شعرية العاطفة بين الشعبي و الثقافي
إذا سلمنا أن الشعر هو طريقة في القول تتسم بخصوصية ما في استخدام اللغة تميزه عن ما اصطلحنا على توصيفه بقول غير شعري.
و إذا سلمنا بكون التفاعل الوجداني الايجابي لدى المتلقي , هو من خصائص القول الشعري دون أن يكون الخاصية الوحيدة
يحق لنا أن نتساءل عن مدى حضور البعد العاطفي و الوجداني في القول الشعري
و ما علاقة هذا الحضور بفاعلية القول الشعري و جماهيريته؟
و لكن كيف نتحسس فعالية القول الشعري ؟!
ربما تكون الذاكرة هي مجال اختبار هذه العلاقة و تحسس أبعادها ,حيث أن الذاكرة هي الأثر الوحيد المتبقي في عقولنا من أثر التعرض – سماعا أو قراءة – للقول الشعري؟
فالعواطف تشكل إطارا ً لفعالية التذكر , فالمواقف الحياتية المشحونة عاطفيا هي ما يحتفظ فيه الإنسان في ذاكرته , أما المواقف العابرة الحيادية الشحن العاطفي سرعان ما تنسى و يطويها الإهمال ؟
و المعنى بحد ذاته هو معنى عاطفي , هو معنى يخصنا , يعني شيئا ما بالنسبة إلينا سواء كان على المستوى الشعوري أو اللاشعوري؟
فثمة رابط يربط بين العاطفة و المعنى و التذكّر و هذا الرابط يستند إلى قرائن علمية كشف عنها علم فيزيولوجيا الأعصاب و الدماغ؟
حيث أن منطقة اللوزة الدماغية amygdala تقوم بتخزين المسارات العاطفية emotional memory للذاكرة ,فهي بمثابة الخزان العاطفي للإنسان سواء أكانت هذه المشاعر ايجابية مفرحة أو سلبية محزنة أو غير ذلك ,فالمعلومات و المواقف المشحونة عاطفيا هي أكثر المعلومات قابلية للتذكر و الاسترجاع, و الدماغ يعطيها الأولوية على سائر المعلومات. بل إن المسار العاطفي للذاكرة عندما يستثار بشكل كبير فإنه يؤدي لاستبعاد التفكير المنطقي .
لذلك سوف نركز نحن البشر في عملية تذكر و استحضار القول الشعري على البعد العاطفي و الوجداني أكثر منه على البعد المنطقي الذي يكسب القول الشعري معنى محدد, حيث أن المعنى هو حصيلة تفكير منطقي يقوم به الدماغ . و بالطبع هناك فروقات فردية بين شخص و آخر و ثقافة و أخرى فيما يخص أرجحيه العاطفي على المعنوي أو العكس.
و الذائقة الشعرية العربية ما زالت تحتفي بالبعد العاطفي و الوجداني في القول الشعري و من منا لم يسمع بهذا البيت الشعري الشهير الذي يختزل الشعرية بالعاطفة و قدرة القول الشعري على تحقيق المشاركة الوجدانية:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه .... فليس حرياً أن يقال له شعرُ
و من هنا يمكن تفسير سيطرة القول الشعري التقليدي المدجج بالوزن الخليلي و القافية على أقرانه من الأنماط الشعرية الأخرى الأقل "هزاً"
و من هنا نجد الغياب النسبي لوجود موسيقى عربية بدون غناء ؟ و الغناء بشكل أو بآخر هو قول شعري محوّر؟
و من هنا نجد جنوح الذائقة العربية نحو الموسيقى و الشعر مرتفع التوتر و الإيقاع و تهميشها للأقل صخباً؟
فالشعراء العرب الأكثر شهرة هو الشعراء الأكثر خطابية
و الشعر العربي الأكثر جماهيرية هو الشعر الأكثر غنائية؟
و لكن هل الذائقة العربية هي استثناء في الثقافة العالمية ؟
أم أنها الحالة الأكثر بدائية و المتوافقة أكثر مع فيزيولوجيا الدماغ و الأعصاب
و ما نجده في الأنماط الثقافية لبعض الحضارات المجاورة من احتفاء بالهامس و التأملي و التجريدي و الأقل ضجيجا - ؟
ما هو إلا عملية تحوير و تطوير لملكات بدائية يشترك فيها كل البشر بغض النظر عن الخصوصية الثقافية؟
و لكن أليس في ذلك تشكيك في ذائقنا نحن العرب؟
أقول القضية هي قضية تربية و ثقافة مكتسبة و قدرة على اكتساب مهارات
فالإنسان بالدربة و تكرار التعرض قادر على تحوير نمط التلقي
لنفترض انسان يرى أول مرة جثة شخص متوفي سيصاب بالارتباك و الخوف و الذعر
و لكن مع تكرار التعرض تصبح مشاهدة الجثة موقف لا يقتضي كل هذا الانفعال؟
هل تماما ما يميز بين التلقي الفطري البدائي لمشهد الجثة و ما تستحضره من خوف و ذعر و افراز الأدرينالين في الجسم..الخ
و بين التلقي الأكثر واعيا ً و الذي يتحسس للأبعاد الوجودية و التأملية لموقف مشاهدة الجثة و ما تثيره من تساؤلات و صور و ذكريات ..الخ
الذائقة العربية الشعرية ما زالت تحتفي بالخطابي و الغنائي على حساب الأنماط الأخرى للقول الشعري
فعلى سبيل المثال:
عندما تطرح على التصويت على عينة عشوائية في أي بلد عربي
هذا البيت لعمر بن كلثوم
"ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا"
و بين بيت شعري آخر
"هناك حب فقير يحدق في النهر
مستسلما للتداعي: إلى أين تركض يا فرس الماء!
عما قليل سيمتصك البحر
فامش الهوينى إلى موتك الاختياري يا فرس الماء!"
سيفوز البيت الأول بنسبة شهيرة في عالمنا العربي يحفظها المواطن العربي جيدا
99.99%
وسوم: العدد 688