رواية مسك الكفاية وتاريخ مضى
صدرت رواية مسك الكفاية للروائي الفلسطيني الأسير باسم خندقجي عن دار العربية للعلوم عام 2014 وعدد صفحاتها 338 من القطع المتوسط.
من خلف قضبان السجن وظلمته...يخرج نور حرية يحلم به سجين، أضاء عصرا نام في كتب التاريخ والذاكرة، وأحيا في روحنا قوة تواجه المشكلات والعبودية، نعم إنها رواية عميقة المعاني ذات أبعاد تاريخية ودينية وسياسية وإجتماعية، أضف إلى ذلك أبعادها الإنسانية الصادقة أثناء الطرح.
لقد نجح الكاتب في روايته، أن يصور الأحداث التاريخية بطريقة درامية مؤثرة، أخذتنا إلى عصر ذهبي من تاريخنا، واسوقفتنا على مشارف ديمومتها الغارقة في بسط السيادة والولاء لمن يعتبرون أنفسهم حماة للدين ويحكمون باسم الدين، ونلمس أن أيديهم لطخت بدماء المعارضين، ووجدنا بها تحولات ومفارقات كبيرة غيرت مجرى الحياة لأشخاص عاشوا البداوة والخوف وخرجوا من الصحراء يتعلمون اغتنام الفرص بحكمة وفطنة، ليسودوا العالم الحاكم بكل ثقة كالخيزران.
من جماليات الرواية أنها من الفصل الأول حتى نهاية الفصل الثالث كانت تروى بلسان الخيزران، وشدنا الكاتب بجمال سرده وأسلوبه إلى رقيق كلماتها وخوفها وحنينها وبكائها، فلقد عشنا من خلال روعة السرد أجمل تفاصيل البعد عن الأم والأهل حينما أخذت الخيزران سبية من قبل امير الجند.
أبدع الكاتب في تصويره وتخيلاته للأحداث،فلقد أخذتنا تفاصيل جميلة ما بين السبي والإنتقال إلى الصحراء ثم إلى قصر الخلافة دون ملل، وفي معظم مواقف التعرف على الخيزران، كانت تذكرنا في جمالها وقوامها ومشيتها، واتخذت من ذلك سبيلا إلى إغواء المهدي نفسه، ولن تقبل بأقل منه رتبة، وفي نفس الوقت كانت تعتز بأنها عربية حرة فلقد علمتها رقية الاعتزاز بتلك الصفة، وغرست في نفسها الشموخ والاستعلاء كنجمة.
وشعرنا أن الخيزران تأثرت بجدة رقية الصحراوية في الفصل الخامس حين همست لها بأنها قمر يحتجب بالسواد ويعم بالنور وأن لها عظمة وقدر من الزمان، فقد ألبستها سبحة كان لها تأثير نفسي على قوة شخصيتها وجمالها.
أدخلنا الكاتب إلى عمق الصحراء وأهلها، ونخوة العربي وشهامته، وتمرد المعارضين وإخضاعهم بحد السيف، وقد أسهب بذلك وكرره في عدة مواقف.
الرواية ذات دلالات عميقة وأبعاد متعددة...والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الكاتب كون من شخصية الخيزران التي أرادت المجد والسيادة والحلم في الحرية رمزا للقوة والحرية ؟ هل جرأة الخيزران في قتل من وقفوا في طريق سيادتها حتى ابنها الذي قتلته يبدو متوافقا مع ما تريده فلسطين من تحرير لذاتها؟ بمعنى آخر هل القتل والسبي ستارا يخفي وراءه الكاتب تحقيق الأحلام والسيادة وبسط النفوذ والاحتفاظ بكرسي الحكم؟ هل حقا نحن في زمن شبيه بذلك الزمن؟
هل كانت الرمزية طاغية على رواية باسم الخندقجي؟ أم كانت واضحة المعالم وأدت الشخصيات التاريخية دورها بكل صدق من قبل الكاتب الذي أتحفنا بروايته الغنية بعنصر المفاجأة؟
امتازت الرواية بالتشبيهات وإضفاء الشاعرية في استخدام الجمل، اتسمت بالترتيب الزمني للتاريخ، وتخلل سردها الآيات القرآنية والأبيات الشعرية والحكم، وأجاد وصف الشخوص والأماكن، فعندما وصف الصحراء جاء بمفردات الرمال والسماء والنجوم والحر والقيظ والتعرق والبداوة، وعندما وصف القصور والجواري وصف أجسادهن وانحطاطهن، كوصف راعية الحريم الفارسية وما تفعله للسبايا حين تذهب لشراءهن من خان الجواري، فهن من شتى الأجناس، حرائر بلادهن، سبايا السلطة، وأن ما كانت ترويه الجواري بعد ليالي السمر مع المهدي وغيره، كذبته خلوب حينما أخبرت الخيزران بأنهن يكايدن بعضهن البعض فهن يختلقن هذه القصص من باب الأماني، وأن مجلس المهدي لا يمت لها بأي صلة، فهل يعتبر ذلك دليل على تشويه ذلك العصر
حدثنا الراوي بما كان في عصر ليس بالبعيد عن عهد النبي صلوات الله عليه، فهل اختلط خيال الكاتب بالحقائق؟ هل تلك الوقائع الإباحية والدسائس السياسية استوحاها الكاتب من مصادر ومراجع تاريخية موثوق بها؟ أم كان للوراق والنساخ ميل لبعض الحكام أو المعارضين، فيزهرون الصحراء، ويقحلون الجنات؟
هل الوقائع التي ترجمت كانت مناسبة لشخصية الخيزران والعصر العباسي؟
أم زاد الكاتب من وهجها وتفنن في تزيينها وفق ما رآه مناسبا لإثراء النصوص بين يديه؟
تحولات جذرية في حياة الخيزران، عاشت في كنف أهلها حرة، ثم تحول مسار حياتها كسبية في صحراء أدت إلى تحول في شخصيتها، حيث اكتسبت من الصحراء الفصاحة والتعلم، وأخذت منها شحنات الأمل والقوة، فلم ترغب بالعودة إلى أهلها ليقال أنها كانت سبية يوما فيحط من قدرها، لذا آثرت التمسك بحلمها، ثم جارية في قصر الخليفة، وبعد خمس عشرة عاما من العيش في قصر الجواري، قرر المهدي اتخاذها زوجة له، وليست ملك يمين أو جارية، ليكون ابنها الهادي البعيد عنها وعن إرشاداتها وليا للعهد، حولت الخلافة لابنها هارون الرشيد فأرجعت لنفسها السيادة والقوة، حولت قصرها للمساكين وأصحاب المظالم، حتى أعتقت الجواري فأصبحن حرائر.
امتازت الرواية بعنصر التشويق في سرد الأحداث، وعنصر التجديد حينما اتخذ من العصر العباسي وبعض شخصياته منطلقا أدبيا يقدمه كرواية.
أخفق الكاتب في روايته حينما أطفأ نور عصر عباسي ذهبي مزدهر متحضر، أنار الشرق بعلمه واقتصاده، والغرب نائم في ظلماته، يتفشى فيه التخلف والاستبداد من قبل الكنيسة وهيمنتها على العلماء والكتاب واتهامهم بالسحر والجنون، في الوقت الذي كان به الشعراء والخطباء والعلماء ينعمون بعطايا الخلفاء ويحثهم ديننا الحنيف على التعلم والمعرفة.
بالقدر الذي تمتعت به أثناء قراءة الرواية، إلا أنني أحسست بظلم الإنسان وتسلطه وعبوديته تجاه الآخر، فأي زمن ستسود به الحياة الكريمة والعدل والمساواه؟
وسوم: العدد 701