النصف الآخر للحكاية
حين يروي أحد ما نصف حكاية فهذا يعني أن هناك نصفاً آخر لم يعلن عنه بعد، وهذا ما سيثير فضول القارئ أو المستمع للبحث عن النصف الآخر الذي لم يعلن عنه، متسائلاً عن سر إخفائه، وهذا ما حصل معي حين وقعت بين يديّ مجموعة شعرية تحمل اسم "نصف الحكاية" للشاعرة الفلسطينية رانيا الجوري، وهي من إصدارات دار نيبور في بغداد- العراق. وحين تأملت لوحة الغلاف وجدت بوابة من بوابات عكا، هذه المدينة التي تقع في شمال الجزء الفلسطيني المحتل منذ العام 1948، والتي قهرت نابليون حتى بكى قهراً أمام أسوارها، فكان المثل الشعبي الذي التصق بها: "لو خافت عكا من هدير البحر لما سكنت على الشاطئ". وعلى الغلاف الأخير يوجد تعريف عن الشاعرة في إصدارها الأول لسيدة تظهر صورتها أنها في الأربعينيات من العمر، وحروف منقوشة تحت الصورة تعرف بالشاعرة أنها من عكا، وجوار الصورة حروف منقوشة شعراً تؤكد فيها أنها تبحث عمن يراها الحكاية كاملة، ولا تريد من الآخر أن يرى فيها نصف الحكاية: "إن الانتحار على نصف الحكاية جبنٌ، أنا الحكاية كلّها كاملة، من رأسي حتى قدميّ، وما بينهما من ارتقاء فكري وشعوذته، وما يتبعهما من مشاعر الطفولة التي، وإن رشدت طفلة، في حدائق الياسمين، يرضيها طوقٌ من يدين خشنتين، أنا الحكاية كلّها، من الغلاف حتى نهاية لهاثك،فلا تنتحر على نصفي وبعضي". هذه الكلمات التي تصور لوحة منقوشة بريشة الحروف شدتني جداً، فبدأت التجوال في أروقة الحرف من الغلاف إلى الغلاف، باحثاً عن النصف الآخر، محلقاً ما بين الحرف والحرف، وما وراء الحرف، فالمجموعة حافلة بكمّ من الحكايات، منها الألم ومنها الأمل، منها الوطن ومنها التحدي، منها الحزن ومنها الفرح، فشعرت أني أجول في عالم من الشيء وضده، ثنائية الخلق، وروح إنسانية تأبى إلا أن تحلق ممارسة التحدي مع الذات أولاً قبل أن يكون مع الآخر.
في نصوصها تتحدث عن نصف الحكاية، وفي رمزية النص نستشف النصف الآخر للحكاية، فهي في تجوالها بين الابن والوطن، الحب والعشق، الألم والأمل، تروي نصف الحكاية، ومن يقرأ النصوص بتأمل وتمعن يرى النصف الآخر، ففي نصها القصير عن ولدها المصاب بالتوحّد نراها حزينة، ولكنها ترى في النصف الآخر أنها تأخذ الضجيج عنه، وبالتالي يعيشان في هدوء، وكأنها ترى بروح الأمل وجهاً آخر لمواجهة حالة مرضية لا علاج لها: "حزينةٌ جدًّا روحي/ التوحّد قليلاً إلى دماغ ابني/ قليلاً أعيش معًا/ يعيش معي/آخذ عنك الضجيج يا ولدي/ نعيش الهدوء".
في روايتها لنصف الحكاية عن الوطن الذي يتكرر كثيراً في نصوصها نراها تتحدث عنه بإيمان مطلق به، فهي تراه عشقاً أزليا، وكنزاً ثميناً، وليس مجرد قطعة أرض أو بقعة جغرافية: "عندما يكون الوطن عشقك الأزلي الذي تحيا به/ يحيا فيك/ تكون استدارة الأرض إكليل شوكٍ لأعدائك/ اتساعه حناجرًا مبحوحة/ وعيونًا حاسدة كنزك الثمين"، وهي ترى أن الوطن مذاب فينا، ويجب أن نكون في حضرته الأجمل دوماً، وهي تجسده في الرجل المعشوق الذي تعشق، فتقول في أحد النصوص: "يا عطر الزيتون والزعتر/ يا قمح البلاد الحانيات، يا مرمر/ أنت الحب الأنقى والأكبر./ كل الرجال سهام وأنت وحدك قوسي/ هكذا علمني أبي.. أن أكون الأجمل في حضرة الوطن المذاب فينا، ما أشهاك!/ لو قبّلتك ملايين القبلات، ما أشهاك!/ لو سجدت على حدائق حبك آلاف السجدات، ما أبهاك!/ ليس على سرير كلماتي لحبك أي بديل/ دعني ألتحف بك/ وأرى السماء القادمة من عينيك/ أسمعني حكايا ما قبل النوم على راحتيك/ أسمعني أنك تحبني ثم اقتلني بقبلةٍ/ وأسدل عني الستار./أعلنْ للكون أني مجنونتك، من تحبك حتى الانتحار./ أحب الموت فيك/ حين تزرعني كزهرة بريةٍ على قبر أبي". فالوطن يسكنها ويسكن منها الروح، ويؤلمها كل ما تراه في فضاء الوطن سواء من احتلال أو خفافيش عتمة أو انهيار في القيم والسلوك، فترى في ذلك كسوفاً كما كسوف الشمس لا بد أن يليه إشراق، فتقول: "قد غسقت السماء نارًا وبارودًا/ إنه الكسوف يا وطني.. الكسوف".
رانية الجوري لا تحصر الوطن في البقعة الجغرافية المحتلة فلسطين، بل هي تمتد إلى أفق قومي على الرغم من أنها بحكم أن من أبناء الجزء الفلسطيني المحتل في العام 1948 ليس من السهل عليها أن تدخل معظم البلاد العربية، فهي تتألم على سورية الجريحة وتنحاز لها: "منحازٌ قلبي لبلاد الياسمين/ بضجيج نبضه الكامل/ بأنصاف فكري المتشرد/ باتساع روحي/ بامتداد جروحي/ بكلّي وبوصلة العشق داخلي/ أحبّك سورية ". وهي تنتقد الغرب الذي يثور لأي حدث فيه بينما النزف يسود الوطن العربي، وترى في ذلك ما يدفعها للسؤال والسخرية: "باريس الجميلة تعاني اليوم/ انتهكت عذريتها/ وطني العربيّ الوسيم ينزف منذ سنين/ ليتّضح أن دم العذريّة لا يُقارن بنزيف عادي/ ... كم هو شريف هذا العالم!!". وهي تعترف أن "شهوة" بوحها بما تشعر به ناتجة عن ألمها مما يتعرض له الوطن أو ما تبقى منه حتى أنها تخشى أن يتحول الوطن إلى ذكرى وطن: "بل لم ولن يحدث أبدًا، أن أكتب غير صدق مشاعري/ وللصدق أقول لكم، أن شهوة بوحي، تكمن في أمرين ناقصين/ الوطن ورايته، وما بينهما من ذكرى وطن".
وحين تجول رانية في مشاعرها والحب ترى في نفسها أنها "عاشقة من الطراز العميق"، لذا ترى أنه من الأفضل التصالح مع الرجال، فهل هذا يعني أنه في نصف الحكاية الآخر الذي لم تتحدث عنه أن لديها مشكلة مع عالم الرجال؟ وأنها ابتعدت عنه وعن الاحتياجات الجسدية الخاصة؟ وأنها بحاجة للمصالحة وشرب نخب أول قصيدة عارية؟ "لم المكابرة؟ أنت عاشقة من الطراز العميق/ وعشقك هذا لا يمكن أن يتحوّل إلى حرب ضد الرجال/فدعينا نتصالح ونشرب نخب أول قصيدةٍ عاريةٍ من الألغاز/ لنتحدث بوضوح عن جنس ساعة الغياب". والشاعرة على لسان بطلة النص ترفض أن ينظر الرجل اليها "تضاريس جسد الحب"، فترفضه وتصده، فتقول: "ترى ما الذي يستفزك يا رجلًا/ تقرأ تضاريس جسد الحب وتصمت./ أتلذذ فعلًا بخيبتك. نعم خيبتك/ أمام أسطول مشاعري وهي تهزمك في أصغر مساحةٍ لديك/ قبل أن تطوف حول المعبد/ جرّب أن تطوف حول نفسك أولًا". وهي تهمس بقولها: "يطيب لي، مغامرة أفلاطونية بوهج الحب اللذيذ". وهي ترفض أن تكون العلاقة مجرد علاقة جسد، ولا تريد الحب مجرد: "عنوانٌ حصري لعالمٍ محصورٍ/ في المساحة الجغرافية الواقعة/ بين حوض أمازون المشاعر/ وكيفية التحكم في مصبّه". فهي تريد شخصاً تخاطبه بقولها: "سنبني مدينة سلام/ تنبت بندى الحب!". وهي تمازج بين الحبيب والوطن، فتهمس أنها تريد أن تكون: "مستكشفةً معالم وطني الحرّ فيك./ في أعلى التلّة هناك/ أرفع راية استسلامي/ أو لعلها راية احتلالي لك". وهنا يبرز سؤال: هل أنها في نصف الحكاية الآخر تريد أن تمارس جنون الرغبة حتى تصل إلى درجة الاحتلال لإنسان تحبه وترى فيه بعضاً من معالم الوطن الذي تحلم به؟ على الرغم من أن هذا يتناقض مع قولها: "لا حياة للغريزة في التشابك الروحيّ، فلتسقط كلّ شهوات الجسد!/ أيّها الصباحُ اخترع لي رجلًا يشبهك بعشرين ألف رغبةٍ روحيّةٍ.. لأحبّه كأنت".
النصوص في غالبيتها أخذت منحى الشعر السردي، وهو أسلوب في الشعر النثري يمازج ما بين الحكاية والصور الشعرية، يخرج عن الإطار الذي اعتدناه من اختصار شديد وتكثيف في اللغة إلى حكاية سردية تعتمد الرمز والممازجة بين أسلوب الحكاية والنص الشعري النثري، ورانيا الجوري أوضحت أسلوبها في نصها "الجزر الكتابية" بقولها: "التحرر في الكتابة أن تأخذ القارئ لصورةٍ شعريةٍ/ تبدأ بالتنزّه على شاطئ جميلٍ/ من ثم السير السريع للوصول إلى محطة القطار/ بعدها الانتشاء بجرعة ماء باردة".
وهي في حديثها عن النصف الآخر للحكاية لا تتوقف عن استخدام الرمزية والتشابيه بحيث تتداخل مشاعرها ما بين الوطن والحب والعشق والحلم والألم، حتى يخيل للقارئ الذي لا يحلق ويغوص في ثنايا نصوصها أنها ليست أكثر من عاشقة مرت بخيبات عشق، ولكن من يجول النصوص ويحلق بها يكتشف النصف الآخر للحكاية: وطن تحلم أن يكون حراً سعيداً مكتملاً غير منقوص، ورجل يعشقها كما هي إنسانة مكتملة بروح ومشاعر ومن ثم جسد ورغبات وثورة أنثى، وآمال وأحلام وإنسانية، وحلم أن يتمكن ابنها من أن يعيش بهدوء بعيداً عن مرض التوحد.
وسوم: العدد 680