عذارى في وجه العاصفة في اليوم السابع
ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني الحكواتي في القدس رواية عذارى في وجه العاصفة للأديب المقدسي جميل السلحوت، وصدرت الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان الأديب محمود شاهين، وتقع في 234 صفحة من الحجم المتوسّط، عن مكتبة كل شيء الحيفاوية بداية هذا العام 2017.
بدأ النّقاش ديمة جمعة السمان فقالت:
ببراءة "العذارى" وقف الفلسطينيون في وجه "عاصفة" الذّل والهوان
ووجع الفراق على أمل العودة إلى الوطن
ما أحوج أشقاءنا السوريين إلى مثل هذه الرّواية، وفي مثل هذا الوقت بالذات، خاصة وهم يعيشون ذات مأساة من قدموا لهم المساعدة من الفلسطينيين واستوعبوهم في منازلهم ذات يوم في نكبتهم. أحداث الرواية عادت بنا إلى أيام عز الضيف والمضيف، فقد كان كل منهما يتمتع بوطن آمن ينعم بالسّلام، كلّ يوزّع خيراته على العالم أجمع.
وما أجمل أن يحفظ الانسان المعروف، ويشيد بأصحاب الأيادي البيضاء الذين ما قصروا أبدا، بل ارتقوا بمفاهيم الانسانيّة ليس بأقوالهم فحسب، بل بمواقفهم وأعمالهم التي كانت بمثابة البلسم لمن جار عليهم الزّمان.
لقد جار الزّمان على الفلسطينيين في نكبتهم عام 1948 ومن ثم لحقتها نكستهم عام 1967. وكان السّوريون بمثابة الأمّ الحنون التي احتضنتهم وآوتهم وشاركتهم خيراتها. وها هم السّوريون الآن يواجهون عاصفة التّشرد والذل وهجرة الوطن قسرا حفاظا على أرواحهم. بل قد يكون وجعهم أكبر÷، فقد هجّر الفلسطينيون على أيدي العصابات الصهيونيّة، أمّا السّوريون فيهجّرون على أيدي الأشقاء العرب. سويّا مع من مدّوا لهم يد العون من فلسطينيي الشّتات الذين ما تركوا المخيّمات، على أمل العودة للوطن فلسطين، ولكن هل من مغيث من العاصفة الجديدة.
كان يعتقد كلّ فلسطيني هجّر- ببراءة العذارى- أن الغيبة عن الوطن لن تطول، وقد واجهوا "عاصفة" الذّلّ والهوان والجوع والبرد ووجع الفراق بصلابة الواثق من أن الوطن ينتظرهم، وتمسّك كلٌ منهم بمفتاح منزله يحتفظ به في عبّه، وما علموا أن العودة كانت أشبه بالمستحيل.
"السلحوت" نجح في أن ينقل للقاريء مأساة الفلسطينيين عبر نماذج مختلفة من العائلات، بعضها هجّر قسرا، وبعضها بقي في الوطن، وقد عانى الطرفان، تشتّت أفراد الأسرة الواحدة، كل قلق على الآخر، ينتظر أيّ خبر يريحه ويطمئنه عن الآخر، لقد زادت لوعة الفراق من حجم المأساة، كرّرها الكاتب في روايته عشرات المرّات عبر مواقف متعدّدة (ما أصعب الفراق)، فراق الوطن والأهل والأحباب والأصدقاء، أمّا الحنين للذّكريات فقد كان لها النّصيب الأكبر.
نجح الكاتب في بناء الشّخصيات وتطوّرها، خاصّة الشّخصيّات النّسويّة، فقد بناها بناء نفسيّا سليما. والكاتب معروف بتعصبه للنّساء، قد يكون عطفا، أو محاولة منه أن يكون موضوعيّا في نقل صورة المجتمع الشّرقي الذّكوري الذي يظلم المرأة في الغالب.
انتقل الكاتب بنا في روايته بين فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، وقد أعطى كلّ مكان حقّه من خلال وصف المكان والمجتمع بعاداته وتقاليده.
لم يتعصّب الكاتب لأي كان من الطّوائف والأديان، ففي لبنان زوج السّنيّ من الشّيعيّ.. وأكد أن لا فرق بينهما، وذكر المسلم كما ذكر المسيحي، وكأنها رسالة من الكاتب تقول أنّ الانسانية فوق الجميع، وأنّ خلاصنا لن يكون سوى في وحدتنا. شعب عربي واحد بعاداته وتقاليده وقيمه وأخلاقيّاته وتراثه وأصالته. فلنتحدّ سويّاولنتمسك بثوابتنا ليعود لنا عزّنا وعنفواننا.
وقالت نزهة أبو غوش :
يرى د. جابر خضير أن موضوع المرأة يمثل أحد الموضوعات الأساسية في الأبحاث، اتخذت من دراسة واقع المجتمع العربي وما يتحكم به من عادات وقيم وتقاليد مادة لها، مبينا أن المطلع على مجمل موروثنا في جميع مجالاته سوف يجد ذلك الحضور اللافت للمرأة، وهو حضور أفرز الكثير من الدراسات التي تناولت واقع المرأة في الثقافة العربية.
ويبين المؤلف في مقدمة كتاب "المرأة من منظور النقد دراسات في النقد العربي القديم" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، أن النتيجة المتحصلة من هذه الدراسات هي الصور السلبية التي كونتها الثقافة عن المرأة، وهي صور شملت جميع الجوانب المتعلقة بها، الثقافة، والمعرفية، والبيولوجية، والسيكولوجيّة.
لقد تعدّدت شخصيّات المرأة في رواية الكاتب السلحوت بوجوه مختلفة عكست واقع المجتمع العربي عامّة والفلسطيني خاصّة.
شخصيّة رحاب: الزّوجة الّتي هجّرت من بلدتها، قرية حطّين قضاء مدينة طبريّا عام 48،مع زوجها خالد.
حملت برحمها جنينا في شهره السّادس، وتركت خلفها طفلا بعمر سنتين ونصف من زوجها الاوّل طارق. إِن المعاناة والألم الّذي واجهته تلك المرأة، يعكس ظلم المجتمع أوّلا على المرأة؛ حيث ظلمها والدها في البداية بتزويجها في عمر مبكّر من رجل لا تعرفه، ولا تعرف عائلته، ثمّ تصطدم هذه المرأة، رحاب بعائلة مجحفة بحقّها وخاصّة الحماة والزّوج، حيث تمّ تطليقها وأخذ طفلها. الدّائرة الثّانية هي ظلم الاحتلال وتهجيرها من قريتها في شمال فلسطين، وهي مثقلة بحملها، وتشتّتها في قرية جرمانا السوريّة.
عبّر بعض النّقاد، ومنهم النّاقد محمود راغب، بأنّ المرأة تمثّل الوطن، فهل ترمز شخصيّة رحاب في كتاب عذارى في وجه العاصفة إِلى الوطن المنهوش المحمّل بالآلام والأوجاع، والقهر؛ الوطن المشتّت في بلاد الله؟ أم هل هي المرأة السّلبيّة الضّعيفة الّتي قصدها جابر خضير في كتابه " المرأة من منظور الدّراسات في الأدب العربي القديم"؟ أم هي كلا الاحتمالين معا؟ أرى بأنّ شخصيّة رحاب تحمل كلّ تلك الاحتمالات لما صوّرها الكاتب من ضعف وخنوع، وتقبّل سلطة الرّجل والمرأة معا، ثمّ من حيث أنّها شخصيّة تعكس الوطن، فهي أيضا صحيحة.
المرأة المهجّرة من بلدة سخنين شمال فلسطين، الّتي توفّيت وهي في طريقها إِلى قرية السّلوقيّة تاركة خلفها زوجا وثلاثة أبناء.
الموت هو بارادة الله سبحانه وتعالى، لكن هل اختار الكاتب جميل السّلحوت لهذه الشّخصيّة الموت؛ من أجل اعطاء القارئ صورة واضحة للاستسلام. وهو استسلام شعبنا أمام قوّة الاحتلال ومن يواليها؟
شخصيّة فليحة محمود العيسى، المهجّرة أيضا، والّتي التجأت لأُسرة الحاجّ كمال، تنتمي أيضا للمرأة الضّعيفة المحتاجة لمدّ يد العون، تماما كضعف الوطن المحتلّ.
شخصية عائشة، ونوال: هما المرأتان اللتان استقبلتا رحاب وزوجها ووفّرتا لهما المكان والغذاء؛ هاتان الشّخصيّتان هما رمز للقيم والمعايير العربيّة الّتي تتوفّر في أبناء الشّعوب وليس برؤسائها.
كذلك نجد بالمثل شخصيّة فاطمة ابنة الحاج كمال أبي اسماعيل، حيث قدّمت ووالدها كلّ ما تقدر عليه للأيتام أبناء محمود العيسى، الّذي قضى منتحرا نتيجة لصدمته نتيجة للنّكبة والتّرحيل؛ كذلك مساعدتها لعائلة رحاب وخالد، نجد في شخصيّة فاطمة تلك الشّخصيّة الحنونة المعطاء الّتي ابتعدت عن الأنانية والطّمع بدليل عدم معارضتها لقرار والدها بمنح ومساعدة اللاجئين وبناء البيوت لهم ولأبنائهم.
شخصيّة لمياء، أُخت طارق تتشابه وشخصيّة فاطمة، إِذ قدّمت المساعدة لوالدها ولابن أخيها عليّ وقدّمت لهما الحنان.
أرى بأنّ هاتين الشّخصيّتين نادرتين ومميّزتين. لا تنطبقان مع رأي الكاتب العراقي جابر خضير، ولا مع النّاقد المصري محمود راغب. ولا أرى لهما ما يرمز للوطن إِلّا الأمل بالخير والعطاء؛ حيث لا يبخل الكتّاب عادة بإعطاء القارئ بعض الأمل، ولو من بعيد، وهذا ما فعله كاتبنا السّلحوت في روايته.
شخصيّة ميسون، تلك الفتاة الّتي هُجّرت من بلدة سلمة الفلسطينيّة، تاركة خلفها خطيبها في يافا، المدينة السّاحليّة في فلسطين، وسكنت في مخيّم الجلزون قضاء رام الله.
هذه الشّخصيّة ترمز إِلى الاخلاص والتّفاني، حيث رفضت فكرة الزّواج من أيّ انسان؛ بسبب اخلاصها وحبّها لمن كتبت عليه كتابها، علما بأنّ الخطيب نفسه قد تزوّج من غيرها بعد سنة، رغم حبّه الشّديد لها، أرى بأنّ هذه الشّخصيّة هي عكس تلك الّتي كتب عنها الكاتب خضير في نقده عن المرأة في الادب.
شخصيّة مريم الّتي ابتعد عنها زوجها الثائر إِلى لبنان، حيث كان يعود مهرّبا إِلى أُسرته وقد حملت منه. هذه الشّخصيّة هي شخصيّة إيجابيّة عكس شخصيّة والدتها أُمّ شاكر الّتي رأت بأنّ حمل ابنتها هو فضيحة أمام أهل بلدتها.
واجهت مريم الجميع بحملها وكانت قويّة وجريئة ما دامت على حقّ. أعلنت حملها وتحدّت ولم يصبها أيّ قلق، هذه الايجابيّة تحسب للكاتب بدعمه المرأة والوقوف بجانبها، كما فعل أيضا بالشخصيّات الأخرى السّابق ذكرها.
شخصيّة سعاد، أُمّ طارق هي الشّخصيّة السّلبيّة الّتي قصدها الكاتب خضير في نقده حيث كانت متسلّطة، وأنانيّة، ومتعجرفة، ولعوب. هل نجد في هذه الشّخصيّة ما يشبه الوطن حسب النّاقد محمود راغب؟
وقالت رفيقة عثمان:
رواية أخرى تُضاف للمكتبات العربيَّة، لوصف حالة المُهجَّرين الفلسطينيين، أثناء نكبة العام 1948؛ تعتبر نقلة نوعيَّة في كتابات الكاتب، من حيث تناوله للموضوع، والابتعاد بالمكان نحو الاتِّجاه شمال فلسطين.
عنوان الرواية، عنوان صارخ جدّا، لدرجة يجذب القارئ، لاقتنائه.
من وجهة نظري الشخصيّة، لا أجد بأن العنوان مناسب؛ لأن المهجّرين كانوا نساء ورجالا، ولم يقتصر على العذارى. ميسون هي الفتاة الوحيدة التي كانت مخطوبة، وهُجِّرت قسرا، وأبعدت عن خطيبها، ولم يُكتب لها النصيب بالالتقاء به، والزواج منه.
- طغى على أسلوب الكاتب، الأسلوب السردي التقريري، يخلو من التعقيد، ويسهل على القارئ الاندماج بالقراءة، الأسلوب فيه حبكات متواصلة، فتجذب القارئ بالمواصلة في القراءة.
- لغة الرواية سلسة جدّا، فصحى، وقلّت فيها اللغة العاميّة، إلا ما تطلبت المواقف، كما في عرض الأمثال الشعبيّة، المتناغمة مع البيئة، والأشخاص المتحدّثين، حبَّذا لو يتم تنقيح الرواية ثانيةً، لتلافي الأخطاء المطبعيّة الواردة فيها؛ كما ورد صفحة 231، " منذ النكبة 1984"،
- تضّمَّنت الرواية بعض الأفكار التي لا حاجة إليها، ولا تضيف كثيرا، كما ورد صفحة 180-189، عند وفاة زمردة أمّ فاطمة، حيث كان الحوار والحديث في غنى عنه، خاصّة الموقف هو حالة عزاء، كما ورد قال مازحا- ضحك والخ..
- مثّل المكان عنصرا أساسيّا في الرواية، مثَّل عنصر العاطفة، والحنين للمكان –النوستالجا- والتفكير بالعودة إلى أرض الوطن مهما طال الزّمان.
- الأماكن التي تمحور بها الحديث بالرواية: طبريا- حطِّين- جرمانة- دمشق- مخيَّم اليرموك – نابلس- رام الله- مخيَّم الجلزون – يافا- لبنان- مخيم الأمعري- أمّ الشرايط.. الزمن- 1948 ولغاية 1964- كذلك يُعتبر الزمن محور الرواية، كما المكان- الزمنكنيَّة-.
- فكرة هروب علي ليست معقولة، ولا تُقنع القارئ، حتّى لو كانت الحادثة حقيقيّة، خاصّة أنّه ليس للهروب أيّ مُبرّر، بعد وفاة جدِه، ولجأ لأحد الكراجات للعمل فيه، وكانت حياة علي في حماية عمّته لمياء، وكانت تعامله معاملة حسنة، مثل معاملة أبنائها تماما، ولاقى الحب والحنان في كنف عمّته وزوجها، وهو ما زال في جيل الحادية عشرة.
وقالت سوسن عابدين الحشيم:
هذه الرواية هي من الروايات التي توثق نكبة فلسطين عام 1948، والمأساة التي عاشها أهل فلسطين بعد هجرهم قسريا من ديارهم وأرضهم من قبل عصابات الصهاينة. الرواية تراجيدية تحكي قصة بعض العائلات المهجرة والتي يجور عليها الزمن؛ لتعيش في مخيمات اللاجئين حتى وقتنا الحاضر. لجأ الكاتب إلى اُسلوب السرد القصصي موظفا شخصيات الرواية في مشاهد مؤثرة جدا، كان أكثرها مشهد لقاء الأم مع ابنها بعد فراق دام17 عاما، أبدع الكاتب في وصف
حرارة اللقاء وعن لوعة أم مكلومة فقدت ابنها بعد أخذها من حضنها وهو في أشهره الأولى وتطليقها من زوجها، تعيش هذه الأم في مخيمات اللاجئين في لبنان بعد زواجها من رجل آخر وتنجب منه أولادا، ولكن لا تنسى ابنها الأول ودائما تتذكره، عنصر التشويق كان يسيطر على الرواية ويختمها الكاتب بلمّ شمل العائلة ليبعث التفاؤل في نفس القارئ. قصة أخرى أثارها الكاتب لفتاة مخطوبة لرجل تحبه ويحبها، ولكن الحرب تفرقهم قبل زواجهم بأسبوع؛ ليعيش لاجئا في إحدى المخيمات، وهي تنتظره طيلة أربع سنوات تحلم بيوم رجوعه، ولكنها تفاجأ برسالة يخبرها باضطراره للزواج من فتاة أخرى. رسالة يوجهها الكاتب للقارئ بان الحرب تفرق وتدمر وتهدم ، وأولى ضحايا الحرب هن النساء، سواء كانت ابنة أو زوجة أو أمّا، فالمرأة في هذه الرواية تواجه عاصفة هوجاء مدمرة سدّت كل المنافذ والطرق في وجوههن ظلما وعدوانا، سواء من حالة التشتت والخذلان من الحرب، أو من ظلم المجتمع الشرقي لها، يتساءل القارئ بعد الانتهاء من الرواية هل سينتهي الظلم على هذه الأرض؟ وهل سيتحقق حلم العودة؟ وهل سنرى النصر وتتحقق العدالة؟ ربما تنتهي العاصفة يوما ما فلا بدّ من الأمل والسعي لتحقيق أحلامنا، وهذا ما حصل مع الطفل الصغير الذي تمسك بحلمه، وحققه بأن سافر إلى عمان هاربا من ظلم زوجة أبيه بحثا عن أمّه، فيشتغل ويكبر ليصبح شابا قادرا على تحمّل المسؤولية، وفعلا يلتقي بها وبإخوته وتكون نهاية الرواية.
هدى عثمان أبو غوش قالت:
المكان مابين الوطن فلسطين في عكا ومخيم الجلزون في رام الله، وغربة الشتات في سوريا ،الاردن، ولبنان .
الزمان اثناء النكبة وحتى سنة 1964.
"عذارى في وجه العاصفة " هن النساء الفلسطينيات اللواتي واجهن العاصفة، عاصفة النكبة وما خلفتها من تشرد، غربة، فراق ، ووجع.
نساء حملن الهمّ السياسي العامّ، والوجع الذاتي حين قصفت العاصفة حبل الوصال بين أحبتهن، أزواجهن، وفرقتهم وفرضت عليهنّ الأمر الواقع، فسلخت عواطفهن بالقهر، الفقد، والحرمان، فبقين كأشجار الزيتون صامدات يتسلحن بعزيمة الصبر والفرج.
وفق الكاتب في صقل الشخصيات، فالعذارى يحملن صفات الصبر كشخصية رحاب وصبرها على أذى حماتها سعاد، وثم طلاقها وحرمانها من ابنها علي.
وشخصية ميسون ومريم اللتين تحملتا وصبرتا على غربة أزواجهن ناصر وزياد في الشتات .
صفة الحنان تتجلى في شخصية لمياء التي اهتمت بعليّ بن أخيها طارق.
وأيضا بعمّة لمياء التي كانت الأمّ الحنون عوضا عن أمّها السيئة المعاملة .
أمّا صفة الشجاعة فكانت في شخصية رحاب حين دافعت عن نفسها حين تحرش بها الشاب ولمس خاصرتها، فضربته وأسالت الدّم من رأسه، .وأيضا في شجاعة ميسون حين خرجت تجادل من جاء لخطبتها رغم معرفتهم بأنّها مخطوبة .
أمّا الصفة السلبية فكانت في شخصية سعاد المتسلطة وصاحبة المعاملة السيئة لمن حولها فكانت نهايتها مأساوية .
من ناحية أخرى فإن الشخصيات الذكورية منها الضعيفة كشخصية أبى طارق وابنه في استسلامهم لسعاد وعدم مواجهتها، وشعورهم بالندم كان واضحا حين اعترف أبو طارق بتدمير زوجته للعائلة ولرحاب بسطوتها المالية.
أمّا صفة الحنان وروح التعاون فنجدها في عدة شخصيات ذكورية مثل العم كمال حين وقف بجانب فليحة، وساندها ورعاها هي وأولادها بعد أن فقد زوجها عقله وانتحر "وأبو أسعد وأبو اسماعيل وغيرها" وصفة الإنهزامية واليأس في شخصية حمدان زوج فليحة الذي انتحر.
تخللت الرواية عدة مشاهد حزينة، مؤثرة ،ومبكية، ورسائل من الشتات كانت كالصاعقة في وجه العذارى( مريم وميسون) حين اتضح لهن زواج ناصر وزياد في الشتات، بسبب أمر الواقع اللعين رغم الصبر والوفاء .
اللغة جميلة واضحة سلسة لامست مشاعرنا وذبنا بحرقة في تصوير الكاتب لمعاناة عدة شخصيات كرحاب، ميسون، مريم، فليحة العيسى والطفل علي بإتقان .
إستشهد الكاتب كثيرا بالأمثال الشعبية فانسابت الأمثال متناسقة مع الأحداث والواقع.
أنهى الكاتب كل مشهد من مشاهد الرواية بجملة "ما أصعب الفراق" فكانت الجملة كالعاصفة تهز مشاعرنا وتمنيت لو لم ينه الكاتب بهذه الجملة في نهاية الرواية وكانت مغايرة تحمل معاني اللقاء، كأن يقول على سبيل المثال يا رعشة اللقاء .
وقالت أسماء بخاري:
ما أصعب الفراق في رواية عذارى في وجه العاصفة
ما أصعب الفراق! فراق وطن وسم على صدورنا، وفراق عائلات وضياعها
فراق أمّ لطفلها لم تعرف سوى اسمه، وفراق غال على قلوبنا بات تحت التراب،
وفراق أحبّة.
هذا ما تناوله كاتبنا جميل السلحوت في روايته عذارى في وجه العاصفة، فهو يروي قصة معاناة نساء فلسطينيّات تشتتن جرّاء نكبة العام 1948 ولم ينتبه لمأساتهنّ أحد، استخدم الكاتب لغة سلسة، بمقدور القارئ أن يجسدها بخياله، فترى رحاب وهي تتخبط بأحزانها من الظلم وقسوة الحياة، فقد عانت من حمويها وضعف شخصية زوجها الأوّل، وانصياعه لأمّه المتسلطة، وبعدها عانت من التهجير، ويتملكك الحزن عندما تقرأ كلمات تمس قلبك فتنهمر دموعك رغما عنك.
وفي بعض طيات الكتاب وفي بعض المواقف تملكتني الحيرة وتسألت أيوجد في عالمنا أشخاص بهذه الطيبة؟
فمن يؤوي مهجر ويسكنه ويطعمه، حتى أنّه عامله كأبن له، وعندما قرر توريثه صدمت وقلت أبنته ستعترض وتمنعه لكن الصدمة الايجابيّة الأكبر أنها شدت على يديه؛ فهل من المحتمل أن نجد طيّبين مثل العم كمال، قالها المثل "إن خليت خربت" أو كما قال خالد لو أن هنالك أشخاص مثل العمّ كمال لما وجدنا الفقير والمشرد.
النهاية كانت جميلة وسعيدة بالنسبة لرحاب، لكن انتابني شعور بالنقص عندما بقيت ميسون ومريم بلا نهاية، لكن من منا وجد نهايته السعيدة.
كتاب رائع يبعث في نفسك السرور رغم مرارة المضمون.
أمّا ديانا أبو عياش فقد قالت:
تدور أحداث هذه الرواية حول النكبة الفلسطينيّة في العام 1948، وخصوصا نكبة النّساء المضاعفة، حيث تبدأ الأحداث مع بداية اللجوء والتشتت في مخيمات الداخل والخارج، يفصل من خلالها آلام وعذابات هؤلاء الناس من خلال أبطاله الذين يشكلون عينة حقيقية بأسماء مستعارة، ذاكرا المذابح العديدة التي تعرض لها هذا الشعب كمذبحة دير ياسين والطنطورة.
تناول الكاتب هنا عائلات من شمال فلسطين من منطقة طبريا وعكا والرملة وحيفا اللذين اضطروا للمغادرة الى الدول الأقرب إليهم من الحدود الفلسطينية كلبنان وسوريا.
رحاب بطلتنا الرئيسية تتزوج زواجا تقليديّا من الشاب طارق ابن العائلة الغنية في الرملة، فتضطهدها أمّه ( سعاد) التي لها تاريخ سيء، حيث اكتسبت ثروتها من مال زوجها تاجر المخدرات بعد موته وتزوجت رجلا آخر اشترته بمالها، أنجبت منه ابنها طارق وابنتها لمياء، وسعاد هذه كانت من رواد الحانات في حيفا.
تبدأ رحلة رحاب مع العذاب حين يتم تطليقها طلاقا تعسفيا، وهي ما تزال حاملا ببكرها ويختطف طفلها علي منها وعمره ستة أشهر على يد بلطجية استأجرتهم جدّته لأبيه سعاد، التي كانت السبب في طلاقها، بعدها تتزوج رحاب من خالد ابن قرية حطين قضاء طبريا، وتبدأ الرحلة الثانية مع العذاب باللجوء الى سوريا مشيا على الأقدام وهي حامل أثناء حرب النكبة ( 1948)، ويبقى ابنها علي تحت سطوة جدته وزوجة أبيه، ولم يجد من يحن عليه سوى عمته لمياء، وجده ضعيف الشخصية .
ويتم لجوء عائلة سعاد الى مخيم الجلزون في رام، حيث فقدت كل ثروتها على يد عصابة الهاجاناة، وتموت تحت اقدام بغل شموس بعد ترك زوجها لها، مصطحبا حفيده علي؛ ليسكن في بيت ابنته لمياء وزوجها الطيب، وتدفن في رام الله بعيدا عن مسقط رأسها الرملة، وكانت قسوتها عليهم سببا في عدم حزنهم عليها.
بعد 8 سنوات بدأ البعض شراء الأراضي ليقيموا عليها بيوتا لهم يستقروا فيها، حيث يتم اختيارها من أراض بور لأنها أرخص ثمنا.
بعد موت جدّه أبو طارق سنة 1964م يشعر علي باليتم الحقيقي، ويسأل عمته لمياء عن أمّه، ويبدأ بالبحث عنها، حيث يتجه إلى عمّان، وهناك يعمل في كراج لتصليح السيارات، ويتم استغلال تعبه من قبل صاحب الكراج، ويساعده رجل آخر كان يعمل في نفس الكراج على الخلاص، ويفتتحان معا كراجا آخر، ويعلن في الجريدة عن أمّه وعائلتها حتى يستدل عليهم عن طريق مرقص المسيحي الذي اصطحبه إلى سوريا في الحال، وهناك يلتقي علي بأمّه واخوته وليد، وحسن، وكمال وزمردة.
خلال هذه الرواية يتطرق الكاتب الى العديد من المشاكل التي واجهت حياة اللاجئين في تلك الفترة اضافة لما ذكرنا، ومنها:
خطر تسلل الشباب عبر الحدود اللبنانية والسورية إلى بيوتهم في فلسطين، حيث تحمل زوجاتهم منهم، كشخصية مريم التي حملت من زوجها زياد، وكانت تحاول اخفاء حملها حتى لا تتهم بارتكاب الفاحشة ( مع معرفة أهلها للحقيقة) لتصبح حياتها بين نارين، خصوصا بعد وضعها للمولود في المستشفى، حيث كان والده المتسلل يعيش في لبنان منذ سنتين وثماني شهور، وبين أن تعترف بأنه هو والد الطفل، فتخسره بمقتله او سجنه، وتختار أن ينسب الولد إلى أبيه، ولا يعود إليها حرصا على حياته، لتعرف بعد فترة أنّه تزوج وأنشأ عائلة في المنفى، وحتى أنّها لم تسلم من لسان بعض النساء العربيات من بنات منطقتها، يقول ص 140 في حوار بين مريم والموظفة في المستشفى:
"الصحيح أنّني حامل من زوجي زياد محمد الفالح المهجر الى لبنان.
- كيف يكون ذلك؟
منذ هجرة زياد وهو يتسلل إلى البيت كل أسبوع، ويمكث عندنا ليلتين، وحملت منه.
قالت الموظفة باستغراب: يتسلل، يعني يدخل البلاد بطرق غير مشروعة، هذا أمر خطير جدا، سأخبر الشرطة بذلك، كي نعرف ما العمل.
اعملي ما يحلو لك"
ضيق العيش على اللاجئين من حيث الاقامة في الخيام التي زودتهم بها وكالة الغوث الدولية، والتي لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء، مع الظروف الصعبة من حيث قنوات مياه الصرف الصحي المكشوفة في الشوارع، والأوساخ، ووجود القوارض كالفئران التي تجلب الأمراض، إضافة إلى الاكتظاظ السكاني وعيش الأسر في مساحة ضيقة.
لم ينس أيضا ذكر المعاملة الجيدة للاجئين من قبل بعض الأشخاص كعائلة أبي فاطمة، التي استضافت وشغلت أسرة خالد في أرضها، وبالمقابل استغلال البعض للوضع المادي السيء للاجئين، فيطمع بعض كبار السّنّ في الزواج من بنات اللاجئين الشابات، وكذلك استغلال عمل الأطفال كصاحب الكراج الذي كان يستغل علي مقابل لقمة عيشه، ولا يعطيه أجرته كما يجب.
الاضطرار للعمل كأجراء عند الآخرين بعد أن كانوا من أصحاب الأراضي والثروات، مما أدّى إلى عدم تحمل الكثيرين لهذا الضغط كشحصية الرجل الذي طلق زوجته وتخلى عن عائلته ثم وجد منتحرا.
الفراق بين المتزوجين من غير دخول، حيث تبقى الزوجة على أمل عودة زوجها ليضمهما عش الزوجية، فيضيع عمرها في نفس الوقت الذي يقوم هو بالزواج وتكوين عائلة في المنفى.
في الحقيقة لقد أجاد الكاتب عرض هذه القضية التي بدأها من حرب النكبة 1948 م حتى 1967 حيث حرب النكسة، ولم ينس كعادته تطعيم النص الروائي ببعض الأمثال والأغاني الشعبية، والملابس التراثية.
حاول الكاتب هنا أن يجمع ما بين نوعين من الظلم هما الظلم من قبل الاحتلال، والظلم الاجتماعي الذي تمثل كما ذكرنا في الحماة المتسلطة، الجهل، الطلاق التعسفي، تعامل زوجة الأب اللا إنساني مع ابن زوجها، والقال والقيل في أعراض المحصنات من النساء، وهذه ظواهر كانت موجودة في مجتمعنا ولم تزل حتى يومنا هذا.
وكتب محمد موسى عويسات:
والرواية، عنوانها ينبئ بمضمونها، فهي تصوّر حياة المرأة الفلسطينيّة الاجتماعيّة قبيل نكبة عام 1948، وفي أثناء النّكبة وبعدها بعقد ونصف، أي حتّى عام 1964، فهذه تقريبا حدودها الزّمانيّة، أمّا المكان فهو فلسطين قبل النّكبة وبعدها، ومهاجر الفلسطينيين في سوريا ولبنان والأردنّ، الرّواية كانت عشرين مشهدا، مترابطة تجمعها في الغالب العلاقات الاجتماعيّة بين أشخاصها الرّئيسة والثّانويّة، أو رابط الهجرة والشّتات، والشّخصيّة الرّئيسة في الرّواية هي البنت رحاب من الرّملة ابنة أحد الصّيّادين، يخطبها صاحبُه لابنه طارق، وهو ابن لامرأة عرف فيما بعد أنّها سيئة السّلوك والسّمعة، فلم تلبث رحاب مع طارق إلا قليلا، فيطلّقها حاملا، وبعد وضعها لابنها عليّ يُنتزع منها بعد أشهر، ليربّى في بيت أبيه عند زوجة أبيه، وجدّه أبو طارق، وجدّته، أمّا رحاب فيتزوّجها شابّ من قرية حطين، وتقع النّكبة، فيشرّد أهل فلسطين، فكانت وجهة عائلة طارق ووالديه وزوجته وابنه عليّ رام الله، في مخيمي الأمعري والجلزون، أمّا رحاب وزوجها خالد فكانت سوريا مهجرهم، حيث انتهى بهم المطاف في قرية (جرمانا) في بيت السّيّد كمال أبو فاطمة، وهناك تضع في أثناء النّكبة مولودها من خالد وتسمّيه كمالا، وينضمّ إليهم في بيت كمال (أبو فاطمة) فليحة وأبناؤها زوجة أحد المهجرين، الذي لم يحتمل صدمة الهجرة فأقدم على الانتحار، فعاش خالد وزوجته رحاب حياة كريمة في بيت هذا الرّجل الكريم، الذي وهبهما بيته ومزرعته قبل أن يتوفى، ويمنح أيضا فليحة وأولادها بيتا ومزرعة، ويكبر كمال، ويمتهن ميكانيكا السّيّارت، وينشئ كراجا في تلك القرية، أمّا عليّ بن رحاب الذي لم يغب عن بالها، وبقيت تتأسّى على فراقه، فبعد أن حلّوا في مخيم الأمعري، يهرب به جدّه، من ظلم زوجة أبيه، ومن بغض الجدّ لزوجته أمّ طارق، إلى بيت عمّته لمياء التي تسكن مخيّم الجلزون؛ ليكبر في بيت عمّته، ولمّا مات جدّه وجد نفسه وحيدا، وعرف اسم أمّه وزوجها، فيهرب من البيت، ويعثر عليه في الطريق إلى أريحا سائق شاحنة ليلقيه عند صاحب كراج في عمّان، فيعمل شهرا، فيحاول صاحب الكراج أن يستغلّه، ولكنّه وجد رجلا طيّبا من عمّال الكراج ينتصر له، فيترك العمل ليشاركه في كراج جديد على طريق المحطة، وهناك تفتح له أبواب الرّزق ليشتري بيتا، وفي يوم من الأيام يتعرّف إلى رجل من الشّام يعرف أخاه من أمّه، فيطير إلى الشّام إلى جرمانا، ويلتقي بأمّه، وهنا تنتهي الرّواية بأحداثها الرّئيسة، وفي ثناياها مشاهد وأحداث وتفاصيل مثيرة مبكية.
والمرأة الفلسطينيّة هي محور هذه الرّواية، وإطارها هو النّكبة بكل حيثياتها، التّشرّد ومفارقة الوطن والأهل والولد والزّوج، وحياة اللجؤ والمخيم وانتظار العودة، وتخوض المرأة في هذه الرّواية صراعين: صراعا مع الاحتلال، تخوضه جنبا إلى جنب مع الرّجل، وصراعا اجتماعيّا يدور في أعراف وعادات تذهب المرأة فيها ضحيّة، تورّثها صراعا داخليّا مؤلما، فمن الصّراع الأوّل هجرتها وتشرّدها ومقاومتها لآثار الهجرة بإصرارها على العمل، وتحمّل تبعات الحياة مع الرّجل جنبا بجنب، وأبرز مظاهر هذا الصّراع ما كان مع مريم عندما وضعت وليدها في أحد مشافي عكا، وكان زوجها زياد الفالح يتسلل إليها من لبنان في الأسبوع مرّتين، وثباتها أمام المحقّق الذي حاول أن يساومها على السّماح له بالعودة مقابل أن تكون هي وزوجها عيونا للاحتلال، فترفض ذلك رفضا باتا، وتفضّل ألم بعده عنها على العودة المعيبة.
بدت المرأة الفلسطينيّة في هذه الرّواية في أروع مثال وأجمل صورة، صورة منسوجة من خيوط الصّبر(صبر رحاب مع أمّ الزّوج الأوّل طارق)، والوفاء ( وفاء ميسون لخطيبها)، والانتماء للوطن والقضيّة، والانتماء للأسرة (فليحة وعملها في مزرعة العمّ أبو فاطمة)، والانتماء للشّعب (رفض مريم للتّعامل مع المحتل)، وخيوط المشاعر الصّادقة والعواطف الإنسانيّة الجيّاشة للولد والزّوج والخطيب والأب، وقوّة الشّخصيّة فرحاب تهشم رأس شابّ حاول التّحرش بها، ومن الصّراع الثّاني ما كان مع رحاب في زواجها الأوّل، وما كان مع فليحة التي لقيت ما لقيت على يد زوجها قبل أن ينتحر، وما كان مع مريم عندما حملت من زوجها المتسلل، كيف تواجه النّاس بحملها؟ وماذا يقولون؟ وما كان مع ميسون حيث جاء ليخطبها رجل متقدّم في السّنّ مستغلا بعدها عن خطيبها، ولم يُغفل كاتب الرّواية عرض بعض النّماذج الشّاذّة من النّساء كشخصيّة أمّ طارق، وشخصيّة امرأة طارق الثّانية التي كانت سببا في تشرّد عليّ بن رحاب، والمرأة التي حاولت أن تتّهم مريم في حملها، وهذا ما يشهد على واقعيّة القصّة وصدق التّوصيف لواقع المرأة .
الرّواية من ناحية العاطفة، يغلب عليها الحزن والأسى رغم لحظات الفرح بانفراج أزمة هنا وأزمة هناك لبعض شخصياتها، ويعبّر عن هذه العاطفة العبارة التي تلازم معظم المشاهد، وتتردّد على ألسنة شخصيّاتها وتختم بها الرّواية، وهي ( ما أصعب الفراق! ) عبارة جاءت بأسلوب التّعجب القياسيّ، تعبّر عن جرح عميق أورث جراحا لا تندمل، وتشعر أنّ مردّدها يخرجها من أعماقه بزفرات محرقة، نعم ففي فراق الأهل (ما أصعب الفراق!) وعند فراق الولد( ما أصعب الفراق! )، وفي فراق الزّوج أو الخطيب( ما أصعب الفراق !)، ولكنّها كانت عظيمة في فراق الوطن، وهكذا استطاع الكاتب أن يلخص مشاهد الحزن والأسى، ويأبى الكاتب إلا أن يعطي فراق الوطن عبارة أخرى تعكس مأساة الفراق في نفس الفلسطينيّ عندما نسمع كثيرا من الشّخصيّات تقول: "ليتنا متنا في ديارنا وما خرجنا منها ."
المحور الثّاني في الرّواية بعد المرأة أو ما أسميناه هيلكها أو إطارها العامّ، لم تكن فيه صورة المعاناة غائبة عن القارئ من قبل، فصور التّشرد تملأ الرّحب، ونطالعها بأمّ أعيينا صباح مساء، إنّما الجديد والذي أبدع فيه الكاتب هو كيف استُقبل المشرّد الفلسطينيّ في بلاد العرب وبخاصة سوريا، وتلك الحفاوة التي لقيها المهجّرون في السلوقيّة وجرمانا، وما قدمه العمّ كمال لرحاب وزوجها وفليحة وأبنائها، وما كان من زواج الفالح والفرحان لبنات الرّجل اللبنانيّ، فلم يلق الفلسطينيّ الرّفض من هذه الشّعوب، بل لقي حسن الاستقبال والتّعاطف وأيدي العون، وهنا يحاول الكاتب أن يصوّر براءة هذه الشّعوب في تلك الأيام، فلم يكن هناك طائفيّة ولا مذهبيّة، فبنو معروف (الدّروز) يستقبلون المشرّدين بحفاوة منقطعة النّظير، ووأبو نبيه الشّيعي يزوّج ابنتيه لفلسطينيين سنّيّين، والرّجلان يسمّيان ابنيهما بكر وعمر، وأمّ مريم عندما تسمع الخبر لا تعرف ما معنى شيعيّ، فالرواية محاولة لطمس وهدم الطائفيّة والمذهبيّة.
وتعدّ هذه الرواية بحقّ توثيقا تاريخيّا لجانب إنسانيّ في نكبة فلسطين، وتفاصيل التّشرّد والمعاناة، واستقبال الفلسطينيّ المهجّر في بلاد العرب، وقد أشار الكاتب إلى بعض الأمور التّاريخية كإخلاف الانجليز وعدهم للحكّام العرب بحلّ قضية فلسطين مقابل إنهاء ثورة 1936 ووقف الإضراب الكبير، ومنها ما جاء على لسان إمام المسجد في جرمانا حيث عرّف الناس بعزّ الدين القسام، ومن جانب آخر تعدّ الرّواية وثيقة لأمثال وأقوال شعبيّة فلسطينيّة، فقد وثقّ الكاتب أو وظّف التّراث القوليّ في أثناء أحاديث الشّخصيّات وحواراتها، مثال ذلك : ( المال اللي تجيبه الريح تاخذه الزّوابع)، وغيره الكثير الكثير .
هناك بعض الأحداث التي حاول الكاتب أن يمرّ بها، والتي قد تكون ظواهر اجتماعيّة، مثل استغلال أو محاولة استغلال الأطفال المشرّدين في أسواق العمل في البلاد العربيّة، وهذا ما كان مع عليّ في كراج أبي عبدالله وغيرها .
الللغة فصيحة سلسة، لا غرابة في ألفاظها، وهذا ما يفرضه توصيف أحداث واقعيّة، وعباراته بعيدة عن الرّمزيّة، ولكن لا تخلو من ومضات موحية، كقول أبي اسكندر لعلي ربيع: "ما يهمّني هو العمل أمّا عشقكم للبحر فهذا شأنكم. ولم يشأ الكاتب أن يشغل القارئ بلغة الاستعارة والخيال البعيد، ويلاحظ أنّ الصّور الفنيّة قد أتت عفو الخاطر لا تكلف فيها من مثل قوله: " كان النّسيم العليل يتسلّل من فوق بحيرة طبريا حاملا رائحة الموت ... وغراب الجوع يفرد جناحية على جموع اللاجئين" . ومّما ميّز أسلوبه اللغوي أنّه كان يحرص على وضع الألفاظ العاميّة أو الأمثال والعبارات الشّعبيّة بين قوسين، كقوله : (الهجيج)، وأرى أنّ الكاتب ربما اختار أسماء بعض شخصيّاته بعناية فائقة، فمنها ما يحمل إيحاءات نفسيّة مثل: رحاب، أو تاريخيّة مثل ميسون، أو دينيّة مثل زليخة .
تراوحت الرّواية بين الحوار والسّرد، ولكنّ الغالب عليها هو الحوار الخارجيّ والدّاخليّ، فبهما وصف الكاتب الشّخصيات ورصد الأحداث، وهذا ما أعطى الرّواية بعدا تأثيريّا عميقا، مثال ذلك أنّه جعل رحاب هي من تروي قصّة زواجها من طارق، وما لاقته من أذى وعنت .
وفي الختام يبدو أنّ الكلام في الرّواية يطول، ولكن يجدر أن نشير إلى أنّها تحتمل بعدا رمزيا آخر، لا أرى فيه تعسّفا ولا مبالغة أو تحميل النصّ ما لا يحتمل، وهو أنّ رحاب تمثّل الحالة السّياسيّة التي كان يعيشها أهل فلسطين قبيل النّكبة، وأنّ زواجها من طارق هو وقوع الثّورة في حبائل الإنجليز، فأضحوا ضحايا للمؤامرة، وانتقال رحاب إلى الشّام هو انتقال من يمثّل الحالة السّياسيّة الصّادقة، وأنّ عليّا الذي انتقل إلى رام الله ومن ثمّ إلى الأردنّ هو مولود رحاب، الذي سلم من المكائد والاحتواء، في رام الله وفي الأردنّ، واستطاع أن يلتحق بأصله في الشّام رجلا يحمل مسؤوليّته، فكأنّه مثّل الثّورة الفلسطينيّة، فأمّه في الشّام وبيته في الأردنّ.
وأقول للكاتب لا فضّ فوك، ودام عطاؤك، وروايتك إسهام جليل في إبقاء الذّاكرة الفلسطينيّة حيّة، وكأنّي بك تقول: كي لا ننسى التفاصيل، فتتشوّه صورة النّكبة، بأن تكون ذكرى عابرة، فروايتك تنكأ الجراح، التي طالما حاول الآخرون كتمها أو طمسها، وروايتك تضع علاقة جدليّة بين الهزيمة الاجتماعيّة بما فيها من ظلم وهضم، والهزيمة السّياسيّة التي ما زلنا نكتوي بنارها .
ومن جنين كتبت اسراء عبوشي:
عذارى في وجه العاصفة رواية نسويّة بامتياز
الرّواية تسرد جوانب من حياة المرأة الفلسطينية زمن نكبة العام 1948 وما تلاها من سنين، في بناء روائيّ متكامل يسرد الكاتب الأحداث بمنطق وتسلسل لافت، ينتقل من حدث لآخر وكأنه أحد عناصر تلك الحقبة من تاريخ شعبنا، يحمل القيم العربيّة الأصيلة، فتارة تعجب بكمال السّوري الذي يعتبر رحاب وخالد ووفليحة أبناء له، ويقف لجانب فلسطينيّي الشّتات، وتارة آخرى يعرض أضرار زواج الأقارب، ويحارب الطّائفيّة فلا فرق بين مسلم ومسيحيّ،ولا شيعيّ وسنّيّ.
حين يكتب الرّجل عن المرأة غالبا يصف واقعها، يكتب بعيدا عن عالمها، لا يتعمق بمشاعرها وأحاسيسها، ولا يتماهى بأسلوب حياتها، الأديب السلحوت ينصف المرأة ويدخل صميم واقعها، يحلل مشاعرها ونفسيّتها، نساء الرّواية عذارى بامتياز.
رواية " عذارى في وجه العاصفة"، تتحدث عن معاناة المرأة الفلسطينيّة، والمظالم التي لحقت بها بسبب النّكبة، وتطرح الظروف التي تحيط بها، وتقودها لمواجهة عواصف شتى.
عاصفة الشّتات
تصوّر الرّواية رحاب المرأة الحامل، تتجه برفقة زوجها خالد بسبب ويلات الحرب من حطين قرب طبريّا إلى سوريا، لتستقرّ في ( جرمانا) في بيت السّيّد كمال أبو فاطمة، رحاب تنظر خلفها حيث( عليّ) ابنها من زوجها الأوّل، الذي خطفه بلطجيّة حماتها من حضنها، ذنبها أنّها ابنة صيّاد سمك تزوجها طارق - الزّوج الأوّل- صبرت رحاب على سوء معاملة والدته سعاد، ومع ذلك طلّقها زوجها تحت الحاح أمّه عليه، جوانب عديدة تناولتها الرّواية، بسردها حكاية رحاب، زواج البنت بدون أخذ رأيها،"قمع المرأة والبكاء بصمت " صفحة31"، سمعة العائلة التي تصف الإناث بطباع ليست من صفاتهنّ، يترك محمد أبو الوفا خطيبته أمنة أخت أبو طارق بسبب سمعة أمّ طارق، فتربّي لمياء وطارق أفضل تربية، ويدلّ ذلك أن الأحكام على النّساء بسبب أخطاء ذويهنّ ظالمة، لكن طيش أمّ طارق وعنجهيّتها، جعلها عرضة لعصابات الهجانا ذهب التي سلبت مصاغها ونقودها صفحة 35.
أمّا عليّ الطفل بن طارق ورحاب فينتقل من بيت والده الى بيت عمته لمياء بعد النّكبة واللجوء بسبب ظلم زوجة أبيه له، حيث يسخّر جدّه حياته لتربيته، وحين وفاة الجدّ يذهب عليّ؛ ليبحث عن والدته، ليجد بعدها من يستغله ومن يساعده، في النّهاية يلتمّ شمله على والدته رحاب؛ لتنتهي الرّواية بأثر طيّب وبعبارة( ما أصعب الفراق!) عبارة مواساة يلقى بمضمونها القاريء كلّ تلك الأحزان التي تسللت عنوة إليه، فالتشرد من ناحية والفراق من ناحية آخرى، وأحزان محصورة بآلالام عذارى تقف بوجه عواصف لا ترحم.
تعطي الرّواية مثالا إيجابيّا للمرأة التي تسند زوجها وأولادها، وتعمل من أجل إعالتهم، ولا يذهب صبرها سدى حيث يهب كمال أبو فاطمة فليحة محمود العيسي زوجة حمدان سميح العلي، الذي فقد عقله ممّا جرى له ولشعبه ولم يتحمّل الضّغوطات، فانتحر " صفحة 118" هنا صورة آخرى تضفي الواقعيّة على الرّواية.
وبين فراق وتشتّت ولقاء تبقي الرّواية القاريء معلقا بين سطورها، تشوّقه فينهي مطالعتها وصور شخصيّاتها وأحداثها وزمانها مرسومة في فكره وخياله.
عاصفة الحبّ
للحبّ معنى واحد يتغيّر حسب الحالة، فإذا وقع بقلب المرأة كان روحها، يانعا بقلبها دائم التّجدد، وأمدّها بالحياة، يبقى شفافا بناظريها فترى الدّنيا من خلاله، ترى رجلا واحدا يتجسّد به حبّها فلا تتغيّر صورته، يسكن حبّه قلبها للأبد، لا بديل له، أمّا حين يقع الحبّ بقلب الرّجل، فهو حالة تتطابق وتختلف حسب الأجساد التي تمثّله، وكأنّ المرأة تحبّ روح الحب، والرّجل يحبّ الجسد، الرّوح تبقى والجسد يفنى.
هي صرخة مكتومه بقلب المرأة يطلقها الكاتب، على لسان ميسون إبنة التسعة عشر عاما التي ما زالت تنتظر خطيبها ناصر أمين، فرّق بينهما شتات النّكبة، انفصلا جسدا ولم تنفصل روحاهما، فارق أسبوع عن النّكبة كان موعد زفافهما، تنتظر ميسونُ ناصرَ عشر سنين بعد النّكبة وسنة قبلها، ولكنّه لا ينتظرها، يتزوّج وينجب ثلاث بنات وولد، تردّ عليه حين تعلم بأخباره: طعنتني في القلب إلا أنّني سأبقى وفيّة لك، أمّا هو فيطلّقها حين تصله رسالتها، ببعض حروف يقتل الحبّ، وحسب فهمه يعتقد أنّه ينصفها حين سمّى أكبر بناته باسمها، لا يلتفت لعمرها الذي أضاعته بالإنتظار. صفحة 223.
حوار يأخذه الكاتب من صميم واقع المرأة بكلّ مكان، لمياء: الرّجال يا ميسون لا أمان لهم، ولا يستطيع الواحد منهم أن يعيش بدون زوجة.
ميسون: أحبّ ناصر حبّا جنونيا، وقلبي لن يدق لغيره.صفحة 166.
الصّرخه الآخرى على لسان مريم زوجة زياد المفلح، الذي يعمل بقسم تخليص البضائع في ميناء حيفا، يتشرّد عن زوجته وأطفاله الثّلاثة في عكّا، ولكنّه يبقى يتسلل لبيته ، تكتمل المعاناة حين تحمل مريم، فلمن تنسب الطفل؟ لخاله شاكر أم لأبيه؟ إنّه الشّتات تقول الجارة: ما هذا الزّمن الذي وصلنا فيه أن يتسلل الرّجل خلسة إلى بيته، وتخاف المرأة من حملها من زوجها؟ لعن الله من كان سببا فيما حصل لشعبنا.
مريم تتحمّل أن تصاب بشرفها، وتقاتل من أجل إثبات نسب الابن لأبيه، بينما زياد يسمع كلام والده: إذا كنت تتسلّل من أجل مريم فالنّساء كثيرات.صفحة 148.
وحين يرسل زياد رسالة لزوجته مريم واصفها بالحبيبة، بعد أن تزوّج أخرى، تردّ غاضبة وساخرة من إلحاح أمّها في السّؤال عن سبب زواج زياد:"تزوّج عندما كنتِ مسافرة!" ومع ذلك تتقبّل مريم الأمر، وتخبرأبناءها بأنّ لهم أخوة من أبيهم وتبقى تنتظر، ولا تتقبلّ الزّوجة الثّانية من زياد مجرّد ذكر اسم مريم في رسالة صوتيّة، وهنا يظهر الكاتب ضمنيّا معنى كلمة عشرة " يدخل بصميم مشاعر المرأة" .
في الرّواية الكثير من الأمثال الشّعبيّة يوظّفها الكاتب في مكانها الصّحيح، لتصيب صميم الأحداث، ( الرّجال معادن " صفحة 64"، ما بحن على العود إلا قشره" صفحة 110" ، جبل على جبل ما بلتقي، وانسان ع انسان بلتقي" صفحة 122"، ياما تحت السّواهي دواهي صفحة : 146.
وقد أخترت بعض الأقتباسات من الرّواية التي تظهر لغة الرّواية البلاغيّة:
لا مدن تعرف البحر أكثر من يافا التي تنام في حضنه، فيغسل قدميها، ويطيب هواءها مع عبق البرتقال والليمون. صفحة 128.
لا يرى دموعها إلا نجم يتلصّص عليها من النّافذة، فيرسل شعاعه الذي ينكسّر على أغصان الياسمينة التي زرعتها بجانب النّافذة. صفحة 215، ذلّ التّشرّد يطرق سندان رؤوسهم بشدّة. صفحة 13، هناك أسر انقسمت قسمين تفصل بينهما حدود الموت. صفحة 61، من بعيد يرى جبال قاسيون، فيتذكّر الجبال التي تحتضن طبريا من جهات ثلاث تاركة الجهة الجنوبية؛ لترافق نهر الأردن عبر الغور إلى البحر الميت، صفحة 70، رائحة التّراب تبعث الدّفء في القلب والنّشوة في الرّوح، وتطيل العمر. صفحة 71، ترضع رحاب ابنها كمال، وقلبها معلّق بابنها عليّ، الكلمات المكتومة في صدرها عن عليّ تحرق كبدها الملتاع. صفحة 98،عكا لا تخاف هدير البحر. صفحة 79.
يطول الحديث عن الرّواية الزّاخرة بالأحداث والقيم والعادات والتّقاليد، والتي تظهر سمات المرأة بشكل خاصّ، وأثر كلّ ذلك على حياتها، وكيف تدفع الظروف المرأة لتواجه أمورا فوق طاقتها.
في المحصّلة: رواية عذارى في وجه العاصفة طرقت بابا لم يطرقه أحد من قبل الأديب السلحوت، وهو المظالم التي لحقت بالعديد من النّساء الفلسطينيّات بسبب النّكبة، وما تسبّبته من تشتيت أبناء الشّعب الفلسطينيّ، وبقيت معاناة هذه النّساء حبيسة صدورهنّ، لأنّ أحدا لم يلتفت إليهنّ، ولم يحاول التّخفيف عنهنّ لأنّ حقوق المرأة مهضومة دائما.
ومن طولكرم كتبت رولا خالد غانم:
العنوان: يتضح من خلال العنوان الذي يتكون من جملة اسمية أن الجزء الأكبر من الرواية قد خصص للحديث عن المرأة وقضاياها، فعذارى جمع عذراء، وهو يدل على حضور أكثر من امرأة في الرواية، والجزء الآخر من العنوان( في وجه العاصفة) يشير إلى تعرض المرأة لشتى أنواع المعاناة وصمودها ومقاومتها، وبالفعل لم ينفك العنوان عن المضمون، فكان متلاصقا به معبرا عنه تماما، وهو كعادته يتحيز للمرأة التي ظلمت مرارا تارة على يد المجتمع، وتارة على يد المحتل إثر النكبة، فرحاب وهي إحدى بطلات هذه الرواية أجبرت على الزواج من طارق، لتعاني الويلات مرة أخرى على يد والدة زوجها، التي كانت تعاملها كجارية وتعيرها بأبيها الصياد، ليتضح فيما بعد أنها سليلة أسرة وضعها أدهى وأمر، فهي ابنة عتال وزوجة سابقة لتاجر مخدرات، ولم يطرح الكاتب هذه القضية عبثا بل هدف إلى تسليط الضوء على عقدة النقص المتجذرة عند البعض في مجتمعنا، ولم يكن القدر لطيفا مع رحاب مطلقا حين فصلها عن زوجها وحرمها من ابنها، وهاجرت مع الجموع التي اقتلعت من جذورها، لتبقى صامدة شامخة في وجه الرياح العاتية، وتبدأ حياتها من جديد مع زوج آخر، وفي وطن آخر بين أيدي أناس سوريين أكثر رحمة، وكأن الكاتب يريد أن يقول: إن الدنيا لا تخلو على الإطلاق من العنصر الطيب، فكمال السوري احتوى رحاب وزوجها ووقف إلى جانبهما، ووفر لهما عملا في أرضه فأكلا من خيراتها، واعتاشا من عائداتها، ليبين مدى أهمية الأرض وعطائها. ولم ينس في روايته التي تقوم على التفاصيل الصغيرة، فتجعلنا نعيش الأحداث بحذافيرها، وكأننا أحد أبطال الرواية، لم ينس قضية الإشاعة التي تمتاز بها مجتمعاتنا، فدارت شائعات حول مريم، تفيد بأن مولودها ليس ابن زياد الفالح زوجها، زياد الذي كان يترك لبنان ويتسلل ليتصل بزوجته. لقد برع الكاتب وسط هذا المزيج الذي يجمع بين الخيال والواقع، بأسلوب شائق وجميل، في نقل صورة دقيقة عن واقعنا الاجتماعي والسياسي، ليس بهدف التعرّي أمام العالم، بل بهدف التغيير نحو الأفضل، والتأكيد على الهوية وكسب الرأي العام، فكان مخلصا وفيا لقضيته، منصفا لنساء المجتمع، ناقدا جيدا، لسلبيات تأصلت في مجتمعاتنا العربية.
اللغة: اتكأ الكاتب على اللغة الشاعرية حينا، والعامية حينا آخر، موظفا بعض الأمثال الشعبية والآيات القرآنية.
المكان: كان المكان واقعيا، متعددا شمل( رام الله، الداخل المحتل، سوريا، الأردنّ ولبنان) مما أثرى الرواية ومنحها زخما.
الخاتمة: أقفل الكاتب أحداث الرواية بأسلوب رائع ومثير، فعجلة الزمان دارت، وأخذت حق رحاب، حيث عانقت ابنها وارتوت من أحضانه بعد طول غياب، فقد توصل إليها من خلال إعلان في صحيفة، وتوفيت والدة زوجها الأول بطريقة شنيعة تحت حوافر بغل. الحق أن الكاتب بذل جهدا واضحا في هذه الرواية لتبيان الظّلم الذي لحق بفلسطينيّات كثيرات بسبب النّكبة وما تبعها من تشتّت العائلات الفلسطينيّة، وينبع تميّز هذه الرّواية أنّها طرقت باب بكرا لم ينتبه له أحد.
ومن شيكاغو في أمريكا هناء عبيد:
لعل ما يميز الروايات الفلسطينية هو ذلك الألم الذي تبثه في أرواحنا من خلال سرد رحلة الشقاء التي يقطعها الفلسطيني سواء على أرض الوطن أو المنفى.
وقد كانت رواية عذارى في وجه العاصفة للروائي المقدسي جميل السلحوت إحدى هذه الروايات، التي تنقلنا إلى أرض الحدث والمعاناة والشقاء، ولكن من باب آخر فقد تعرضت الرواية إلى موضوع لم يطرح سابقا، ويبدو ذلك بوضوح من خلال عنوان الرواية، فقد تناولت العناء الذي تعرضت له المرأة الفلسطينية إبّان نكبة عام 1948وما بعد ذلك، إضافة إلى الظلم الذي يقع عليها بسبب العادات والتقاليد وسيطرة المجتمع الذكوري، فهي دوما الضحية التي تتأثر بالتغيرات الاجتماعية والحروب وتدفع الثمن مضاعفا.
استفاد الروائي من فترة زمنية مهمة في حياة الشعب الفلسطيني، وصاغها في قالب سردي أدبي وأسلوب شيق رغم مرارة الألم التي تغلف أحداثها. وقد بنيت أحداث الرواية على عدد من القصص المتداخلة التي وجدت من الأسى والعذاب والتشرد الذي واجهته العائلات الفلسطينية رابطا يجمعها. استهل الكاتب روايته بقصة عائلة رحاب التي هاجرت مع آلاف المشرّدين إلى الأراضي السورية هربا من بطش الإحتلال، متأملة بالعودة لاحقا إلى قريتها بعد أن تنتصر الجيوش العربية على المحتلين، وتسترد الأرض المغتصبة، ترحل رحاب وهي حامل بشهرها السادس، وفوق الثقل الملقى عليها تضع على رأسها سلة مواد غذائية لا تكفي سوى ليومين وتجوب بها عبر رحلة الشقاء، يرافقها الرحلة زوجها الذي كان يحمل على ظهره ما لا يقل عن خمسة عشر كيلو غرام من الطحين، وفي يده قربة ماء، صورة لا تقل شقاء عن بقية معاناة الشعب الفلسطيني المهجّر في بقاع الأرض. يرافق عائلة رحاب الآلاف من الفلسطينيين، بينهم العجزة والمرضى والأطفال الرّضّع الذين يتعرض الكثير منهم إلى العديد من المخاطر والمرض والموت. تتوفى إحدى السيدات في الطريق مخلفة وراءها ثلاثة أطفال، فتجد العون من خلال أسرة سورية يعيلها محمد معروف الذي يقوم بواجبات دفن الأمّ ورعاية أسرتها. تواصل القوافل المشرّدة مسيرها في الطريق إلى هضبة الجولان السوريّة وهي مثقلة بذكرياتها المؤلمة ووجع قلبها من أهوال مذبحة دير ياسين والطنطورة.
يسلط الكاتب من خلال قصص التشرد والمعاناة على كرم السوريين وحسن معاملتهم لضيوفهم الفلسطينيين، فقد استقبل كمال السوري عائلة رحاب وأولادها، وعائلة فليحة في بيته، بل ووهب لهم المنزل والأرض، صورة تدل على مدى التعاون الذي اتّسمت به العائلات العربية قديما، خلافا لما نراه اليوم من حقد وغل وكراهية. تسترجع رحاب قصتها من خلال سردها على زوجة كمال، فقد حدثتها عن زواجها الأوّل الذي تم دون رضاها لطارق ابن العائلة الثرية، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد كانت أمّ طارق امرأة سيئة السمعة، عاملت رحاب بسوء وكانت تقدحها بأبشع الصفات، وتكنّيها بابنة الصياد، فأنجبت من هذا الزواج الطفل عليّ، تقوم الحماة بتحريض ابنها على طلاق رحاب وهي حامل، ويختطفون ابنها من حضنها وهو ابن ستّة أشهر. يتزوج طارق من امرأة أخرى تكيل كل ألوان العذاب لعليّ، لينتهي الحال به عند بيت عمته التي تربيه مع أولادها. لكن مع الأيّام يتذمر علي من وضعه الذي حرمه من العيش بين كنفي والديه، ليهرب من بيت عمّته في مخيّم الجلزون قرب رام الله إلى أريحا، ومن ثم إلى الأردن. وهناك يتمّ استغلاله من قبل صاحب محلّ لتصليح السّيّارات، لكنه يهرب ويعمل مع رجل طيب ليصبح فيما بعد صاحب ورشة مستقلة، ويعيش في رغد حال.
ميسون لا تزيد حظا عن رحاب، فهي الفتاة التي أحبت وأخلصت لخطيبها ناصر أمين، تفرق النكبة بينهما ويصبح من المستحيل اجتماعهما في بلد واحد، فيتزوج ناصر باعثا الحسرة في قلب ميسون، هو حال الأنثى المظلومة دوما. أما مريم فقد فرقت النكبة عائلتها، زوجها زياد المفلح حطت به الرّحال في لبنان، بينما بقيت هي وأبناؤها الثلاثة في عكا. يتمكن زياد من التسلل إلى عكا مرتين اسبوعيا ليقابل زوجته، فإذا بطفل يتكون ليعلن قدومه إلى الحياة، تاركا مريم مضغة بين فكي الناس الذين يتهمنوها بانجاب ابن الخطيئة. وحينما عرفت الحقيقة، ساومها المحتلون وعرضوا عليها أن يعود زوجها إلى عكا بشرط أن تصبح وزوجها جاسوسين لهم، لكنها رفضت بشدة. لم يستطع زياد العودة إلى عكا لهذا تزوج بامرأة أخرى تاركا مريم بحسرتها، قصص نتيجتها واحدة ظلم وقهر ومعاناة تنفرد بها المرأة دوما. ثم تأتي حكاية فليحة وزوجها الذي فضل الانتحار بسبب الأحوال السيئة التي لم يستطع أن يتجاوزها، لتبقى فليحة مسؤولة عن عائلة لا حول ولا قوة لها إلى أن قام الرجل الطيب كمال بمساعدة العائلة وتوفير كل مستلزماتها.
تعرضت الرواية إلى عدة نقاط إنسانية ، فقد ركز الكاتب على شهامة أهل سوريا ومساعدتهم للعائلات الفلسطينية وإكرامها، بحيث أصبحوا وكأنهم جزء من عائلتهم، أسكنوهم بيوتهم وأعطوهم قطع أراض تساعدهم في عيشهم، وكأن الكاتب يريد أن يوصل رسالة إلى الأمة العربية، أين كرمكم وشهامتكم وتعاونكم الذين أصبحوا ماضيا مأسوفا عليه؟ كذلك تتطرق إلى الحياة التي كانت لا تعرف طائفية ولا عنصرية، الجميع يتعامل بكل أريحية مع جميع جنسيات البشرعلى العكس من حالنا الذي مزقته الطائفية والعنصرية والقبلية.
لغة الكاتب اعتمدت السهل الممتنع، لم تكن متكلفة، تخللها بعض العبارات الجمالية والصور البلاغية البديعة. اعتمد الراوي في السرد على لغة الحوار التي استطاعت أن تعطي المساحة الكافية لأبطال الرواية للتعبير عن أنفسهم، ورغم أن الرواية تعددت فيها الشخصيات والقصص، إلا أن الكاتب استطاع أن يصهر الأحداث في بوتقة واحدة؛ ليجعل من الأحداث نسيجا واحدا متجانسا. وكما عودنا الاستاذ جميل فقد تخلل السرد أمثلة شعبية من اللهجة الفلسطينية المحكية تبين مدى التصاق الكاتب ببيئته. مكان الرواية كان في عدة مدن وقرى فلسطينية تعرضت للبطش الصهيوني إضافة الى بلدان الجوار كسوريّا، الأردنّ ولبنان التي هاجر إليها شخوص الرّواية. ومن الملاحظ جدا أن الكاتب على دراية تامّة بالأماكن، فهو يستطيع أن يأخذنا من حارة إلى حارة، ومن قرية إلى قرية حتى يصل بنا إلى حدود فلسطين بكل أريحية ودراية، وكأنه يسير هناك ومعه كاميرا تصور كل شبر من الأرض.
وكمعظم روايات الأديب السلحوت فإن هذه الرواية تعرضت إلى فترة مهمة في حياة الفلسطينيين؛ لتكون مرجعا وشاهدا على تلك الحقبة. الرواية إضافة قيمة إلى المكتبة العربية، نتمنى أن يتم ترجمة هذ الرواية إلى اللغات الأجنبية حتى تصل معاناة الفلسطيني إلى مسمع العالم أجمع.
شارك في النقاش كل من : رشا السرميطي، صلاح الزغل، محمد عمر يوسف القراعين، مهند الصباح، عبد الكريم الشويكي.
وسوم: العدد 707