في بلاد العمّ سام والتّنوّع الثّقافيّ

clip_image002_37ce0.jpg 

 تجتمع خصلتان في كتاب (في بلاد العمّ سام) للأديب المقدسيّ جميل السلحوت، والصّادر عن مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة، أوّلهما أنّه يصف بلادا واسعة متنوّعة الثّقافات، وفيها من المتناقضات ما لا يمكن إحصاؤه، والأخرى أنّ الكاتب هو الشيخ جميل السلحوت، الذي يتميّز بسعة الاطّلاع والخيال، والقدرة على إدراك ما هو حوله وتحليله بطريقة رائعة، وربط الأحداث ببعضها ثمّ سردها بلغة الحكاية البسيطة التي تقرّبها إلى قلب القارئ وعقله. فالكاتب الذي ألّف العديد من الرّوايات التي ركّزت على عنصر المكان، وجعل مسرحها بلدة السّواحرة ومدينة القدس، ووصف الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة فيها بدقّة متناهية وبأسلوب شيّق، لتغطي فترة زمنيّة تمتدّ لعشرات من السّنوات، كتب أيضا في أدب الأطفال وأدب الرّحلات، ووصف البلدان التي زارها بدقّة، وتحدّث عن الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة فيها.

 في هذا الكتاب وصف شامل لرحلات المؤلّف إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة على مدار ثلاثة عقود، ويعطي فيه صورة حيّة للحياة الاجتماعيّة، ويصف العديد من الأماكن الجغرافيّة في أنحاء الولايات المتّحدة، أو بلاد العمّ سام كما أحبّ أن يسمّيها. والقارئ لهذا الكتاب يرافق الكاتب في رحلاته ويتعامل مع شخصيّاته وكأنّه يعرفهم ويعيش معهم، ويرى المدن والقرى والغابات والسّهول والجبال في أمريكا، وكأنّه يعيش فيها، ويفوق شعوره بها وتصوّره لمعالمها الاطّلاع على أيّ فيلم مصوّر؛ فهو يشعر باللمسة الإنسانيّة في هذا الوصف، ويرى الأشخاص والأشياء وكأنّه يرقبها عن قرب بعينيّه المجرّدتين، وليس من خلال عدسة كاميرا.

 والكاتب في وصفه يشبه أولئك المغامرين الذين ذهبوا لاستكشاف البلدان لأوّل مرّة دون أن يعلموا أين وجهتهم، وإلى أين ستقودهم أقدامهم؛ فبخلاف السيّاح أو حتى كتّاب الرّحلات أو المستكشفين الذين يسافرون في رحلات منظّمة لها خطّة موضوعة قبل مغادرتهم، ومسار محدّد للأماكن التي سيرتادونها، فإننّا نجد الكاتب ينتقل في أمريكا بعفويّة من مكان إلى آخر حيث يوجد أقرباؤه أو أصدقاؤه، وحيث تسوقه عادات الكرم العربيّ الأصيل، فينتقل بصورة عشوائيّة وفي مدن وأحياء وبيئات مختلفة، وتتذبذب رحلاته في أمريكا بقدر شتات الشّعب الفلسطينيّ فيها، والذي يوجد في كلّ مكان، ويعمل في مختلف المجالات ويتواجد في كلّ البيئات: من أدنى درجات الفقر إلى أعلى درجات الغنى، ومن مزالق الجريمة والإدمان إلى المراكز المهمّة في المؤسّسات العلميّة والاقتصاديّة. لذلك فإنّ هذا الوصف يبدو كالفسيفساء التي تجمع الألوان المختلفة، ويخرج منها نسيجا ملوّنا متناسقا، يعطي فكرة متكاملة عن هذه البلاد المترامية الأطراف.

 والكاتب يعطينا صورة واضحة عن الحياة الثقافيّة في أمريكا، فهو يزور المتاحف والمسارح المختلفة والمكتبات، ويشاهد الحفلات الموسيقيّة وعروض الأوبرا. ويزور وكالة ناسا ويصف التقدّم العلميّ الذي وصل إليه الأمريكيّون في هذا المجال. فنلحظ الاكتظاظ في المسارح في أمريكا حتّى أن الشّخص المهتمّ بعرض ما عليه أن يحجز مقعدا قبل شهور أحيانا.

 والكاتب يحطّم كثيرا من الصّور النمطيّة التي تكوّنت في ذاكرة الشّعوب العربيّة للأمريكيّين، والتي مصدرها الأفلام الأمريكيّة التي لا تعطي الصّورة الحقيقيّة للحياة في أمريكا، وكذلك صورة الأمريكيّ العدوّ التي نشأت بسبب مواقف الولايات المتّحدة السّياسيّة الداعمة للصهاينة، ومناصرتها للحكومات الدكتاتورية في العالم العربي ضد إرادة الشعوب وسعيها للحريّة، وأيضا من خلال ما يقصّه كثير من المهاجرين الذين يعودون من أمريكا ولم يروا منها إلا جانبا واحدا وزاوية عاشوها لسنوات طويلة، دون أن يطّلعوا بشكل فعليّ على الثّقافة الأمريكيّة. ففي هذا الكتاب نلحظ البعد الاجتماعيّ والإنسانيّ للثّقافة الأمريكيّة، بعيدا عن مواقف أمريكا السّياسيّة. فهنا نرى الأمريكيّ الكريم المضياف، وذاك الذي يهتمّ بجاره وأصدقائه، ونرى الأمريكيّ المتواضع الذي يعامل طلابه معاملة الأبناء ويدعمهم ويساندهم، والأمريكيّ الذي يهتمّ بتربية أبنائه وتعليمهم، ويقرأ لهم منذ نعومة أظفارهم، وحرص الأمريكيّين على التعلّم حتّى ولو في سنّ متقدّمة، واحترام الأمريكيّ للآخرين وثقافاتهم مهما اختلف معها، والأمريكيّ الذي يعتني بالحيوانات والطيور يخصّص جزءا من أشجاره للطيور ولا يأكل منها، وثقافة الحرّيّة والنّظافة والنّظام حتّى في أكثر الأحياء فقرا، والحفاظ على الممتلكات العامّة. فهو يظهر هنا الثّقافة الأمريكيّة بشكل واقعيّ حقيقيّ، ويبيّن مدى الرقيّ الأخلاقيّ عند فئات من المجتمع الأمريكيّ وتفوّقه على كثير من الشّعوب، وخاصّة في البلدان العربيّة التي تعاني من التخلّف والجهل.

 وبالمقابل فإنّه يعرّج على بعض السلبيّات في المجتمع الأمريكيّ، مثل التمييز العنصريّ ضد السّود، واضطهاد السكّان الأصليّين الذين يسمّونهم هنودا حمرا، والذين يعيشون في محميّات مغلقة، وانتشار الفقر والجريمة والإدمان على الكحول والمخدّرات في بعض الأحياء، ووجود الشّعوذة وتقنينها.

 ولا يقتصر الكاتب على وصف الثّقافة الأمريكيّة، بل يتعداها إلى ثقافات الأقليّات التي تعيش في أمريكا، فهو يستغلّ كلّ حدث أو مشاهدة للتّعريف بهذا الثقافات التي تتعايش وتتفاعل فيما بينها، لتشكّل المجتمع الأمريكيّ. فيصف موسيقى البلوز التي هي جزء من تراث الأمريكيّين الأفارقة، ويستغل زيارته لمطعم أرجنتيني للحديث عن ثقافة الأرجنتينيّن، وكذلك المهاجرين من الصّومال وأثيوبيا ونيجيريا ومن الرّيف الإيطالي، والحياة في بورتوريكو ذات الثّقافة الإسبانيّة.

 ويصف الكاتب الطبيعة بشكل جميل وتفصيليّ، ولا يقتصر على الأماكن السّياحيّة مثل شلالات نياجرا، بل يصف كلّ ما يشاهده حتّى الجزر التي تتوسط الشّوارع والمنطقة المحيطة بالمستشفى والسّاحات العامّة. وكذلك يعطي معلومات عن جغرافيّة ومناخ كلّ منطقة زارها.

 والكاتب يزور خلال رحلاته العديد من المهاجرين العرب من أقربائه وأصدقائه، والذين يعيشون في أماكن متعدّدة، ويعملون في مهن مختلفة، والذين يعطون صورة عن حياة الأقليّة العربيّة في أمريكا وتشرذمها وانغلاق الأقليّات العربيّة وابتعادها عن الحياة السياسيّة، ممّا أدّى إلى عدم قدرتها على التّأثير في السّياسة الأمريكيّة. فهناك من العرب من يتبوّأ مكانة علميّة عالية ويعمل في الجامعات والشركات ومراكز الأبحاث، ولكن بالمقابل فإنّ الأكثريّة يعيشون على هامش المجتمع الأمريكيّ منغلقين مبتعدين عن معين الثّقافة الأمريكيّة، منشغلين في مشاريع تجاريّة صغيرة غير مجدية في الأحياء الفقيرة، فهم بعيدون عن معترك الحياة ولا يعايشون الحضارة والتّقدم والازدهار في أمريكا. وكثير من العرب انخرط في المجتمع الأمريكيّ، ولكنّه لم يكتسب إلا القيم السلبيّة وتخلّى عن قيمه العربية الأصيلة، فلا هو لحق بركب المجتمع الأمريكيّ ولا حافظ على بقية كرامة وخلق من مجتمعه العربيّ.

 والكاتب يربط دائما بين العادات الموجودة في أمريكا ويقارن بينهما وبين ما يدور في المجتمعات العربيّة. وهو يقسو على المجتمع العربيّ أحيانا حين يرى مستوى النّظام والنّظافة واحترام الآخرين في أمريكا، ويقارنه بما يرى من انعدام هذه الأخلاق الحميدة في بلادنا، مع أنّنا لا نفتأ نتشدّق بها ونرمي الأمريكان بانعدام الخلق والحياء لديهم. ويستخدم أحيانا لغة تهكّميّة، مثل أن يصف العرب بِ (العربان) أو الذين (يشربون بول الأبل ويتعطّرون بها)، وأن يصف أمريكا بِ(بلاد الكفّار). أعتقد أنّ هذا الأسلوب كان إمعانا في جلد الذّات وتعريضا بالثّقافة العربيّة الإسلاميّة، ولا يمكن أن يؤدّي إلى النتيجة التي يريدها الكاتب، ألا وهي عودة المجتمعات العربيّة إلى ما يليق بها من الخلق النّابع من هذه الثّقافة الإسلاميّة المثلى.

 ولم ينفصل الكاتب خلال رحلاته عن الهمّ الفلسطينيّ والقضايا العربيّة، وقد استغلّ الكثير من الأحداث ليربطها بما يدور في فلسطين والعالم العربي، فتحدّث عن شتات الشّعب الفلسطيني وعن حرب عام 1967، حتّى أنّه استغلّ الحديث عن زيارته لمركزّ طبّيّ في هيوستن للحديث عن الشّاعر محمود درويش الذي توفي فيه.

 يبدو أنّ الكاتب كان يدوّن كلّ ما يرى على شكل مذكّرات ويصف ما يشاهده أولا بأوّل، لذلك نلحظ أن الكاتب كرّر بعض المعلومات أكثر من مرّة بطريقة غير مقصودة، مثل وصفه للشّوارع والجسور المركبة على بعضها، وذكره للحيوانات البريّة التي تعيش في المدن كالأرانب والسناجب، وغير ذلك.

 كتاب (في بلاد العم سام) رحلة ممتعة في أرجاء أمريكا، بعين خبيرة ناقدة، لا ترى ظاهر الأمور فحسب، بل تتعمّق في الثّقافة والمجتمع، وتعطي صورة متكاملة لشعوب عديدة تعيش معا على أرض واحدة في تقدّم علميّ وحضاريّ فائق دون نزاع أو خصام. إنّها رحلة جميلة يعيشها القارئ بكلّ تفاصيلها، وإضافة مهمّة إلى أدب الرّحلات.

وسوم: العدد 680