استحضار الألم والذاكرة في قصص "أحمر شفايف" للكاتبة مي قوشتي
مي قوشتي واحدة من المبدعات المصريات من الجيل الجديد الذي يمتلك خصوصية في السرد القصصي النسوي، لأنها انحازت منذ البداية لقضية المرأة وهذا ما يبدو واضح الملامح من خلال باكورتها القصصية الموسومة "أحمر شفايف"، والتي قد تعيدنا إلى أدب نوال السعداوي وسلوى بكر، الذي يمكن أن نقول أنه ينخرط في الحركة النسائية الهادفة إلى تحسين وضع المرأة في مجتمعنا العربي.
فكرة "الأدب النسوي" عرفت رفضا شديدا في الوسط الأدبي والثقافي العربي، وكمثال نذكر موقف الأديبة المصرية لطيفة الزيات التي رفضت بشدة هذا التصنيف كونه يمس بشكل أو بآخر قيمة إبداعها وتهميش ما تكتب أمام مركزية الرجل، فهو رفض مرفوض من الواقع السائد الذي تحكمه الثقافة الذكورية وتسيطر عليه في كل أبعاده، إضافة إلى استخدام وصف الأدب النسائي كوصف يتضمن تحقيرا لهذا الأدب (1). المبدعة الجزائرية أحلام مستغانمي لا تؤمن هي الأخرى بمصطلح "الأدب النسائي" ولا تعطي اهتماما لجنس المؤلف حين تباشر قراءة الكتب حيث تقول: "أنا لا أومن بالأدب النسائي، وعندما أقرأ كتابا لا اسأل نفسي بالدرجة الأولى، هل الذي كتبه رجل أو امرأة" (2)، لأن العديد من الرجال تميزوا بالكتابة على لسان المرأة بامتياز من وجهة نظر صاحبة رواية "الأسود يليق بك".
لا تخلو قصص مي قوشتي من انكسارات المرأة وأحزانها ولكنها ترفض الاستسلام للرجل المهيمن كونها تريد أن ترفع صوتها للكشف عن حالتها النفسية السيئة، كما هو شأن البطلة في قصة "صوت ميت" أين تصرخ منال وهي باكية دون أن ينجدها أحد، وهي بين أيادي ذلك الزوج الذي خانته وأجهضت ابنه بأنانيتها المفرطة: "يتركها متجها إلى باب الغرفة للخروج وهي تصرخ وتحاول فك نفسها فينظر لها قبل أن يخرج: هرجع تاني تكوني فكرتي عايزة تموتي إزاي" (3).
يتكرر الأمر نفسه في قصة بعنوان لا يخلو من الرمزية، هو "خنجر غرام" ليجد المتلقي نفسه يشارك البطلة مشاعرها المنكسرة كأنثى، وكأنه مشهد سينمائي بحت وهي في موقف صعب يدفعها للاختيار بين عشقها وصداقتها لحبيبها: "...في لحظة وضعها أمام أصعب قرار لتختار بين الصديق الحبيب وكأنه تحول بين يديها لشخصين لا يعرف كلاهما الآخر لم تغفر دموعها ذنب عشقها عنده فكان أقسى عليها من ذلك القدر اللعين..." (4).
تسبح بطلات قوشتي بين ثنايا الذاكرة للملمة شظايا ألم أرواحهن المنكسرة، كما هو الحال في قصة "كراكيب فتاة" التي تسيطر عليها فكرة حبها الوحيد الذي تعلم أنها لا تشغل تفكيره مطلقا: "...سيطرت عليها رعشة الشوق إليه مرة أخرى لم تعد تتحمل صداقته بدون حبه وتخاف من خسارته كصديق فيكفيها أن يكون بجانبها فقط ولا يشغلها المسميات..." (5). أما في قصة "هيام" تسترجع البطلة ذكريات من طفولتها وتعبر عن اشتياقها لجدها وحضنه الدافئ: "كان كوخ الأحلام كوخا قديما يحمل رسومات جدي القديمة كان يعشق ذلك المكان وأنا أيضا أعشقه مثله ولكن هذه المرة لم يتركني جدي أدخل إلا بعد أن أغمضت عيني وبعد أن دخلنا الكوخ أوقفني وقال لي: افتحي عينيك يا حبيبة جدو" (6).
تجلس بطلة قصة "بسمه ولكن!!" ككل ذكرى عيد ميلادها لتبكي بحرقة، خصوصا أنها في عتبة الأربعين والماضي يتزاحم كله برأسها وهي الوحيدة المنكسرة بدون زوج وأولاد: "كان شيء بداخلها يحدثها يواسيها يحاول إقناعها بشدة أن دائما ما يكون شيء مفقود في اي علاقة حب...من البلاهة أن تظل عمرك كله تبحث عن ذلك المفقود لانه في الغالب يكون غير موجود اساسا..." (7).
يستوقفنا عنوان قصة "أحمر شفايف" كونه يحمل دلالة رمزية تنحاز لزينة المرأة وجمالها وقد اختارته مي قوشتني عنوانا لباكورتها القصصية، لكنه قد يشير مجازيا لموت أحمر وهو موت شديد، من خلال وجود البطلة ميتة وسط غرفتها بعدما تركت لوحتها الكبيرة وصندوقها المجهول: "لم يعرف أحد اسما لها، حتى هؤلاء الرجال الذين كانت تتمرغ بين أحضانهم لم يعلم أحدهم اسمها، حياتها تحمل غموضا واسرارا لم يعرف سببها غيرها وحدها، تمر أيامها على هذا السيناريو العجيب وفي ليلة دخلت مرسمها وأخرجت أحمر الشفاه كعادتها ومن بعيد يلمحها تقف لحظات أمام لوحتها، يراها تتأمل لوحتها المفضلة إنها أمام عمل فني جميل جدا على قدر غرابته وغرابة ألوانه ولم يبق مكان فارغ في اللوحة إلا ثغرات متناثرة هنا وهناك على اللوحة..." (8).
استعانت قوشتي بتكنيك الومضة في بعض قصصها، غير أنها استبعدت عنصر الحوار للأسف الشديد، وهو ما يعتبر جزء مهما في السياق السردي لأنه يقدم مواقف الشخوص، و يتسم كذلك بالموضوعية والإفصاح والإيجاز.
ركزت مي قوشتي على نفسية المرأة البطلة ومزاجيتها المتغيرة، فهي متقلبة الأحوال بسبب انجراف عواطفها اليائسة والمتمردة في آن واحد نحو الخلاص، كما هو الشأن في القصص التالية: "غدر"، "همسات بائسة"، "نصف ساعة"، "الغرفة السفلية"، "وتر مشدود"، "غرفة إنعاش"، "المحكمة"، "جريمة ممتعة" و"كارمة".
لم تستبعد المبدعة قوشتي الرجل كبطل في "أحمر شفايف"، لكن حضوره جاء محتشما جدا في قصة "شنطة السفر" والمؤلم في الأمر هو نهايته البائسة، بعدما قرر العودة بعد غياب دام ثلاث سنوات وحلمه بالارتباط والزواج وسط أهله غير أن الصدمة كانت أقوى على والديه بعد وفاته في حادث أليم: "أصبحت دائرة العد التنازلي تضيق عليها وكاد يخنقها شعور الإقتراب.." (9).
هوامش:
(1) سعيدة بن بوزة، "صورة المرأة في الرواية النسائية الجزائرية"، مجلة المعنى، ع1، جوان 2008 ، ص 372.
(2) زهور كرام، السرد النسائي العربي، مقاربة في المفهوم والخطاب، ط1، شركة النشر والتوزيع –المدارس-، الدار البيضاء، 2004، ص 94.
(3) مي قوشتي ، أحمر شفايف، دار لمحة للنشر والتوزيع، مصر، 2015، ص 23.
(4) المصدر نفسه ص 4.
(5) المصدر نفسه ص10.
(6) المصدر نفسه ص14.
(7) المصدر نفسه ص43.
(8) المصدر نفسه ص 2.
(9) المصدر نفسه ص40.
*كاتب وناقد جزائري
وسوم: العدد 704