قارب الموت والظمأ العظيم
تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (5)
"موتٌ طبيعي .. موت مصنّع"
تحليل قصّة "الحمامة"
(لا تنتابني كوابيس بخصوص هذه الأمور ، ولكني أتذكر ، وأتذكر ، وتعاودني صورة ذلك الرأس المقطوع من جسد لاجىء ألباني في كوسوفو ، إثر غارة جوية أميركية حدثت قبل أربع سنوات ، كان رأسا ملتحيا واقفا وسط حقل أخضر ، تحت نور الشمس الساطع ، وكأنه قُطع على يد سيّاف من القرون الوسطى. وكذلك جثة ذلك الفلّاح الكوسوفي المقتول على يد الصرب، والذي فُتح قبره بواسطة الأمم المتحدة ، فبرز أمامنا من الظلمات منتفخا ، وذلك الجندي العراقي في منطقة "الفاو" خلال الحرب الإيرانية – العراقية ، كان يلمع على أصبعه الرابع من يده اليسرى خاتم زواج ذهبي يتيم ، يتوهج بالنور والحبّ لامرأة لا تعرف أنها أمست أرملة )
"روبرت فيسك"
كتاب "الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة – الإبادة"
وبفعل هذا الإدراك لحقيقة الموت المتسيّدة على عرش الحياة ، تنضج أدوات القاص ورؤياه . أي عمل عظيم في تاريخ الأدب يعود الفضل فيه إلى الموت . خذ "أوديب ملكاً" لسوفوكل ، و"هملت" لشكسبير ، و"الإخوة كرامازوف" لدستويفسكي ، و"مدام بوفاري" لفلوبير ، و"موبي ديك" لهرمان ملفيل ، أو "الأحمر والأسود" لستندال .. "الحرام" ليوسف إدريس ، أو "الأوجاع والمسرّات" لفؤاد التكرلي . كل عمل عظيم طبع بصماته على خارطة الأدب كان من نتاج الموت .. وفي خدمته . وقد أدرك علي القاسمي هذه الحقيقة بوجدانه الإنساني الحيّ قبل عقله على الرغم من أهمية إدراك الأخير ودوره ، فصاغ مجموعته هذه ضمن هذا الإطار العفوي الذي لا يغيّب القصدية اللاشعوريّة . وفي الأقسام المُقبلة من مشروعنا الطويل عن منجزه القصصي سنجد أنّ حتى المجموعات الأربع الأخرى التي تدور نصوصها حول ذكريات الطفولة والحب الخائب والحزن العربي وصراعات النفس البشرية لا تكتسب ألقها وتحقّق تاثيرها المُبهر في نفوسنا إلّا لأنّها تتعاطى مع "مشتقات" الموت وممثليه، كما سنرى إن شاء الله .
في قصّة "الحمامة" يعالج القاسمي موضوعة الموت من خلال مقترب جديد بالنسبة له ، لكن جوهر حبكته موجود في نصوص أخرى في مجال الأدب القصصي ، وهو أن تحصل تداعيات مؤلمة وكبيرة لدى الإنسان وهو يتعامل مع معضلة الموت والسلوك الإنساني تجاهه من خلال تجربة صادمة ترتبط بسلوك الحيوان الغريزي .
فقد عاد الراوي – والقصّة تُحكى بضمير المتكلّم أيضاً – مع ابنته بعد تمضية عطلة نصف السنة عبر طريق ، يستهل القاص قصّته بوصفه بطريقة تجعله يبدو كأنّه طريق لـ "الموت" ، فيعدّ ذهن القارىء لاستقبال الحركة النقيضة ، ليصبح فعلها أكثر مضاءً في نفسه ، فالشمس صفراء شاحبة تتهاوى إلى مرقدها وكأنها تهبط إلى العالم الأسفل ، والأرض يباب مهجورة جرداء كالحة .. المكان كلّه لا يزيد على مقبرة .. لكنّها مقبرة للحياة :
(كانت الشمس تلوح في الأفق البعيد صفراء شاحبة تتهاوى ببطء إلى مرقدها ، حينما عدتُ وابنتي في طريق طويلة مقفرة ، ترامت على جانبيها أرض كالحة رماديّة اللون ، نَسِيتْ طعم المطر منذ سنين ، واستحالت فيها الاشجار إلى هياكل عارية عجفاء ، هجرتها خضرتُها وعصافيرها ، لتواجه وحيدةً مصيرها الحزين . وودّعت المياه السواقي والأودية ، واختفت قطعان الماشية ، وصمتت مزامير الرعاة) (ص 255) .
في البيت تأتي حركة الحياة التمهيدية حين تثير انتباههما حركة مُريبة خلف النافذة ، لتجد الابنةُ أنّ حمامة قد عشّشت في الشبّاك في أثناء غيابهما ، ووضعت بيضتيْن .
وبعد فترة من الخوف والتوجّس المتوقّعين من قِبل الحمامة ، تبدأ بالإعتياد على اقتراب البنت ، ولا تفزع من مرآها أو تخشى من اقترابها .
منظر الحياة والحنو الأمومي من قبل الحمامة على بيضتيها ، وبناؤها التدريجي الصبور لعشّها الدافىء ، استولى على اهتمام الطفلة الصغيرة . هي كائن لا يعرف حتى الآن ماذا سينتظره – بل ينتظر حتى الحمامة المسكينة – في المستقبل القريب على يد أبشع وحوش العصر : شقيقها الإنسان . لكن الأب الراشد الذي عرك الحياة وعرف عدوان الإنسان على أخيه الإنسان ينشغل بغير ذلك . ويرسم القاص مشهد المقارنة ببساطة ، لكن ببلاغة ، حيث يصوّر البنت وهي تقف قرب نافذتها الأثيرة ترقب حمامتها في عشّها الدافىء ، والأب يتابع نشرة الأخبار في التلفاز : مجاعة وفيضانات وحرب أهلية في الصومال .. مذبحة جديدة في الجزائر ذهب ضحيتها أربع مئة وخمسون قتيلاً من قرية واحدة جلّهم من النساء والأطفال والشيوخ .. مئات الأطفال يموتون يوميّاً في العراق بسبب الحصار ونقص الحليب والغذاء والدواء . ويبدو أنّ القصة قد كُتبت في التسعينات حيث شهد الضمير الإنساني وبمباركة هيئةٍ أُنشئت للحفاظ على السلام وأمن الشعوب هي الأمم المتحدة بضغط دولة الشيطان : الولايات المتحدة الأمريكية ، تعاونها دولة خبيرة بمصّ دماء الشعوب عبر أربعة قرون هي بريطانيا ، شهد الضمير الإنساني أبشع مجزرة تجويع راح ضحيتها أكثر من مليون مواطن عراقي . وحين سُئلت الأفعى "مادلين أولبرايت" من قبل الصحفيين : هل ستستمر الولايات المتحدة بفرض الحصار على العراق ، بعد هذه الخسائر الهائلة في وفيات الأطفال ، أجابت – وفي قاعة الأمم المتحدة - : "سوف نقتلهم كلّهم."
وحين نراجع السلوك الحيواني ، لن تجد خنزيرا يفرض حصاراً يودي بحياة مليون طفل ، ثم يصرّ على قتل الشعب كلّه .
قد يقول قائل من النقّاد والقرّاء إنّ هذا ليس نقداً بل تحليلا سياسيا ، فأقول بالعكس ، هذا هو النقد المفقود . ويجب أن يعود الناقد إلى مهمّته الأصلية كمفسّر ، وليس مبدعاً – حسب الخدعة البنيوية – يستخدم "اللغة المتعالية – Metalanguage " في إنشاء نصّه النقدي ليصبح نصّاً موازياً للنص الإبداعي الذي يقوم بنقده وتحليله ، ونحتاج – وفق ذلك – إلى ناقد يشرح لنا النص الذي كتبه الناقد ، وهذا – بدوره – يحتاج إلى ناقد آخر يفسّره .. وهكذا دواليك . وهكذا حوّل فرسان الحداثة العرب النقد إلى شفرة تتداولها نخبة النخبة بينهم . حتى أنّ أساتذة يحملون أعلى الشهادات في النقد الأدبي لا يفهمون ما يرطنون به .
وقفة :
الناقد الراحل الدكتور عبد العزيز حمودة، حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة كورنيل الأمريكية عامي 1965 و 1968 ، وكان يعمل أستاذاً للأدب الإنجليزي بكلية الآداب – جامعة القاهرة ، وعميدا لكلية العلوم الإنسانية بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا ، وسبق له أن شغل وظائف عميد الدراسات العليا بجامعة الإمارات ومستشار مصر الثقافي لدى الولايات المتحدة .. وغيرها الكثير . له مؤلفات كثيرة في مقدّمتها : المرايا المحدّبة والمرايا المقعّرة . هذا الأستاذ الكفء لم يتردّد في الإعلان عن أنّه لم يكن يفهم ما يكتبه نقّاد الحداثة المرعبة بسبب تخلّفه وجهله !! ، ويقول بصراحة :
(كنتُ أنحي باللائمة على تدنّي معدل ذكائي الفطري منه والمُكتسب .. وأنا أقرأ دراسات كمال أبي ديب عن الشعر الجاهلي .. وكتابات جابر عصفور وهدى وصفي وحكمت الخطيب .. وآخرين لا حصر لهم ممن ركبوا موجة البنيوية .. لازمني هذا الإحساس المزدوج كلّما قرأتُ فقرة مثل :
(ويمكن من الناحية اللغوية أن نرى هذه الجمل مرتبة على النحو التالي :
توجد أ وكانت هناك ب . وتوجد ج وكانت هناك د . وكانت هناك أ و ب1 وكان هناك (أو هناك الآن) ج1 + د1 ولكن التوافق بين أ و أ1 ، وب وب1 إلى آخره ليس هو كلّ شيء ، إذ إن صيغتي ج1 ود1 ليستا مثل ج و د على الرغم من أن د قريبة جدا من د1 ، على حين أن ج و ج1 ليستا قريبتين . وهذا بسبب أن ج و ج1 تتشعبان إلى الأقطاب المتعارضة في التجربة) ..
أو :
(يتعامل الكاتب مع هذا الأثر الدلالي في المُتخيل ، يصير آخر ينظر فيه : الكاتب يروي – يسرد – ينص . وقد يحكي الفرد الذي هو طرف في علاقة مع الواقع المادي . يحكي عنه حضورا في هذا المتخيل . يحاور الكاتب المتخيل ، يحاوره من مسافة الكتابة ، ويحاوره عالماً له أساسه المادي ولكنه في المتخيل له مستوى آخر ، الكاتب آخر غير الذي مارس العلاقة مع الواقع المادي . الكاتب ذاكرة أخرى تقيم المسافة مع المتخيل ، تتعامل معه ، ترى فيه ، وتكتب منه ، لهذا المتخيل زمن تكونه وللكتابة زمنها المختلف ، وبين الزمنين تستمر علاقة الفرد بالواقع المادي من حيث هو حضور فيه ، في نظام العلاقات فيه ، أي في ما يحدّد له موقعا يحكمه ويتجاوزه كفرد) (13) ..
ويتساءل حمودة هل بهذه الطرق من الكتابة ننقذ (شرف النقد العربي) بعد الهزيمة كما قال الراحل لويس عوض في أواخر الثمانينات ؟
أمام هذا الضياع والتخبّط المستند إلى إرهاب حداثوي عارم ، أخذتُ عهداً على نفسي بأن أتحداها مع كل مقالة ودراسة وكتاب بأن تكون مفهومة كحد أدنى من قبل طلبة المرحلة الثانوية . الناقد مفسّر بالدرجة الرئيسية ، وليس شاعراً ينافس الشعراء في كتابة القصائد النقدية ، ولا عالماً ينافس أساتذة الرياضيات في إعداد الجداول والرسوم والمخطّطات البيانيّة مع إدراكي أنّ لجوء البنيويين الغربيين إلى هذا النهج كان لمنافسة العلم الذي اكتسح كل شيء .. وكمحاولة لتقعيد النقد على أسس علمية ورياضية .
عودة :
.. والشيء الجوهري نفسه أقوله عن نصوص علي القاسمي ، فأنا الآن أقرأ نصوصاً مفهومة وأستمتع بها ، فماذا يريد القارىء أكثر من ذلك ؟ إنّ القارىء يريد – بعد المتعة والفهم المباشر الذي تعينه عليه إمكانياته المعرفية - يريد استكشاف أسرار النص – مبنى ومعنى - التي لا يستطيع الإمساك بها ، والتداعيات المرتبطة به على الصعد كافة ، وهنا يأتي دور الناقد . هذا الدور الذي يتجلى في مثال حيّ الآن في هذه المرحلة من قصّة "الحمامة" ، والأب مهموم بأخبار موت مئات من الأطفال العراقيين يوميا بسبب الحصار ، ومن الأطفال الجزائريين يُذبحون بلا رحمة ، والطفلة الصغيرة تصرخ فجأة :
(أنظر . البيضة تفقس . الفرخ يكسرها برأسه ، بمنقاره الصغير ، إنّه يخرج منها بصعوبة .. أنظر إلى المسكين . ما أضعفه ! ما أصغره ! ما أملس جسمه الخالي من الريش ! ) (ص 256) .
هنا يقيم القاص صلة بالمشابهة والمقارنة ، قد لا يلتفت إليها السيّد القارىء ، بين الأطفال الابرياء الصغار الذين يقتلهم حصار الأمريكان كل يوم بلا ذنب اقترفوه ، أو يذبحهم الأصوليون المسعورون بلا جريرة أو جناية ارتكبوها .. أطفال مساكين ، غضّو الإهاب ، لا حول لهم ولا قوّة في هذا العالم الجائر ، ينتظرون عون الكبار ورعايتهم ، حالهم حال هذا الفرخ الصغير الذي خرج إلى النور والحياة توّاً ، ضعيفاً هشّاً وعارياً ، والطفلة الصغيرة بوجدانها الحي وضميرها الذي في طور التشكّل ، وليس مثل ضمير الساسة الكبار القتلة الذي أودعه الله في نفوسهم ليكون عينه ، تقف أمام هذا الكائن الأعزل وتصرخ مفجوعة :
(... لم يخرج من البيضة تماماً ... إنّه يرتمي بنصف جسمه على الأرض ... لا يتحرّك .. إنّه هامد ، أخشى أنّه ميّت ... يا إلهي ! أين أمّه ؟ ماذا يمكنني أن أفعل ؟ بابا ، كيف نستطيع مساعدته ؟) (ص 256) ..
وبذكاء يقطع القاص تسلسل الحدث ويختم الحكاية بعيداً عن الطفلة . إنه لا يريد – وهذا من شروط القص المقتدر – أن ينوب منابنا في كشف أسرار نصّه الفنّية من ناحية ، وأسرار حكمته التي يبغي تمريرها خلف استاره من ناحية أخرى . قد يتوقع القارىء ، اتساقاً مع توالي وقائع الحكاية أنّ القاص سيصوّر لنا الأب وهو يُهرع إلى طفلته ليخفّف عنها انفعالها المؤلم ، أو يساعدها في فعل شيء ينقذ به الفرخ المكسين . لكنّه – وبخلاف كل توقّع إيجابي – جعل صرخات الطفلة تضيع في وادي الخواء ، وخلق ما يشبه "الفجوة" السردية في مسار الأحداث حين ختم قصّته بكلام الأب :
(وعندما أويتُ إلى فراشي تلك الليلة ، لم أستطع النوم ، فقد كانت الحمامة في النافذة المجاورة تنوح وتنوح نواحاً شجيّاً بلا انقطاع طوال الليل) (ص 256) .
إنّ الأب المضطجع في سريره ، الآن ، يمثل عجزنا الفادح المُخزي في هذا العالم الذي نكتفي فيه بالفرجة على المصائر السود التي تُطيح بإخوتنا البشر – خصوصاً من الأطفال الأفراخ العُزّل – مصائر رسمتها وحوش بشرية مسعورة منفلته بلا رادع أو مانع أو رقيب داخلي أو خارجي. وحسناً فعل الأب حين لم يغطّ راسه ، ويروح في نوم عميق ، مثل بطل "زكريا تامر" في قصّته التي يهاجمه فيها مجموعة من الأشقياء ، وهو يتنزّه مع خطيبته ، ويضربونه على رأسه فيفقد الوعي ، ويبدأون باغتصاب خطيبته ، وحين يستعيد وعيه ، ويشاهد المأساة التي تجري أمامه ، يغلق عينيه ثانية ويعود إلى الغيبوبة السعيدة . ظلّ الأب أرقاً - وهذا أضعف الإيمان - يستفزّه ، ويوجع قلبه ، النوح الشجي للحمامة المثكولة طول الليل . فكيف هو حال قلوب أمّهات الأطفال العراقيين والجزائريين يا أيّها السادة القرّاء ؟ ..
ولو عدنا نتأمل مضمون هذه القصّة سوف نجد أنّه موضوع بسيط جداً ، طفلة تتعلّق بحمامة عشّشت في شباكها ، وقد تكون قد طُرقت عشرات المرّات في أدب الأطفال – والقاسمي كتب للأطفال – لكن انظر ما الذي فعله الموت حين دخل إلى مسرح الحكاية ؟! وليس الموت المجرّد الذي يأتي كقدر مقسوم لا نعرف أخّاذ الأرواح فيه ، ولكن الموت "المُصنَّع" الذي صار أخّاذ الأرواح فيه ليس ملك الموت الديني المعروف ، بل الإنسان حين ييأس وينسعر من أجل أفكاره ومصالحه ويموت ضميره . وليس – أيضاً - كلّ موتٍ مصنّع ، فقد يأتي في صورة خبر أو رسالة أو معلومة إعلامية ، إنّه الموت حين يصير حكاية .. حين "يتشخصن" من خلال الإنسان والحيوان ، ويثير التساؤلات الكبرى في الحياة عن الإنسان ، وعدوانه ، ومصيره ، وجدوى وجوده ، وما يفعله لمواجهة هذا المصير ؛ عن الإنسان حين يكون "حيواناً خبيثاً" وشرّيراً .
قبل ايام كنتُ اقرأ مقالة عن طرق التعذيب التي كان يستخدمها الجلّادون ضد ضحاياهم في السجون الأرجنتينية في ظل الديكتاتوريات العسكرية . واحدة من الطرق تتمثل في إدخال انبوب في مخرج أو مهبل الضحيّة ، ثم يُدخل جرذ تم تجويعه لعدّة ايّام في الأنبوب ، وتُغلق فتحته !!
أمّا في أوروبا المتحضّرة ، فكانوا يقتلون أطفال المسلمين في البوسنة بوضعهم في خلّاطات الإسمنت أمام عيون أمّهاتهم !!
يا إلهي ! ما هذا الإنسان ؟!
(وأينّ تذهب جهود هذا المسكين الذي يسمّونه "الخير" ؟ ولماذا يطارده الشرُّ ويهزمه دائماً ؟ وأين راحت دعوات وتضحيات هذا الطابور الذي بلا بداية وبلا نهاية من الأنبياء والرسل والمصلحين والفلاسفة والشعراء والثوّار والمفكرين ما دمنا ننتقل من وضع بشريٍ سيّء إلى وضع أسوأ منه ؟ ولماذا برغم كل تلك التضحيات يختنق العالم بالشرور والمعاصي يوماً بعد آخر حتى صرنا لا نتساءل فقط "لماذا وُجدَ العالم ؟" ، بل نتساءل أيضاً "لماذا يكون العالم حافلاً بكل تلك الشرور؟" ؛ شرور يمسك بعضها بيد البعض الآخر لتضرب حصاراً منيعاً حول وجودنا ؛ شرور هي من الكثرة بحيث أنها لا يمكن أن تصدر إلا من الموجود الأوحد الذي يتحكم بوجوده وهو الإنسان ، وإلا إذا كان هذا الموجود "حيوان شرير" أو "حيوان خبيث" بالبنية والتعريف ؟ هذا الإستعداد الجِبلي هو الذي يجعله يقلب كل جهود الخير إلى شرّ ، وكلّما جاء أنبياء الله بالبشرى جعلها مراثي ، وصار الإنسان مهموماً بخرابه هو نفسه ، حتى أصبح التعريف الملائم له هو أنه "حيوان مهموم") (14) . وها هو الأب في هذه القصّة يضطجع مهموماً بالشر الذي يقترفه أخوه الإنسان ، ينوح في أعماق روحه المخذولة، يردّد صدى نواح تلك الحمامة المثكولة حتى الصباح ، مثل حالنا كلّ ليلة ، فيعزّ عليه النوم . تُرى ، هل نام واحدٌ منّا – نحن المواطنين العرب في كلّ مكان ومنذ عقود - ليلة واحدة مرتاح البال قرير العين ؟
القصّة التي تمّ تحليلها
_____________
الـحمامة
د. علي القاسمي
كانت الشمس تلوح في الأفق البعيد صفراءَ شاحبةً تتهاوى ببطءٍ إلى مرقدها، حينما عُدتُ وابنتي الصغيرة ـ بعد تمضية عطلةِ نصف السنةـ في طريقٍ طويلة مُقفِرة، ترامتْ على جانبيها أرضٌ كالحةٌ رماديَّةُ اللون، نسيتْ طعمَ المطر منذ سنين، واستحالتْ فيها الأشجارُ إلى هياكلََ عاريةٍ عجفاء، هجرتْها خضرتُها وعصافيرُها، لتواجه وحيدة مصيرها الحزين. وودعتِ المياهُ السواقي والأودية، واختفتْ قطعان الماشية، وصمتتْ مزامير الرعاة.
في غرفة الجلوس بالطابق العلويّ من المنزل، أثارتْ انتباهَنا حركةٌ مريبة خلف النافذة. اقتربتْ ابنتي بحذر منها، وما إنْ رفعتْ الستارةَ عنها حتّى طارتْ حمامةٌ مذعورةٌ بعيدًا في الهواء، ثُمَّ ما لبثتْ أن حطَّتْ على سطح المنزل المقابل. فأطلقتْ ابنتي صرخةً جذلى :"آه! لقد عشَّشت تلك الحمامة هنا، أثناء غيابنا، وخلّفت بيضتَيْن." وأخذتْ تتأملهما ساكنةً لوهلة. ثُمَّ عادت لتجلس إلى جانبي، حيث دسّت رأسها الصغير في صدري، وأنا أواصل قراءة كتابي، وأُمسِّد شعرها الناعم الطويل. وسرعان ما عادتِ الحمامةُ إلى النافذة، بعد أنْ اطمأنّتْ إلى ابتعاد الخطر، لتحضن بيضتَيْها.
وظلّت بُنيتي تتردَّد على تلك النافذة تراقبُ الحمامة التي أخذتْ تعتاد على اقترابها المسالِم، ولم تعُدْ تفزع لمرآها. وأحيانًا، كانت تجد البيضتَيْن فقط، وقد تغيَّبت الحمامة، لتحمل بعد برهةٍ، شيئًا من القش أو الغُصينات، تنسّقها في عشّها.
وفي المساء كنتُ أتابع نشرةَ الأخبار التي يبثّها التلفزيون، في حين وقفتْ ابنتي قرب نافذتها الأثيرة. وتوالت الأنباء من جميع أقطار الوطن العربيّ: فيضاناتٌ مروعة تجتاحُ بلاد الصومال التي أنهكتْها المجاعة والحرب الأهلية، وتقتلُ المئات من الأطفال والنساء والعجزة... مذبحةٌ جديدة تقترفها الجماعات المسلَّحة في الجزائر يذهبُ ضحيتَها أربعـمائة وخمسون قتيلاً في قريةٍ واحدة، جلُّهم من النساء والأطفال والشيوخ... مئات الأطفال يموتون يوميًّا في العراق، بسبب الحصار ونقص الحليب والغذاء والدواء... وفجأةً تصرخ ابنتي:
ـ " انظرْ، البيضة تَفْقِس، الفرخ يكسرها برأسه، بمنقاره الصغير، إنّه يخرج منها بصعوبة... انظرْ إلى المسكين، ما أضعفه! ما أصغره! ما أملسَ جسمه الخالي من الريش..! لم يخرج من البيضة تمامًا ... إنّه يرتمي بنصفِ جسمه على الأرض... لا يتحرّك ... إنّه هامد، أخشى أنَّه ميّت... يا إلهي! أين أُمّه؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟ بابا ، كيف نستطيع مساعدته؟"
وعندما أويت إلى فراشي تلك الليلة، لم أستطع النوم؛ فقد كانت الحمامة في النافذة المجاورة تنوح وتنوح نوحًا شجيًّا بلا انقطاع طوال الليل.