها ورسمها، انظري (يفتح الكتاب) انها تكون حمراء في الصباح وتستحيل بيضاء عند الاصيل، ثم تتساقط أوراقها في الليل." (ص 35).
نتعرف أيضا على عمة روزيتا التي تقوم بالأعمال المنزلية بمساعدة مدبرة، وهذه الأخيرة ثرثارة بطبعها لا تكف على التعليق في كل شاردة وواردة: "العمة: أعتقد أن الخطيب مشغول اليوم.
المدبرة: انني لا ادري من يعجبني أكثر من الآخر، هي أم الخطيب. (تجلس العمة لتطرز) انهما ابناء عم يجب حفظهما في عواء للسكر. وحين يموتان حفظهما الله نحنطهما ونضعهما في مشكاة من الزجاج ومن الثلج. أيهما تحبين أكثر (تنهمك في أعمال التنظيف)." (ص 38).
يدخل ابن الأخ على عمته في غفلة من أمرها، ليخبرها بشأن رحيله بعد خروج روزيتا مع بنات آل مانولو، وهو ما يزعج العمة التي كانت ترفض هذه العلاقة منذ البداية، وهذا ما نقرأه في المشهد الموالي: "العمة: (تقرأ) طبعا هذا شيء طبيعي. لهذا كنت أعارض علاقتك بروزيتا. كنت اعلم أنه سيتعين عليك ان عاجلا أو آجلا أن ترحل مع أبيك. وإلى أين؟ إن الذهاب إلى توكومان . يحتاج إلى اربعين يوما. لو كنت رجلا وفي شبابي لشوهت وجهك.
ابن الأخ: ليس خطئ اننى احببت ابنة عمي. هل تظنين أننى أرحل عن طيب خاطر ان ما أريده حقا هو أن أبقى هنا. ولهذا جئت إليك." (ص 40).
تعود روزيتا بعد ذلك رفقة المانولات الثلاث، وهن فتيات يحلمن كغيرهن بالزواج حيث تصفهن البطلة كما يلي: "في غرناطه، شارع البيره
حيث تعيش المانولات
اللاتي يذهبن إلى قصر الحمراء
الثلاث والأربع وحيدات
احداهن ترتدي الثوب الأخضر.
وأخرى لونا حبيزيا
والثالثة تنورة اسكتلندية
مزينه شرائط تصل إلى الذيل
الاثنتان الاوليان، قطتان
والثالثة الأخيرة، حمامه
ويفتحن وعبر الممرات.
أنسجة رقيقة غامضة." (ص 44)
وفي الفصل الثاني يمر الزمن بسرعة البرق، حيث تتغير ملامح البطلة بعد مرور خمسة عشرة سنة على رحيل ابن عمها ليبرز تقدمها في السن، ورغم كل ذلك تظل وفية لهذا الحب القاتل لشبابها رويدا رويدا، حيث كانت تنتظر رسائله بلهفة كبيرة: "العمة: فاسكتى إذن.
المدبرة: وهل تعتقدين أن من المناسب أن يرسل رجل لمدة خمسة عشر عاما ويترك وراءه امرأة هي خلاصة الزهور؟ لا بد لها أن تتزوج. لقد أصاب يدي التعب من فرط حفظ ملاءات الدانتلا المارسيليه. وأطقم الفراش المطرزة بالجبير ومفارش المائدة وأغطية السرير من النسيج المطرز بالزهور المجسمة. انها لا بد أن تستعمل كل ذلك وتستهلكه. ولكنها لا تلتفت إلى مرور الزمن لسوف يبيض شعرها ولما تزل تخيط شرائط من الحرير اللامع في ثنايا قميص عرسها." (ص 57).
هذا المشهد السابق يرجع إلى زيارة السيد س -أستاذ الاقتصاد- إلى عائلة روزيتا، وسؤاله عنها وإحضاره لهدية لها: "العم: وأنا أيضا. لما كان اليوم عيد قديسها. فلا بد أنها ذهبت لتصلي في الكنيسة.
السيد س: أرجوك أن تقدم لها هذه القلاده بالنيابة عنى انها على برج ايفل من اللؤلؤ على حمامتين تحملان عجلة الصناعة بين منقاريهما." (ص 55).
تقوم العوانس الثلاث وأمهن بزيارة عائلة روزيتا، ولا تحبذ المدبرة هذه الزيارة، فهن يبالغن في ارتداء الملابس الفاخرة على عكس والدتهن التي تفضل ارتداء الأسود في جل ملابسها، وكأنها حزينة على حال بناتها اللواتي يبالغن في السؤال عن علاقة روزيتا بإبن عمها المهاجر، وهي تجيب بنبرة لا تخلو من الحزن والأمل في آن واحد: "العانس الأولى: (إلى روزيتا) هل لديك أخبار؟
روزيتا: لقد وعدني بأخبار جديدة في آخر خطاب له. سنرى ماذا سيكون؟
روزيتا: من زمن. لقد صنعت طاقما آخر يمثل فراشة تشرب المياه.
العانس الثالثة: هل انتهيت من طاقم الدانتلا البلنسي؟
روزيتا: من زمن! لقد صنعت طاقما آخر يمثل فراشة تشرب المياه.
العانس الثانية: لسوف تحملين أفضل جهاز عرس في العالم يوم زفافك." (ص 70).
يظل موضوع زفاف الآنسة روزيتا حديث كل من يدخل بيتها، وهذا حال بنات المصور دي أيولا العانستان، كما يشير إلى ذلك لوركا في المشهد الموالي: "أيولا الأولى: كم أتمنى أن تتزوج روزيتا.
روزيتا: أرجوك.
أيولا الثانية: دعك من هذا الهراء، وأنا أيضا أتمنى ذلك.
روزيتا: لماذا؟
أيولا الأولى: لكي أحضر حفلة عرس. لسوف أتزوج بدوري حالما أحضر حفلة عرس.
العمة: يا فتاة.
أيولا الأولى: بأي شخص، ولكن لا أريد أن أبقى عانسا.
أيولا الثانية: وأنا أيضا من نفس الرأي." (ص 74).
جاء الفصل الثالث ينبأ المتلقي بمرور عشر سنوات على رحيل فارس أحلام روزيتا العانس، أين يبدأ الحوار بين المدبرة والعمة التي توفي زوجها منذ ستة أعوام وهي لا تزال حزينة، وهو نفس حال مدبرة المنزل التي يحزنها بشدة حال فراشتها روزيتا البائسة: "العمة: اسكتي، لا تكملي؟
المدبرة: ليس لدي من أعصاب تمكنني من تحمل هذه الأشياء دون أن تجري الدماء في عروقي. كما لو كانت كلبا مطاردا. حين دفنت زوجي أسفت عليه كثيرا. ولكن كان يقبع في داخلي فرح كبير. ليس فرحا بل دقات تذكرني بأنني لست المتوفاة. وحين دفنت ابنتي، هل تفهمين؟ حين دفنت ابنتي كان الأمر كما لو أنهم سحقوا أحشائي. ولكن الموتى قد ماتوا. انهم ماتوا، ونبكي وينغلق الباب، ونحيا. ولكن ما حدث لروزيتا هو أسوأ الأمور. أنه الحب دون العثور على الجسد. انه البكاء دون أن نعلم على من نبكي. انه التنهد من أجل شخص نعلم أنه لا يستحق التنهدات. انه جرح مفتوح يسيل منه على الدوام خيط رفيع من الدماء وليس هناك من أحد ليس هناك أحد في الدنيا يحمل لها قطع القطن والضمادات ولا قطعة ثمينة من الثلج تسد بها الجرح." (ص 89).
نواصل مشاهدة هذه الأحداث كقراء كما لو كنا في مسرح حقيقي، إلى أن نصل إلى بؤرة التعقيد أين تواجهنا أزمة هذا النص الأكثر من رائع، حينما تستعد العمة وروزيتا والمدبرة للرحيل من بيت ستظل تسكنه الذكريات الحزينة: "مارتين: ومتى سيكون الرحيل؟
العمة: اليوم.
مارتين: لله الأمر.
العمة: المنزل الجديد. لا يماثل هذا البيت روعة. ولكنه يطل على مناظر جميلة. وبه فناء صغير به شجرتان يمكن ان تزهرا." (ص 90-91).
يظهر جوهر هذا النص الدرامي في صراع نفسي تعيشه البطلة بين العقل والعاطفة، فنقطة ضعفها تمثلت في استسلامها لحب ابن عمها، وهذا الحب يقودها إلى الوقوع في شباك العنوسة التي لا ترحم أي فتاة، وهي المحرك الأساسي لأحداث المسرحية نحو صراع درامي يظهر في العموم داخليا بين روزيتا وضميرها ونفسها البائسة: "العمة: أحيانا يتعين علي أن أتكلم بصوت عال. اخرجي من وسط جدرانك الأربعة يا بنتي. لا تتعودي على الشقاء.
روزيتا: (جاثية أمامها) لقد اعتدت أن أعيش سنوات طويلة غريبة عن نفسي، أفكر في أمور بعيدة جدا. والآن إذ لم تعد توجد هذه الأمور فاني سادرة في تقليبها وتقليبها علني أجد مخرجا لن أعثر عليه مطلقا. كنت أعرف كل شيء، أعرف أنه قد تزوج ولقد تكفلت روح حانيه أن تقول لي ذلك. وكنت أتسلم خطاباته بأمل ملئ بالبكاء كان يدهشني أنا نفسي الدهشة إلى الآن. لو لم يتحدث الناس ولو لم تعرفا انتما، ولو لم يعرف أحد بذلك عداي، لكانت خطاباته وأكاذيبه كفيلة بتغذية أملي كأول سنة من غيابه. ولكن الكل كان يعرف ووجدت نفسي والاصابع تشير نحوى بطريقة تسخر من تواضعي باعتباري خطيبة وتحيل منظر مروحة عنوستي فظيعا. كان كل عام يمر علي كأنه ثوب من ثيابي الحمية ينزعونه عن جسدي..." (ص 100-101).
ما يمكن قوله في الختام، هو أن العالمي غارسيه لوركا وظف الزمن كشخصية لها الدور الأساسي في أحداث هذه المسرحية، وهذه هي قمة التفوق لأنها ركزت على مشكلة عويصة -العنوسة- أصبحت تمر بها كل فتاة حينما لا تجد الرجل المناسب ليتزوجها، لتجد نفسها تعاني صراعا نفسيا من ألم الوحدة والخيانة إن وجد في حياتها حب كذلك الذي كان في حياة البطلة روزيتا لابن عمها، صاحب العواطف الباردة التي لا تخلو من أنانية البشر.
المصدر
(1) فديريكو غارسيه لوركا: الآنسة روزيتا العانس أو لغة الزهور، ترجمة ماهر البطوطي، وزارة الاعلام الكويت،1983.
*كاتب وناقد جزائري
وسوم: العدد 678