شعراء من شمال المغرب: عندما تصبح القصيدة جنة خالدة
يعرف الحقل الشعري المغربي بمنطقة الشمال، تطورا حداثيا، سواء على مستوى الشكل أو المضمون. فالقصيدة الشمالية ذات الطابع الحر، لا تتوقف عن تغيير ألوانها وأساليبها، التي تميل عادة إلى النثر. ويعتبر رواد الشعر الحديث بالشمال، من الشعراء الذين يحاولون الاستمرار في الكتابة الشعرية على الرغم من طغيان الرواية على الساحة الأدبية الوطنية والدولية. كما أن الشعراء الشماليين يجدون صعوبة جمة في نشر مؤلفاتهم، خاصة وأن دور النشر بالمغرب لم تعد تعطي أهمية كبيرة لهذا النوع الأدبي الراقي، الذي يعاني من قلة القراء وصمت النقاد وغياب المهتمين. إن الكتابة الشعرية الشمالية تتميز بطابعها التجريدي، الرمزي، الذي يجعل من الذات محور الكتابة والإبداع. وما يميزها عن باقي ألوان الشعر المغربي، أنها -أي القصيدة الشمالية- تنفرد بلمستها الغربية، إذ تأثرت بالشعر الفرنسي والإسباني. وهذا القرب الجغرافي الأدبي، يظهر بكل جلاء في النصوص الشعرية ذات الطابع الرومانسي الروحاني، حيث تنتصر لغة الحس والجسد على البلاغة واللغة الشاعرية الزائفة. ومن أبرز الشعراء الشماليين، نجد (لا الحصر): الشاعر نجيب بنداوود، وعبد الرحمان الفتحي، وبشرى الموعلي، ونجية الأحمدي وآخرون.
فرغم أن معظم الشعراء المغاربة يتجهون في الآونة الأخيرة، نحو الكتابة الروائية تماشيا مع لغة السوق السائدة. إلا أن الشعراء الشماليين ما يزالون متشبثين بالكتابة الشعرية، بل إنهم جعلوا من حياتهم شعرا ومن كتاباتهم مدحا للشعر وبالشعر ومن أجل الشعر. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فإن شعراء الشمال يكتبون بالفرنسية والإسبانية والعربية، مما يخلق للقارئ فضاء إبداعيا متنوعا يجعله ينتقل بين اللغات الثلاث بدون ملل، كما أن هذا التنوع اللساني يدفع بعض الباحثين الشباب إلى الغوص في أعماق القصيدة الشمالية بحثا عن عوالم شعرية جديدة. زد على ذلك، فإن لغة الشعر في النصوص الشمالية تميل إلى التصوف والتحرر من كل القيود الشكلية والموضوعاتية. ولهذا كله، نجد أنها تعكس هذا التحرر، وتجعل منه أساس الكتابة وملتقى كل اللغات الحسية والرمزية الملموسة والتجريدية. وليس غريبا أن تأثث لغة الجسد والحب والعزلة فضاء مجمل النصوص الشعرية؛ أي أن الشعراء يجدون في هذا النوع من اللغة جنتهم الخالدة.
إن شعر نجيب بنداوود، على سبيل التوضيح، يتسم بالحس المرهف ورمزية اللغة الجسدية. فهذا الشاعر يجعل من جسد المرأة لغة للتعبير عن الغربة والحب والحنين. ففي ديوانه "نهود موجعة" تتحول لغة الجسد من لغة المدح والغزل إلى لغة للألم والمعاناة. وهذا يعني أن نجيب بنداوود هذا، من الشعراء الذين يتمردون على الأسلوب التقليدي في الكتابة الشعرية عن طريق نهج أسلوب المنجاة والحوار الداخلي أو ما يصطلح عليه بالفرنسية "Monologue" في سرد المعاناة. إن ديوان "نهود موجعة" من النصوص التي تصدم القارئ، فالعنوان لوحده متمرد ويتجاوز كل الطابوهات، معلنا بذلك انتصار الحواس على الظلام وانتصار جسد المرأة على لغة التشدد، التي تسجن المرأة في دائرة الصمت والنسيان. كما أن اللغة الشعرية تختلط بالحس المرهف العميق لتكون لنا لوحة رومانسية، تمتزج فيها ألوان الفرح والألم. وهكذا يتبدى أن نجيب بنداوود، شاعر من الشمال يكتب بصيغة "الأنا"، ويجعل منها محورا وذريعة لمحاورة الآخر والطبيعة والأشياء، ولإبراز الأحاسيس وسبر أغوار الذاكرة.
وحسب الناقد محمد ربيعة، فنصوص نجيب بنداوود لا تكف عن استكناه الصور العابرة ما بين التصوير الحسي للحب، وبين العبور العميق للجسد كحامل/وعاء للحب [...]. إنه عبور مثلما هي الشحنة الكهربائية كتعبير عن شفافية الحب [...]. وبالتالي فالشمس الأخرى الممكنة هي شموس ينبعث ضوؤها من أجسادنا نحن الكائنات الحية حيث "فتنة الجسد تتحرش بالجنون. ولا ينقذنا من الألم ومن اللاأمل سوى قدرتنا على منح جسدنا للآخر[...]. إننا نتجاوز أنانيتنا من أجل الهروب من أسر الزمن، لأننا لسنا "عبيد النقط، ولا ظل الفواصل". وبالتالي فهذا الديوان هو صوت الشمس الأخرى التي عندما نقرأها، فإنها تعمل على إيقاظ الإيحاء وتستفز حواسنا أيا كانت شخصيتنا أو مستوانا.
وأما بشرى الموعلي الشاعرة الشابة، فإنها قد جعلت من الكتابة خطابا من الذات وإلى الذات، في محاولة منها لكشف وجه المرأة عبر أسلوب شعري، يرتكز على استعمالها لجمل قصيرة ذات الطابع اللغوي السهل الممتنع، لكن سرعان ما يتحول هذا الأسلوب إلى خطاب رمزي وجودي. ففي ديوانها الشعري "Champs de rubis"، الذي نشر بإحدى دور النشر الفرنسية، تحاول الشاعرة رسم بعض اللحظات العابرة، كلحظة الحب والجمال والحرية. رسم شعري يستمد شكله من بلاغة القصيدة الشعرية الحديثة التي تتجاوز النمط التقليدي في الكتابة، وبذلك تعلن ميلاد قصيدة جديدة تشبه شكل قصائد الهايكو اليابانية. فالشاعرة جعلت من القصيدة باقة ورد يغلب عليها الطابع الرومانسي، حيث تنتصر الروح على الكلمة، وتصبح القصيدة حقول ياقوت حيث الجمال سيد الموقف. فكل نصوصها الشعرية تتميز بلغة إبداعية حسية، كما هو متعارف عليه عند شعراء الرومانسية الفرنسيين. وليس من المغالاة في شيء، أن تشير الشاعرة في ديوانها إلى مجموعة من الأعمال الشعرية الخالدة في الذاكرة، والتي كان لها أثر كبير على نفسيتها خاصة أعمال الأديب الفرنسي جون جينيه، وعازف الكمان الإيطالي الشهير أنطونيو فيفالدي.
وأما عبد الرحمان فتحي، الشاعر الأنيق الذي يجعل من الصمت قصيدة، ومن مطاردة العدم لوحة فنية تعكس عمق الإحساس الشعري، الذي يبرز بكل جلاء في كل نصوصه الأدبية. إنه شاعر بلغة لوركا وجوستابو أدولفو بيكر، إنها اللغة الإسبانية الجاذبة ذات إيقاع الفلامينكو. فالشاعر يكتب عن الفراغ كأنه حاضر، وعن الصمت كأنه اللغة البديلة للكلام حين يحس أن الكلمات لا تنفع لشيء. هنا تظهر تجربة شعرية مختلفة تستمد ركائزها من فضاءات الأحلام العابرة ومن الجنون الرومانسي المتوغل في أعماق القلب والذاكرة. وهكذا تتجلى التجربة الوجودية والحسية باعتبارها هي مرآة الفراغ والحنين، التي يحاول من خلالها الشاعر عكس أحاسيسه. أضف إلى كل ذلك، فإن الشاعر يجعل من الغياب لغة ومن جسد المرأة قصيدة مدح مطولة. فقصائد عبد الرحمان فتحي إذن، تنفرد بطابعها السيكولوجي، حيث الشاعر في رحلة البحث عن الذات في الغياب والحب والرغبة والطبيعة. بما يعني أيما معنى، أن قصائد الشاعر لوحات تنسجم فيها ألوان الحنين والغياب والبحث المستمر عن لحظات تسكن مخيلته الحالمة.
وأما نجية الأحمدي، الشاعرة المتصوفة بلغة الحب، الراوية بلغة شهرزاد. فهي شاعرة متمردة على قوانين القصيدة في إيقاعها ومواضيعها وأشكالها. ولذلك، فإن قصائدها تميل إلى التصوف والروحانية في الكتابة. ففي ديوانها "دموع شهرزاد" تحاول الشاعرة سرد معاناتها على طريقة شهرزاد كما هو متعارف عليه في الكتاب الأسطوري "ألف ليلة وليلة"، لكن نجية الأحمدي تجعل؛ من اللغة الشعرية اعترافا، ومن الكتابة محاولة لكشف الأقنعة التي يرتديها الآخرون. ومن ثمة، فديوان "دموع شهرزاد" يعكس عمق التجربة الشعرية التي عاشتها الشاعرة خلال مرحلة ما "مرحلة الحب"، أو تجربة من نوع آخر كتجربة الاعتراف عن طريق الحلم. وتتوزع قصائد نجية الأحمدي بين قصائد الحب وقصائد المعاناة والتمني. وهذا يبين أن تجربة الشاعرة ذات الطابع المنكسر تجعل من كتاباتها فضاء رمزيا، يتجلى في رمزية لغة الجسد، خاصة لغة الوجه باعتبارها لغة ذات تأويلات كثيرة تعكس عمق التجربة التي مرت منها الشاعرة. إذ إنها تستغل الوجه كترجمة للأحاسيس المكبوتة الداخلية، التي تحاول جاهدة الإفصاح عنها عن طريق وصف وجه الحبيب القاسي المتعنت في لغة الحب. وفي محصلة الحديث، فإن الجميل في كتابات نجية الأحمدي، هو اعتمادها للغة موسيقية تتماشى مع إيقاع الإحساس النفسي. ويظهر هذا الإيقاع عند قراءتنا لقصائدها، حيث الكلمات المختارة بعناية تخلق موسيقى داخلية، تدفع القارئ إلى تخيل حالة الشاعرة والغوص في أعماق القصيدة، وكأننا نقرأ كلمات أغنية رومانسية حزينة. إنها، على الجملة، شاعرة تكتب بلغة المتصوفة، فلغتها العربية المليئة بالإحساس، كفيلة لوحدها بأن تجعل القارئ يقع في شراك القصيدة.
وأخيرا، يمكن القول إن هؤلاء الشعراء يتقاسمون تقريبا نفس التجربة الشعرية، التي تختلف فيها الأساليب والطريقة في الكتابة. لكن نصوصهم تتقاطع في مشكلة التجربة الذاتية ذات اللمسة الوجودية والرومانسية، التي يحاول كل واحد منهم الكشف عنها أو التخلص منها. لتصبح بذلك القصيدة عبارة عن جنة الخلد، حيث الشاعر لا يرى إلا نفسه ويجعل من كل شيء مرآة لمعاناته ورغباته ونزواته. وإن اختلاف الألسنة دليل على أن الشعر بشمال المغرب، يتميز بالغنى الثقافي والأدبي والتاريخي والجغرافي. ولا يمكن دراسة عوالم الشعر في شمال المغرب، إلا عن طريق تخصيص دراسة نقدية لكل شاعر حتى تكتمل الصورة للقارئ.
وبشكل مواز، هناك شعراء مغاربة آخرون لهم من الإبداع ما يفوق حدود المخيلة. وخاصة رشيد خالص، ومنير السرحاني، وعبد النور مزين، وعبد اللطيف بحيري، ومحمد حشوم، الذين جميعا يكتبون بالفرنسية والعربية، وتعرف كتاباتهم إقبالا كبيرا من طرف القراء المغاربة والأجانب. فالشعر لغة لا تموت، والقصيدة جنة خالدة، لأنها تعبير صادق نحت بكلمات من عمق التجربة الوجودية والعاطفية التي عاشها الشاعر أيا كان شخصه.
وسوم: العدد 704