سنبلات الحلم للحسيني عبد العاطي
للشاعر"الحسيني عبد العاطي" صدر ديوانُه (سنبلات الحلم) (1) ومن قبلُ صدر له ديوان شعر بالعامية المصرية ، عنوانه (أحزاني على القمر) (2) . وبالسنبلات سبع عشرة قصيدة، أكثرها من شعر التفعيلة، وقد جاءت متنوعة الأغراض الشعرية، ويغلب عليها الجانب الذاتي والاجتماعي والوطني والقومي .
والديوان صورةٌ لذات المبدع وعصره، ففيه كثير مما يتصل بأخلاقه وتصوره للإبداع، ومواقفه من قضايا الأمة، ويصحُّ أن يُتَّخذ الديوان سبيلًا إلى التعرف على ذات الشاعر "الحسيني عبد العاطي" فكأنه يكتب نفسه صادقًا في شعره .. يقول في قصيدته "هذا قلبي"
هذا قلبي / أبيض من حباَّت الثلج / ونديًّا مثل الصبح
وطهورًا مثل الماء / أُهديه صَبُوحًا للأحباب / تحمله الريحُ بريئًا
لا يغتابُ / ولا يرتاب .
ومن يعرف الشاعر يدرك صدقه التام في الأبيات، فما عُرِفَ إلا عفيف اللسان واليد، محبًّا للجميع، لا تبدر منه الهفوة بحق الآخرين . يعرفنا بنفسه في قصيدته الأم "سنبلات الحلم" كاشفًا عن مبدع لا تحرفه الأوضاع المختلة، ولا الواقع الآسن .. المتعفن أو المتبلد بتعبيره عن الجدية والتفرُّد، فيقول
مَنْ يا تُرى / يهوى انبلاجَ الفجر / بالنور الجديد ؟
ومَنِ الذي كلماتُه / تجتاحُ كلَّ الغثِّ / في الزمن البليد ؟ / هذا أنا .ثم يقول في أبياتٍ أراها أصدق أبيات الديوان تعبيرًا عن ذاته
أنا مَنْ تُترجمُه المشاعر / مَنْ يحملُ الدنيا على كفَّيْهِ /يهبُ الحياةَ إلى الضمائر
مَنْ ذا يجمِّعُ كلَّ قافٍ بعد حاء / من يحفرُ الفرعين للنهر الخصيب .
الشاعر إذن من أولئك الذين يعيشون لأوطانهم ومحبيهم ولقضايا الأمة ونصرة الإنسان والإنسانية . في النصِّ ذاته ، واستكمالًا لتعريفنا بذاته .. المبدعة يقفنا على مفهومه الرسالي للشعر، فيقول ناسبًا التصور لنفسه
مَنْ يجعلُ الحرفين نورًا / كالنهار / فالشعرُ يبقى ثورةً / ضد الدمار
في كلِّ عينٍ أرَّقتها نظرةٌ / في الإنكسار / والشعر يسمو بالفؤاد .. وللفؤادْ
والشعر يمتلك القرارْ / والشعر بارودٌ ونارْ
والشعر للشعراءِ يبقى حلمَهم / ويرونه أحلى الثمارْ
وهو في "الفجر" الذي يرمز إلى الأمل المعقود بذاته، الذي يتغيَّا تبدُّلَ الأحوال إلى الأفضل في دنيا تسودها المحبة والعدل والحرية .. يكشف عن نفسه، وأنه مجرد إنسانٍ .. فنانٍ .. مؤمنٍ .. يقول
وأنا يا فجري مثلُ الناس / أغوصُ إلى الأذقان / فأنا إنسان
أحملُ بين ضلوعي / قلبًا للفنَّان /وأُصلِّ دومًا للرحمن .
والشاعر في "سنبلات الحلم" عربيٌّ حتى النخاع .. يعرض لواحدة من مآسي العرب الكبرى في العصر الحديث .. عدوان العراق على الكويت .. ثم حرب عاصفة الصحراء الدولية على العراق والتي تبيَّن فيما بعد أنها خدعة كبرى .. انطلت على كثيرين .. يشيد بحضارة بغداد التليدة ويغمز في جلاء العدوان عليها فيقول في "يا بغداد"
يا بغداد / يا حاضرة العلم الكبرى / مَنْ سيسجِّلُ هذا العارْ
من سيسجل أن عدوًّا / قد شاركنا غُرَفَ الدار
أيُّ وباءٍ / حلَّ علينا / أيُّ دمارٍ واستعمار .
والشاعر لا يرى إلا الحقيقة ولا ينحاز إلا للحقِّ، ففي نصه "فحيح الأفاعي" يلمس بوعي المبدع الوطني، ولوعة المخلص لأمته، وبيان السلسال الصريح .. يحكي عن بطولات العرب المقالية، وعزماتهم الصوتية، وعن واقعهم الحضاري المزري‘ فيقول بالمفتتح، كاشفًا عن واقعٍ قوميٍّ مُتَردٍّ
ونحنُ / إذا ما الجهادُ ينادي / نعمِّرُ أفواهنَا بالكلام
ونحنُ /الذين إذا ما انتفضنا / نسلِّمُ للغير منَّا الزمامْ
ونحن / الذين ادَّعينا البطولة / لكنَّ واقعنا الإنهزام .
وقد عرض الشاعر لقضية "فلسطين" مُكْبِرًا فيها الأطفالَ .. الرجالَ .. الأبطالَ الذين يعوون حقيقة قضيتهم، بل إنهم ليتجاوزون الفهم إلى العمل من أجل تخليص وطنهم من غاصبيه، وعدتهم في ذلك، لأنهم سلميون وليسوا معتدين، ليست إلا الأحجار !! يقول عنهم في "عشتُ إنسانا" على لسان الطفل ..
لا كنتُ يومًا / إذا لم أنتشِلْ وطني / فكمْ شربنا
من الإذلالِ ألوانا / ولن يعود زمان الظلم / يرهبني
فاليوم أرجُمُ / بالأحجار شيطانا
لأُسمِعَ الصمَّ صوت الحقِّ / في شَمَمٍ/ فقد أصمُّوا / عن التصديق آذانا .
ويكشف عن تقدير البطل لمقدساته ، مدنًا ومساجد .. فيقول على لسانه أيضًا
إني وهبتُ دمي / للأرضِ تشربهُ / حتى أكون لها / رمزًا وعنوانًا
أُقبِّلُ القُدسَ / عند الملتقى فرِحًا / وأُرجِعُ المسجد الأقصى / كما كانا .
وبالقصيدة ما يشي أنها قيلت إبان انتفاضة شعبية، من انتفاضات أهل القدس المتعددة .. وفيها ما يشي بوعي المقدسيين بأهمية التدرُّج في وسائل مواجهة العدو في سبيل تحقيق المصير وامتلاك إرادة التحرر .. يقول الشاعر المبدع " لحسيني عبد العاطي"
يا مهبطَ الرُّسْلِ / يا نبعَ الهُدى / ابتسمي / هذي انتفاضة شعبٍ
ثارَ بُركانا / والكلُّ قد هَبَّ للتحريرِ / في غضبٍ
ينسابُ مَوجًا / فسَيْلًا / ثُمَّ طُوفانا
وها أنا / قد كسرتُ القيدَ مُنطلقًا / لِسَحْقِ مَن كان للأحرارِ سجَّان
فلا حياةَ / إذا لم امتلكْ قَدَري/ ليشهدَ الخلقُ أني عِشْتُ إنسانا .
ويكثر بالديوان شعر "الحب" لا أقول الغزل، فليس فيه ما يخدش الحياء، بل الحب فيه عاطفة نبيلة، ففي قصائده "تمتمات، عهود الهوى، أجيبيني، ورفض" يبدو الشاعر عذري المنحى ليس المرأة فيه موضع شهوة عارضة، والحب عنده أسمى قيم الحياة .. يقول في "عهود الهوى"
فالحبُّ بحرٌ / من الأنوار مؤْتَلِقٌ / ومن سجايا / قد اكتملت معانيها
فأسعديني / بوُدٍّ منكِ متَّصلٍ / فالحبُّ أسمى من الدنيا / وما فيها .
وبالديوان نصان يتصلان بالمناجاة؛ مناجاة الله تعالى، وهما أشبه بابتهالات الصوفي الحقِّ، هما "سرُّ الحياة، نجوى" .. يقول بالأول مُعَدِّدًا بعضَ نعم الله على المؤمنين، بما يكشف عن مؤمن متسامح يعي عظمة الخالق سبحانه
يا مَنْ خلقتَ لنا الحياةَ بأسرها / وجعلتَها للناظرين فُتُونا /وهديتنا بالأنبياء جميعهم
جاءوا بنور الهَدْيِ / كي يهدونا
ومحمدٌ / بالبيِّناتِ ونورِهِ / وبمعجزات كتابهِ / يدعونا .
وبما هو شاعر رقيق المشاعر، فمن أهم ما يلفته ويعنيه في دنيا الناس، الجمال والسعادة والرضا والنجاة، تلك التي منَّ الله تعالى بها على المؤمنين،ومن أمنِّ نعمه إرساله النبي محمدًا إلينا .. يقول "الحسيني عبد العاطي" في ختام النص يناجي المنعم سبحانه
أنتَ الذي وهب الحياةَ جمالَها /ورعى الجميعَ / تحرُّرًا وسُكونا
أسعدتنا يا ربِّ بالنور الذي / ملأَ القلوبَ خواطرًا وشجونا
مَن قالَ في التوحيد قولَ محمدٍ / نالَ الرِّضا / والملجأَ المضمونا .
أما في ثانيهما، ويختم به الديوان مسكًا .. ففيه عاطفة صادقة تتجلى في انسجام إيقاع المفتتح وتناغمه؛ إذ يقول مناجيا السميعَ .. القريبَ
إذا أعرضَ الناسُ / أغلقتُ بابي
ويمَّمْتُ بابَكَ / أعرضُ ما بي .
وبالديوان نصٌّ رثائيٌّ يتيمٌ ، يخصُّ الشاعر أحمد نور الدين ، عنونه بــ "النهر المسافر" فيه من نُبل الأخلاق والوفاء وصدق المشاعر،ما هو من شِيم الشاعر المعروفة .. يقول مخاطبًا روح الشاعر الأستاذ "أحمد نور الدين"
يا خيرَ خيرِ الأوفياء / يا مَنْ عرفتُكَ / في التُّقى والملتقى / خِلًّا وفيًّا .. صادقًا
فَلأَنتَ للنفس الصفاء / ولأَنتَ للقلب الدماء / ملَكٌ أراه .. وإنما بشرٌ / ومِن طينٍ وماءْ .
والحقُّ أن زكيَّ النفس وحده هو من يرى الناس على خير، والشاعر ينعت الراحل الكريم ــ ولم ألتقِهِ رحمه الله، نحسبه على أفضل مما نعته الشاعر ـــ بما يعرف الجميع أنها من سمات " الحسيني عبد العاطي" ذاته، فهو (أو فَهُمَا) الوفي .. التقي .. الصادق .. الصافي .. البشر الملائكي !! وبالأبيات مما يدلُّ على انسجام المبدع وقناعته بما يقول تناغم الإيقاع، بالقافية خاصة، والتجانس بالشطر الثالث، والاعتماد على مفارقية التقابل كما في الشطرين الأخيرين وفي إضافي الدال "خير" لذاته إمعانًا في بيان خيرية الراحل مصداق نبل المبدعين .
وبعض قصائد الديوان يتأسَّس على الذاتية ويطلق على نحو رمزي إلى أمور الاجتماع والوطن والسياسة والقومية العربية.
ومن نصوصه الوطنية القومية، ما افتتح به ديوانه ح فنصُّه "هي الباقيات" وطني حماسيٌّ بامتياز، يسعي إلى تعزيز كرامة العرب، وإلا فالهلاك هو المصير .. يستثمر تنصيص القرآن بتصرفٍ في بنية التعبير، من سورة "العاديات" بمفتتح النص في إيجاز دالٍّ، يلخص المسألة فيقول
فَعَيشٌ بعزَّةِ نفسٍ تكون / وإلا فصبح من العاديات .
المعادلة عنده صفرية .. إما العزة، وإما الهلاك.
وبالنص ما يشير إلى خصيصة أسلوبية، يمتاز بها الشاعر في الديوان/، تتصل بالتدفق الدلالي .. مما يصعب أحيانًا مهمة استلال مقطع للتمثيل على ظاهرة ؛ إذ يضطر الشاعر في تدقيق المشهد، كما في قوله، كاشفًا عن هوان العروبة
فيا أيها النائمون الكسالى / هيَ الشمسُ تُعلنُ / نورَ الصباح
وأنتم هشِيمٌ / وما عادَ يقوى
تُبَعْثِرُهُ واهناتُ الرياح / فهل يصلحُ النَّفط ريًّا لِعَطْشَى
وهل سوف يُبرِي / ثَخِينَ الجراح
هيَ الأرضُ تبكي
أأرضُ العروبة للطامعين / تكون الملاذ؟
(2)
ويكثر بالديوان تردُّدُ دال "الحلم" من عتبته الرئيسة، وهو أشبه برمز تتعدد دلالاته بالديوان باختلاف السياق الضامِّ، والدال في ذاته يشي بالأمل والسعادة، ويتصل دومًا برغبات المبدع الذاتية .. والجمعية لأمته .. في استخدامه للرمز لا يغرق في تهويمات ينغلق معها المعنى تمامًا على المتلقى .. بل هو الرمز الشفيف الدقيق السمح كمبدعه لا يتأبى على سائله ؛ إذ يبذل للمتعاطي معه معناه بيسير من التواصل .. ذاك ما ان مع أول ترددات الدال بنص "الفجر" .. رمز الأمل في العدالة والحرية والأمان بالنص .. يقول
الفجر م يُداعِبُ جَفني / يتراقصُ / أحلامًا وردية
يحملُ في كفَّيْهِ هدِيَّه / يخلعني من بحر الظلمات / إلى الحرية .
و"الفجْرُ" بالنص الأمل في العدل .. ذاك الغائب العزيز المنتظر .. الذي يتلهف إلى مقدمه الشاعر؛ فيقول كاشفًا عن ترقبه انبلاجَ فجر العدل المُؤْذِنِ بالاستقرار والأمان .. يقول متطلِّعًا
للفجر
هل عَوْدُكَ آن / هل عودك آن / إن تُقْدِمْ .. فلتخْيِرْني
في أيِّ مكانٍ / في أيِّ زمانٍ / فأنا يا فجري / مَوْجٌ / تلفظُه الشطآن
نجْمٌ / صار بلا أوطان م لفظته جميعُ الأكوان
وأنا مشتاقٌ للدفءِ / وللتَّحنان .
يؤكد قصدَهُ أن الفجر ليس إلا رمزًا للعدل والعادل .. والحقُّ أن الظلم من أشد ما يعانيه المبدعون الأصلاء حينما تتعاظم المحسوبية والشللية في المؤسسات المعنية .. يقول ممرورًا لغياب فجر العدل
والأرضُ / بدونكَ قاحلةٌ / لا قمحَ / ولا زيتونَ / ولا أعناب
والناس بدونِكَ / حيرى / يجمعهم شرعُ الغاب .
إن أحلام الشاعر ليست إلا الحياةَ الهانئةَ .. ليست إلا تسامي الروح وإلا إنسانية الإنسان.. إنها المدينة الفاضلة .. حلم الشعراء والفلاسفة الأبدي .. يقول في "هذا قلبي"
أحلمُ بالأملِ الموصولِ / وبالمأمول / بسنابلِ قمحٍ / بزروعٍ خُضرٍ
بالوجه الباسم بالحنَّاء / أحلمُ دومًا بالإنسان / يتخطَّى كلَّ حدودِ الطين
يحلِّقُ .. تسمو الروحُ / يتجرَّدُ من نزواتِ الغيِّ / وظلم التِّيه .
والمرأة كثيرًا هي أملُ الشاعر الذي يراوده في أكثر من تجربة .. ومعها يتردد دال "الأمل" بديلًا عن "الحلم" .. يقول في "عهود الهوى"
وهانَ طعمُ النوى يومًا / على أملٍ / أني لما أبتغي شوقًا
أُلاقيها .
وفي "أجيبيني" يسعى إلى أمل الوصال بالحبيب .. يخاطبها فيقول
وكُونِي / كلَّ أيامي / وصِيري ملْءَ تكوِيني
وكُوني / في النوى أملًا لشطِّ الوصل يدنيني .
(3)
ظاهرةٌ أخرى ترددت بالديوان في أكثر من موضعٍ ، تمثَّلت في التسامى من الذاتية إلى ما فوقها .. تبدو "رحيل" ذاتية في ظاهرها، تحكي تجربة حبٍّ .. لامرأة تتسامى في دلالتها إلى هيامٍ بالوطن .. يقول في المفتتح
.. كم كنتُ أعشقُ / فيكِ الزمانَ / ولكنَّ وجهَ الزمانِ استدارا .
فما عادَ يحنو / كما كان دلًا / فهلَّا سمعتَ الفؤادَ / استجارا
فإني أُحبُّكِ مِن كلِّ قلبي / ولكن رحيلي / يجيءُ اضطرارا .
وقد يستثمرُ الشاعر تقنية الرمز على نحوٍ آخر .. فيبدو النص اجتماعيًّا على نحوٍ .. وقوميًّا على نحوٍ آخر .. ينتقل من مأساة الفرد إلى واقع الأمة المأساوي في "تجمُّل" متجاوزًا توصيف حال الفرد إلى فضح أمة بأسرها .. عاشت على اجترار ماضيها‘ منشغلة بذلك عن حاضرها ومستقبلها . . يقول والنصُّ حماَّلُ أوْجُهٍ
قالَ أنا من بيتٍ عالٍ /لسجايا أجدادي أحمل
هذا قصرٌ / شيَّدناهُ / هذا برجٌ / وسيُستكمل / هذا مالٌ
وورثناه / هذا حقلٌ / وهوَ الأجمل
هذا ما تركَ الآباء / ذهبٌ / مالٌ / كلٌّ يشمل
فإذا انكشفَ المستورُ / وإذا بالكاذب لا يعمل / قال فإني لستُ كذوبًا
إني محرومٌ أتجمَّل .
المانع الوحيد من تحول الدلالة هنا فيما أرى يتمثل في وعي الذات بحقيقتها .. ذاك الوعي الذي ما زال مفقودًا على مستوى الأمة .
(3)
ويبدو تنصيص الشاعر لآيات من القرآن معينًا أثيرًا لديه، وبخلاف استناده إلى تعبير "العاديات" فإنه تنصص من قوله تعالى ( وجعلناها فتنةً للناظرين) في نصه "سر الحياة" إذ يقول
مناجيًا
يا مَنْ خلقتَ لنا الحياةَ بأسرها / وجعلتها للناظرين فتونا .
ويبدو النص لطابعه الخاص محضِنًا مناسبًا لتنصيص مزيد من نورانيات القرآن، فيقبس من نور قوله تعالى "فإذا قرأت القرآنَ فاستعذْ بالله من الشيطان الرَّجيم" حين يقول
.. وإذا تلَوْتُ من الكتابِ وآيِهِ / ذهب الرجيمُ / مُكَدَّرًا ملعُونا .
ويبدو الشاعر في تنصيصه القرآن بشعره، واعيًا بسياق القرآن، فيأتي تنصيصه منسجمًا تمامًا مع السياق البشري القابل .. يقتطف من قبس القرآن شيئًا يتصل بعادة صحية وبركة ربانية ، تعمل على معافاة المبتلى حين يغتسل بالماء البارد .. ينصص من قوله تعالى "اركُضْ برجلكَ هذا مغتَسلٌ باردٌ وشراب" فيقول بأول نصوص الديوان
يا أيها الماردُ المسكينُ / فكّْ الإسار / واركضْ برجلكَ
إذا الفجرُ لاح / لتنفضَ عنكَ / غُبارَ الموات .
وفي مرة يتيمة ينصص شعرً لواحد من المحدثين ، هو الشاعر "محمد كمال عبد الحليم"، من رائعته "دعْ سمائي" في سياق متسق .. يتصل بالعروبة .. ففي نصه القومي "فحيح الأفاعي" يقول مجسدًا غفلة الأمة ، وتنطعها .. !!
نتيهُ افتخارًا / بماضٍ تولَّى / ونارُ الأعادي بنا مُحدِقة
ونحنُ نقول / (ألا دعْ سمائي / فغن سمائي أنا / محرقة
ونحن نقو / ألا دع مياهي / فإن مياهي أنا / مغرقة)
وهم يمرحون / ببرٍّ .. وبحرٍ / وكيف لنا بعدُ بالأمركة .
(4)
والتكرار بما هو تقنية أسلوبية رئيسة من تقنيات الخطاب الشعري الحديث، تتردد كثيرًا جدًّا بديوان "سنبلات الحلم" للشاعر الحسيني عبد العاطي، وتتعدد أنماط التكرار بالديوان، كما يتنوع العنصر المكَرَّرُ، وتختلف مواضعه الضامة .. على أنها في أكثر الأحيان مواضع الصدارة أو الختام؛ فلا يجيء التكرار إلا بمفاتح المقاطع أو الأبيات .. وربما كان بمفاتح النصوص ومقاطعها، نادرًا ما يكون بالحشو ونهاية النص، كما في "النهر المسافر؛ إذ يكرر بالموضعين قوله
فاسمح لقلبي أن يضمك / بين جنبيه / إذا عجزت يدي .
ومن البين أن بنية العنصر المكرر هي المسئولة قبل غيره هنا عن التنحي عن موقع الصدارة؛ إذ تقتضي البنية سابقًا عليها تتأسس دلالتها عليه، إذ لا يستقيم البدءُ بالفاء ..
يتمركز التكرار إذن بثلاثة مواقع من القصيدة؛ فغالبًا ما يكون بالمبتدى أو المنتهى .. ونادرًا ما كان بالحشو . والمبتدى هو أول النص وأوائل الأشطر أو الأبيات؛ إذ يتردد العنصر المكرر بمطلع النص ثم بمفاتح المقاطع ، مع كل مقطع جديد، تنشيطًا للمتلقي، وتأسيسًا لمعنى جديد .. وقد جمع نص "تمتمات" النمطين حين كَرَّرَ في مطلع النص ومفتتح كل مقطع النداء "يا حبيبي " أربعًا، وحين كرَّرَ معه في المقطع الثاني الأداة التكثيرية "كم" .. منسجمً بذلك مع عتبة النص التكريرية "تمتمات" .. يقول
يا حبيبي / قد كفانا أننا ذُبْنا اشتياقا
كمْ تعذبنا سنينا
كم تمزَّقنا افتراقا
كم أذلَّتنا الأماني / ثم زادتنا احتراقا .
ومن تكريره الدال المفرد بمنتهى الأبيات، قوله في "هذا قلبي"
.. يا أحباب القلب / لا طعمَ يسوغُ / بغير الحبِّ
فالأرضُ خَوَاء
والكون خواء
والقلب خواء
تتجافى كل الأشياء / وبغير الحب / تشابهت الأسماء .
ومن البين دور التكرار في دعم الدلالة المقصودة بالمقطع؛ إذ تكرس معنى أنه بغير الحب فلا حياة ! القلب .. والأرض .. والكون .. لا طعم لها .. وبغير الحب تتشابه كل الأسماء .
والحق أن التكرير يحمل دومًا جرثومة الدلالة الأساسية بالنص .. حين يلخص بالتكرار رسالة النص الكبرى ، ويأتي هذا التمركز الدلالي عن طريق التكرار، إذ يختزل كامل دلالة النص في أشطر معودات متكئًا على تكرير عناصر بعينها هي وحدها القادرة على اكتناز الدلالة .. ذلك ما كان في نهاية نص "هي الباقيات"
فلا شيءَ تحمله المعجزات / فعيش بعزة نفسٍ تكون
وإلا فصبحٌ من العاديات / هي الباقيات .
أما تكرار الحشو فغالبًا ما تكرير تركيب .. يفيد في تعزيز الدلالة الموضعية بالمقطع، كما يعمل على موقعة الموضع الضام وغنائيته .. ولا يكون ذلك إلا مع انفعال الشاعر بموضوعه؛ ومن أمثلة ذلك قوله في "النهر المسافر" تكريرًا للتركيب (فلأنت) إذ يقول
فاسمح لقلبي أن يضمَّكَ / بين جنبيهِ / إذا عجزت يدي
فلأنت رمز الحب / في هذا الزمان
ولأنت كل الصدق / إن بعدُ المكان
ولأنت تمنحنا المحبة / والمودة / والحنان ..
فلأنت للنفس الصفاء
ولأنت للقلب الدماء .
يخاطب .. الشاعر .. مَرْثِيَّهُ الأثير المحبوب، فينحله صفات الكمال والنبل العديدة، وما كان اعتماده إلا على تكرير التركيب "عاطف + أنتَ" خمس مراتٍ .. وبإنعام النظر نجد الشاعر قد نجح في التأسيس عبر هذا التكرير لتكرير آخر تابعٍ مصاحبٍ ، في الأوليين جاء "عاطف + أنت + مضاف + مضاف إليه" والنكرتان كاشفتان عن تقدير المبدع للمتوفَى .. وهو ما يعززه التكرير التابع الثاني في الأخيرين، حين جاء "عاطف + أنت + جار ومجرور متقدم على متعلقه + معرفة، متجانسة النهاية" .
يتكرر هذا النمط في سياق شعر الهيام والحب، ففي "واحة الحب" يكرر التركيب ( عاطف + في + تركيب إضافي، مثنى معرَّف بالإضافة إلى ضمير، يخصُّ الحبيب "خبر مقدم" + تعبير إضافي "نكرة ، معرف بالـــ .. مبتدأ مؤخر" .
وفي النص ذاته يقول
فإني المحبُّ / وإني المعذَّبُ
شوْقًا إليكِ / وخوفًا عليك .
ومن أروع نماذج التكرار الواردة بالديوان، ما جاء جامعا لأنماط عديدة من التكرار، يغلب أن تكون من تكرير التركيب .. يقول بختام نصه "يا بغداد" كاشفًا عن تبرُّئه مما كان
لن يرحمنا
يومٌ يأتي / يكتبُ تاريخًا مسطور / لن يرحمنا / أن الظالمَ
حطَّم بنيانَ المنصور
حطم مشكاةً للعلم
حطم مرقاةً للنور
هتك العرض / وألغى الفرضَ / وسكنَ الدُّور
لن يرحمنا أبدًا أنَّا / فينا الخائن والمأجور
لن يرحمنا أبدا أبدا / إلا أن نتفجر ثوره
تُلقِي حِممًا
تعصفُ عصفًا
تقصف قصفا
في الأوغاد / تمسحُ كل دموعِ الثكلى
يا بغداد .
(5)
أكثرُ نصوص الديوان من شعر التفعيلة، واقلها من العمودي كنص "عشت إنسانا" فهو على الرغم من صفِّه طباعيًّا على هيئة شعر التفعيلة، فهو من البسيط،، مطلق القافية، نوني الروي، مردوفٌ بالألف، وأكثر نصوص الديوان على المتدارك والمتقارب، وعلى الكامل جاء نصا " سنبلات الحلم، سر الحياة" .
والقافية على تنوعها في شعر التفعيلة، جاءت متناغمة منسجمة، متناوبة في سرعة تدفع الملل، وتسعف على تدفق الدلالة والإيقاع .. ومن ذلك قوله في حشو "هي الباقيات"
فهم قد أرادوا / لها أن تكون / كما يبتغون
حِمًى مُستباحًا / فيا أيها النائمون الكسالى / ألا فاكتبوا الآن
نصَّ الوصية
هو الظلمُ يقطعُ / رأس الضحية
ويعصب عينَ الصباح البريء / ونحن إذا غاب عنَّا الجريء
تضيعُ النفوسُ الكبار الأبية
وتجثمُ بالصدر بومٌ غبية
تموتُ القضية .
ومن جميل نماذج القافية المتناوبة ما جاء في قوله بــ "واحة الحب"
إذا عِشتُ يومًا مُعَنًّى / فَلحنٌ مغَنّى / وحبٌّ لأنَّا
عشقنا الحياة وصرنا فؤادا وماءً وزادا
وطوقَ نجاة
أناديكِ خلا / وفجرًا أهلَّا / وشمسًا وظلَّا
وإني لحبك دومًا / أغني / وأسمع كل العصافير فنِّي .
ومن خصائص إيقاع الديوان حسن تناغم المطلع، كما في "عهود الهوى"
أهواكِ رغم النوى / والآهَ أبديها
يا زهرة للهوى / بالروح أفديها .
والديوان من بعد رؤية إنسانية سوية للذات والواقع، في سلاسة لغة، وجميل بيان، يحتاج صاحبها المبدع عبد العاطي الحسيني إلى مزيد متابعة نقدية تجلِّي خصائص أسلوبه، وتضعه على موضعه الذي يستحقه من خريطة الشعر العربي الحديث .
الهوامش والإحالات
(1) صدر طبعته الأولى في سلسلة إبداع الحرية بمصر رقم 36، عن دار الإسلام للطباعة والنشر بالمنصورة 2006 .
(2) صدر عن مطابع "المقاولون العرب" بمصر، سنة 1991 .
وسوم: العدد 687