الصورة الشعرية مفهومها وأهميتها وأنواعها
تعد الصورة الشعرية عنصرًا بنائيًّا بالغ الأهمية في بنية النص الشعري ، وهي تجيء في قمة الهرم البنائي للقصيدة الشعرية ، ذلك الذي يبدأ من البنية الصوتية ومرورًا بالبنى الصرفية والمعجمية والتركيبية ولذلك كانت دراستها في النص الشعري من الأهمية بمكان ، وهي دراسة تتوخى الإشارة إلى مفهومها وأهميتها ووظيفتها التي لا تقف عند حد الدور البنائي في النص الشعري ، وإنما تتعداه إلى التمايز بين الشعراء في كيفية بنائها " باعتبارها عنصرًا حيويًّا من عناصر التكوين النفسي للتجربة الشعرية " ([1]) التي تختلف من مبدع إلى آخر ، ومن ثم يكون بناؤها عند كلٍّ منهم متضمنًا لعناصر التميز والتفرد ، وتغدو الصورة ـ من ثم ـ مقياسًا تقاس به موهبة الشاعر ، وموضع الحكم عليه ([2]) لأن نجاح الشاعر وفشله قرين ما يتمتع به من قدرات تصويرية تمكنه من نقل تجاربه وأحاسيسه إلى المتلقي بواسطة ملكة الخيال ([3]) 0
ويبدو أن هناك إجماعًا من الباحثين ، أو يكاد على صعوبة إيجاد تعريف جامع مانع لمصطلح الصورة الفنية ، ومن مظاهر هذه الصعوبة تعدد التراكيب الوصفية لهذا المصطلح وتنوعها ، فهناك إلى جانب الفنية نجد مصطلحات : الصورة الأدبية والشعرية والبيانية والمجازية والخيالية أو يُكتفى بمصطلح الصورة وحده ، وإذا بحثنا عن أسباب هذه الصعوبة فإن أول ما يطالعنا منها : تعدد الاتجاهات الأدبية واختلافها فيما بينها ، وما يترتب على ذلك من اختلاف زاوية النظر التي ينظر منها كل اتجاه إلى الصورة بل يتعدى الاختلاف إلى أرباب الاتجاه الواحد إلى حد يمكن أن يقال معه : " إن الصورة الشعرية أصبحت تحمل لكل إنسانٍ معنىً مختلفًا كأنها تعني كل شيء " ([4]) ، ومنها ما يترتب على تعدد الاتجاهات الأدبية من تعدد عناصر الصورة الشعرية ووسائل تشكيلها ، أو تعدد أنماط وأساليب بنائها ؛ لأن للصورة " دلالات مختلفة وترابطات متشابكة وطبيعة مرنة تتأبى التحديد الواحد المنظّر أو التجريدي " ([5]) ، ومن هذه الأسباب ارتباط الصورة الشعرية بالإبداع الشعري الذي فشلت " المساعي التي تحاول تقنينه أو تحديده دومًا لخضوعه لطبيعة متغيرة تنتمي لحدود الفردية والذاتية وحدود الطاقة الإبداعية المعبر عنها بالموهبة " ([6]) 0
بيد أن هذا الإجماع أو شبهه ومن يقولون به ربما بعدوا عن جادة الصواب ؛ لأن ثمة تعريفات واضحة ومحددة للصورة الشعرية هي من الكثرة بمكان بحيث يصعب حصرها ، وهي تعريفات جمعت بين التراث والمعاصرة في النقد الأدبي عند العرب ، أو عند الغرب ، مما يعني أن التراث النقدي لم يغفل عن تعريف الصورة ، كما لم يغفل عنها النقد الحديث عند العرب وغيرهم ، بل إن الدراسات التي ذهبت إلى القول بصعوبة التعريف الجامع المانع لمصطلح الصورة قد عمدت إلى سرد تعريفات القدامى والمحدثين ، بل وتبنى البعض منها لنفسه تعريفًا لينجز في ضوئه ما يقوم به من دراسة أدبية أو نقدية مما يعني أن الوصول إلى تعريف محدد للصورة الشعرية ليس بالأمر العصي أو الصعب الذي يقف حائلاً دون اتخاذ موقف محدد يمكن في ضوئه إنجاز أي بحث أدبي يتخذ من الشعر موضوعًا 0
وصعوبة الوصول إلى تعريف جامعٍ مانعٍ للصورة الشعرية له ما يؤكده من ناحية أخرى عند الدارسين الذين ظنوا " أن الصورة الفنية مخلوق غريب بالنسبة إلى العرب ،وإن شعرهم لم يحفل بها " ([7]) كما اعتراف بعضهم بأن " مصطلح الصورة من المصطلحات النقدية الوافدة التي ليس لها جذور في النقد العربي " ([8]) فضلاً عن غربته على الفلسفة الإسلامية ،وهي اتهامات تنافي الحقائق الثابتة التي جاء بها الشعر القديم ،كما جاءت بها أقلام النقاد القدامى ،فإن من يقرأ الشعر الجاهلي يجد فيه احتفالاً واضحًا بفن التصوير مما يؤكد غزارة الملكة التصويرية عندهم وقوة الخيال الذي تجلى في فن الوصف خاصة " حيث يرسم الشاعر مناظر ومشاهد رائعة مكتملة الجوانب ،فهو يلم بالصورة إلمامًا تامًّا ،ثم يدقق في أجزائها ،ويحصر أطرافها ويستقصي جوانبها وهذا ـ لا شك ـ دليل التمكن في الفن والدقة في التعبير ،وخصب الخيال " ([9]) 0
ولم يكن النقد العربي القديم ببعيد عن الإبداع الشعري في الاحتفال بالصورة ، وهناك أقدم نص نقدي للجاحظ أشار فيه إلى حقيقة الفن الشعري عندما قال " إنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير " ([10]) وهو نص دال على أن المقصود من التصوير هنا الصورة الشعرية التي ربطها غير واحد من النقاد القدامى بالألوان البلاغية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز كالذي رأيناه عند ابن طباطبا وهو يتحدث عن أحسن التشبيهات إذ قال : " فأحسن التشبيهات إذا ما عكس لم ينتقض ، بل يكون كل مشبَّهٍ بصاحبه مثل صاحبه ، ويكون صاحبه مثلَه مشبَّهًا به صورة ومعنى ، وربما أشبه الشيءُ الشيءَ صورة وخالفه معنًى ، وربما أشبهه معنًى وخالفه صورة وربما قاربه وداناه أو شامّه وأشبهه مجازًا لا حقيقة " ([11])
واستخدم الآمدي في موازنته مفردات تنتمي إلى حقل الصورة أو التصوير الشعري مثل : وصف ، أقام ، شبّه ، استعار ، مثّل ، صوّر من ذلك تعليقه على بيت أبي تمام :
وَتَقْفُو لِيَ الْجَدْوَى بِجَدْوَى وَإِنَّمَا 000 يَرُوقُكَ بَيْتُ الشِّعْرِ حِينَ يُصَرَّعُ
بقوله " فلفظ حسن حلو ولكنه مثّل شيئًا كان غيره بالتمثيل أليق ، وذلك لما قال : وتقفو لي الجدوى كان سبيله أن يقول : وإنما يبل الغليلَ العللُ بعد النهل ، أو ما كان أشبه هذا وقاربه ؛ لأن الجدوى هو نائل المرأة ، وليست من حظوظ السمع فيمثل بها بيت الشعر المصرع الذي إنما يروق السمع فقط " ([12]) 0
والحديث عن السمع والبصر يستدعي الحديث عن الخيال وعلاقته بالحواس ،وارتباط الصورة الشعرية بالدلالة " على كل ما له صلة بالتعبير الحسي ، وتطلق أحيانًا مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات "([13]) فارتباط الخيال بالحواس أمر طبيعي ؛ لأن الخيال بما هو " وضع الأشياء في علاقات جديدة وهو سمة بارزة من سمات الأسلوب الأدبي ؛ لأنه يصور العاطفة ، أو ينقلها إلى السامع ، أو القارئ " ([14]) فقد " كان من الطبيعي أن يوجه الشاعر ليستمد معانيه من التجربة الحسية بحيث ترتسم صور المحسوسات في خياله ، ثم يستطيع خياله أن يقيم ضروب العلاقات بينها ، غير أنه في مقدور الشاعر أن يؤيد التجربة المستمدة من عالم الطبيعة بقوة التخيل والملاحظة والتجربة المستمدة عن طريق الثقافة " ([15]) 0
وقد أدرك النقاد العرب القدامى دور الخيال في الشعر والتصوير ، وأولوه عنايتهم عندما قرنوه بالإلهام وربطوا بينه وبين الجن والشياطين وهو ارتباط يدل عندهم على قوة الخيال وجمال ما ينتج عنه من الصور الشعرية المتكئة عليه " كالمجاز والتشبيه والاستعارة " ([16]) فقد ربط السكاكي بين التخييل والاستعارة التخييلية التي " يكون المشبه المتروك شيئًا وهميًّا محضًا لا تحقق له إلا في مجرد الوهم " ([17]) واقتفي العلوي آثار السكاكي في ربط الاستعارة بالخيال إذ جعل العلوي الاستعارة الخيالية الوهمية واحدة من أنواع الاستعارات ، وعرفها بقوله : " أن تستعير لفظًا دالاًّ على حقيقة خيالية تقدرها في الوهم ثم تردفها بذكر المستعار له إيضاحًا لها وتعريفًا لحالها " ([18]) 0
وأمر الربط بين الخيال والصورة البلاغية نجده عند السلجماسي الذي جعل التخييل الجنس الثاني من علم البيان ، الذي جعل له أربعة أنواع : التشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز ، وعمد إلى استخدام دالة الخيال أو مشتقاتها في تعريفه لكل واحد من هذه الأنواع ،من ذلك تعريفه التشبيه بأنه " القول المخيل وجود شيء في شيء إما بأحد أدوات التشبيه الموضوعة له كالكاف وحرف كأن أو مثل وإما على جهة التبديل والتنزيل "([19]) وتقوم الاستعارة عنده على التخييل أيضًا ،وذلك للمبالغة والتشبيه مع الإيجاز غير المخل بالمعنى والتوسعة على المتكلم([20]) أما التمثيل ، فإن حقيقته هي التخييل ([21]) وهو ما نجده كذلك في تعريفه للمجاز بأنه " القول المستفز للنفس المتيقن كذبه ، المركب من مقدمات مخترعة كاذبة تخيل أمورًا وتحاكي أقوالاً " ([22]) وهو تعريف يربط المجاز بالشعرية ،فهو أداة فنية " قريبة مما استخدمه النقاد في العصر الحديث باسم الصورة الشعرية التي يتجوز إطارها المجاز البلاغي بنوعيه : المرسل والاستعارة ليشمل التشبيه مفردًا ومركبًا وضمنيًّا "([23]) 0
وإذا كان النقد القديم قد ربط الصورة الشعرية بالألوان البلاغية المعروفة في علم البيان ، فإن النظرة النقدية الحديثة لم تكن ببعيدة عما ارتآه النقد القديم ، فقد رأت ميدلتون موري أن الصورة مصطلح يشمل التشبيه والمجاز معًا ([24]) وهي عند كارولين سبيرجون " الكلمة الوحيدة الصالحة لتشتمل على كل نوع من أنواع التشبيه وعلى كل ما هو في الحقيقة تشبيه مكثف - أي الاستعارة "([25]) وهو تعريف متأثر بالتراث الأرسطي الذي ربط بين الصورة والاستعارة واعتبر أن " الصورة في جوهرها زخرف أسلوبي يقوم على التشابه بين مدلول ودال صفاتهما الجوهرية متطابقة أو متشابهة " ([26]) وهذا الزخرف الأسلوبي يستدعي القيمة الفنية للصورة ؛ لأنها " بنية لغوية ذات غايات جمالية " ([27]) وهي غايات تربط بينها وبين الفنون الأخرى ، وهو ربط لا يغفل الأصل اللغوي للشعر عامة وللصورة خاصة باعتبارها جزءًا من هذا الشعر ؛ولذا فإنه يُنظَر إليها على أنها " رسم قوامه الكلمات ،إن الوصف والمجاز والتشبيه يمكن أن تخلق صورة ، أو أن الصورة يمكن أن تقدم إلينا في عبارة أو جملة يغلب عليها الوصف المحض ،ولكنها توصل إلى خيالنا شيئًا أكثر من انعكاسٍ متقنٍ للحقيقة الخارجية ،إن كل صورة شعرية لذلك هي إلى حدٍّ ما مجازية " ([28]) 0
وإلى جانب هذه النظرة إلى الصورة من خلال بنيتها اللغوية ، ذهبت المناهج النقدية الأخرى إلى تعريف الصورة الشعرية بالنظرة إلى محاور ثلاثة أولها : أهميتها في النص الشعري ، فهي تمنحه كنهه وتوضح حقيقته التي " تتمثل في الإيحاء بالأفكار عن طريق الصور " ([29]) التي لا يكون الشعر شعرًا إلا بها " ([30]) فهي روحه ؛ لأن " الاتجاه إلى دراستها يعني الاتجاه إلى روح الشعر " ([31]) أو لأنها تمثل " البنية المركزية للشعر " ([32]) وكل ذلك يؤكد على أهمية الصورة في الفن الشعري 0
كما تناول النقاد المحدثون وظيفة الصورة في الشعر ،فهي تمثل "الوسيلة الفنية الجوهرية لنقل التجربة "([33]) التي يمر بها الشاعر ،وينفعل معها ؛لأنها فنٌّ وظيفته التعبير عن الانفعال ([34]) المصاحب للأفكار والعواطف ؛ ولذلك ارتبطت بالصورة وظيفة " التمثيل الحسي للتجربة الشعرية الكلية ،ولما تشتمل عليه من مختلف الإحساسات والعواطف والأفكار الجزئية " ([35]) أو الكلية ؛لأن الصورة " إحدى الوسائل الشعورية التي يستخدمها الشعراء في التعبير عما يريدون " ([36]) إيصاله إلى المتلقين ؛ بغية إثارة عواطفهم ووسيلتهم إلى ذلك الصورة التي " يحاول بها الأديب نقل فكرته وعاطفته معًا إلى قرائه وسامعيه "([37]) محدثًا بها صورة للتواصل لا تقف عند حد الانفعال له ،وإنما يمتد أيضًا إلى إمتاعه بالفن الذي تنتمي إليه الصورة الشعرية ،ومعلوم أن " معظم الاتصال بالفن كان سببه المتعة "([38]) المتبادلة بين الشاعر والمتلقي والنص بما فيه من خيال " يضاعف المتعة بالشعر ،إذ يتحول الشاعر بوساطته من مجاز إلى مجاز ،ومن استعارة إلى استعارة، وكأننا نقفز معه في سمائه من أفقٍ إلى أفقٍ فنشعر بغير قليل من البهجة " ([39]) 0
إن كل ما سبق من حديث عن أهمية الصورة الشعرية ووظائفها في النص الشعري يقترب بنا من مفهومها ، أو على الأقل يحدد أمامنا ملامح هذا المفهوم ؛ لأنها لا تكتسب فاعليتها من كونها صورة ، وإنما تكتسبها " بقدر ميزتها كحادثة ذهنية ترتبط نوعيًّا بالإحساس " ([40]) المسيطر على الشاعر لحظة الانفعال بالتجارب ، ويحاول أن يرسم هذا الانفعال ، وأن يوصله إلى المتلقي عن طريق الصياغة اللغوية المكتملة الملامح والقسمات ، والموظفة لكل العناصر اللغوية فيما تقوم به من إبداع ؛ ولذلك كان من بين تعريفات الصورة الشعرية أنها رسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة " ([41]) مما يُحوجها إلى أن تكون وسيلة تواصل وانفعال مع المتلقي لأن للفن دافعين متلازمين هما : " رغبة الفنان في أن ينفس عن عاطفته ، ورغبته في أن يضع هذا التنفيس في صورة تثير في كل مَن يتلقاها نظير عاطفته " ([42]) ولا يتم له ذلك إلا إذا كان متمتعًا بمقدرة لغوية كبيرة ، وبخيال قوي خصب ؛ لأن هذا الخيال الخصب هو أداة التصوير الشعري ، وهو الملكة التي تعتمد عليها المشاركة الوجدانية " ومهمة الشعر الأولى ـ بل الوحيدة ـ هي أن يخاطب في الإنسان خياله ، الشعر لا يخاطب القوة العاقلة ، بل يتجه فينا إلى الملكة التي تتقبل الفكر والشعور في آنٍ معًا ـ ملكة الخيال ـ الشعر يقوي فينا تلك الملكة التي تمكننا من أن نصير ـ ولو مدى لحظة قصيرة ـ أشخاصًا غير أنفسنا " ([43]) 0
وإذا كانت القصيدة الشعرية في أبسط تعريفاتها مجموعة من الألفاظ المترابطة بشكل معين([44]) ومقصود ،فإنه يمكن تحديد مفهوم الصورة الشعرية بأنها " مجموعة من علاقات لغوية يخلقها الشاعر لكي يعبر عن انفعاله الخاص ،والشاعر يستخدم اللغة استخدامًا جديدًا ،حين يحاول أن يستحدث بين الألفاظ ارتباطات غير مألوفة ،ومقارنات غير معهودة في اللغة العادية المبنية على التعميم والتجريد ،ومن خلال هذه الارتباطات والمقارنات اللغوية الجديدة يخلق لنا الشاعر المصور تشبيهاته واستعاراته وكناياته وتشخيصاته " ([45]) وكل هذا الألوان التصويرية البلاغية تشكل لدى الباحث ما يُعرف بالصورة الجزئية التي لا تكاد تتجاوز البيت الشعري ؛ لأنها تتوسل بالعلاقات اللغوية المنتجة للدلالة التي يحسن الوقوف عليها 0
الصورة الكلية :
وقفت دراسة الصورة الشعرية في السطور السابقة عند أنماطهاالجزئية ، إذ اتكأت في بنيتها على العناصر اللغوية ، كما اتكأت على ملاحظة العلاقة بين الدلالات التي تنتجها الصورة ، وقد رأيناها علاقة التلازم في الصورة الكنائية ، وهذه النظرة الجزئية لها أهميتها ؛ لأنها تكشف عن أساليب الشعراء في بناء صورهم ، كما أنها لا تختفي من الصور الكلية ، وإنما تكون مفرداتها وجزئياتها التي تتضام مع بعضها لترسم الصورة الكلية التي تكون " أشبه بلوحة كبيرة تضم داخلها صورًا صغيرة لا تستقل بنفسها ولكنها تكون جزئيات هذه اللوحة الكبرى " ([46]) 0
وإذا كانت الصورة الجزئية قد عمدت إلى تفكيك البنية الكلية للنص إلى جزئيات صغيرة استدعت أن تكون النظرة إليها جزئية لا تكاد تجاوز البيت أو البيتين من النص الشعري ، فإن الصورة الكلية تعمد إلى دراسة النص في بنيته الكبرى التي تتجسد من النظرة الكلية التي لا تحاول تفكيك النص ، وإنما تحاول تجميع أجزائه ، والبحث عن عناصر الترابط فيما بينها ؛ لأن الصورة الكلية " لوحات متكاملة تؤدي فيها هذه الصور التشبيهية الجزئية وظيفة بنائية بعينها ، إذ تتحول إلى لبنات في هذا البناء التصويري المتكامل ، أو هذه اللوحة الممتدة على مساحة زمنية ومكانية واسعة ، وهي لوحات يبنيها الشعراء عادة من خلال قص الأحداث وحكاية المواقف ، وهو ما يُعرف اصطلاحًا بصورة الحدث أو صورة الموقف " ([47]) الواحد الذي يقوم الشاعر برصده مستغرقًا مجموعة من الأبيات يسودها إحساس واحد تجسده الألفاظ والعبارات لينتج من ذلك كله ما يُعرف بالوحدة العضوية التي تظهر بوضوح في الأسلوب القصصي ([48]) 0
ولم يكن الأسلوب القصصي بالأمر الجديد على الأدبيات العربية القديمة ،إذ قد لجأ إليه الشعراء أو الكتّاب ؛بغية تصوير تجاربهم ومواقفهم التي مروا بها أو عايشوها ؛ لأنهم وجوها أقدر من غيرها على التعبير عن هذه التجارب والمواقف ،ومن يتتبع الشعر العربي القديم ،أو النثر العربي القديم يتأكد لديه بما لا يدع مجالاً للشك " أن وجود القصة العربية القديمة واقع لا مراء فيه "([49]) 0
وقد ذكر الأستاذ علي النجدي أن القصص الشعرية القديمة تعرض " صورًا شتى من حياة أهل الجاهلية وألوانًا متعددة من المشاعر والانفعالات البشرية يعرضها طائفة من الشعراء نبتت في بيئات مختلفة ونشأت في ظروف وعلى أحوال متفاوتة ولكلٍّ أسلوب متميز في التعبير والتصوير ،يختلف باختلاف مواهبه الذهنية وخصائص شخصيته الفنية التي تشاركت في صنعها بيئته وظروف حياته من حوله "([50]) مما يعني أن لجوء الشعراء العرب إلى الصورة القصصية بما تحويه من عناصر درامية وصراع ملحميٍّ ،إنما كانت واحدة من الأنماط التصويرية ،ولعلنا نرجح هذا اللجوء من خلال طبيعة البيئة العربية التي كانت تزخر بألوان من الصراع بين الإنسان والإنسان ،أو بينه وبين الحيوان الذي اتخذه في كثير من الصور معادلاً موضوعيًّا له ،وقد يكون هذا الصراع بين الإنسان وبين بعض مظاهر الطبيعة القاسية ، وكذلك الصراع بين الحيوان والحيوان ، وقد كان يرى ذلك كله ويتأثر به ؛ ولذلك أبى الشاعر القديم إلا أن يعرضه في أسلوب قصصيٍّ يُعد " نموذجًا تعبيريًّا صادقًا يلتحم بهذا الصراع ، أو يكشف عن طبائعه " ([51]) ، وذلك على النحو الذي يبرز في صور الحيوان التي عمد الشعراء إلى تصويرها بهذا الأسلوب 0
وإلى جانب الصورة القصصية التي تتخذ من البنية الدرامية وسيلة فنية يعرض فيها الشاعر الموقف الذي يعيشه نجد الصورة الوصفية التي يعتمد فيها الشاعر على الوصف المباشر للمنظر أو الموضوع الذي تقع عليه عينه ،فالوصف هو " ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات ،ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني كان أحسنهم وصفًا مَن أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها، ثم بأظهرها فيه وأولاها ،حتى يحكيه بشعره ،ويمثله للحس بنعته "([52]) 0
وهذا الوصف يُعد أوسع أبواب الشعر العربي ، فقد قال ابن رشيق : إن" " الشعر إلا أقله راجع إلى باب الوصف " ([53]) الذي يُعد أثرًا من آثار البيئة العربية على إنسانها الذي يجد كل شيء أمامه واضحًا ؛ ولأنه " نزعة فطرية ملازمة لطبيعة الذات الإنسانية بها يكتشف الإنسان العالم " ([54]) المحيط به ، فقد رأينا احتفال الشعر العربي بهذه الصور الوصفية التي عمد إليها الشعراء القدامى ، فأخرجوا لوحات فنية مزجوا فيها بين فن الشعر وفن الرسم ، بحيث بدت اللوحة الوصفية الشعرية وكأنها لوحة فنية تموج بعناصر الحركة واللون والصوت ، وإلى جانب ذلك وجدنا التداخل بين الصورتين :الوصفية و القصصية ،فقد لجأ الشعراء للوصف " في أعمالهم القصصية ،وأسسوا عليه نمو الأحداث فيها وتطور المواقف ،وبنوا عليه الحركة القصصية الدرامية " ([55]).
1- د/ كمال أبو ديب : جدلية الخفاء والتجلي ص 19 ط4/ 1995م دار العلم للملايين 0
2- د/ محمد حسن عبد الله : الصورة والبناء الشعري ص 17 ـ دار المعارف 1981م 0
3- د/ عبد الله التطاوي : الصورة الفنية في شعر مسلم بن الوليد ص 8 ـ دار غريب 2002م ـ القاهرة 0
4- د/ ريتا عوض : بنية القصيدة الجاهلية : الصورة الشعرية لدى امرئ القيس ص 39 ـ ط2/1992م دار الآداب 0
5- د/ بشرى موسى صالح : الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث ص 19 ـ ط1/1994م المركز الثقافي العربي 0
6- السابق : الصفحة نفسها 0
1- د/ عبد الإله الصائغ : الخطاب الإبداعي الجاهلي والصورة الفنية ص 13 0
2- د/ نصرت عبد الرحمن : الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث ص8
3- د/ يحيى الجبوري : الشعر الجاهلي : خصائصه وفنونه ـ سابق ـ ص 213 0
4- الجاحظ : الحيوان ـ سابق ـ 3/131 0
5- ابن طباطبا : عيار الشعر ـ سابق ـ ص 49 0
6- الآمدي : الموازنة بين أبي تمام والبحتري ـ سابق ـ 2/85 ، شامّه : قاربه وداناه
7- د/ مصطفى ناصف : الصورة الأدبية ص 3 ـ ط2/1981م ـ دار الأندلس
8- د/ عبد الله التطاوي : الصورة الفنية في شعر مسلم بن الوليد ـ سابق ـ ص 8 0
9- د/ إحسان عباس : تاريخ النقد الأدبي عند العرب ـ سابق ـ ص 561 – 562 0
1- د/ إحسان عباس : فن الشعر ص 144 ـ ط2/ 1959م ـ دار الثقافة ـ بيروت 0
2- السكاكي : مفتاح العلوم ـ سابق ـ ص 373 0
3- العلوي : الطراز ـ سابق ـ 1/232 0
4- السلجماسي : المنزع البديع ـ سابق ـ ص 220 0
5- السلجماسي : المنزع البديع ـ السابق ـ ص 335 0
6- السابق ص 244 0
7- السابق ـ ص 252 0
8- د/ شفيع السيد : فن القول : مقدمة لدراسة البلاغة والنقد الأدبي ص 257 0
9- ويليك ، و وارين : نظرية الأدب ترجمة محي الدين صبحي ص 295 0
10- د/جوزيف شريم : دليل الدراسات الأسلوبية ص 70 0
11- السابق : الصفحة نفسها 0
12- د/ محمد العبد : الصورة والثقافة والاتصال :مجلة فصول ع62 ربيع 2003 ص133 الهيئة المصرية للكتاب 0
1- سي دي لويس : الصورة الشعرية ص 21 0
2- د/ محمد غنيمي هلال : دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده ص 60 0
3- د/ عبد الرحمن بدوي : في الشعر الأوربي المعاصر ص 72 0
4- د/ إحسان عباس : فن الشعر ـ سابق ـ ص 238 0
5- رينيه ، وارين : نظرية الأدب ـ سابق ـ ص 193 0
6- د/ محمد غنيمي هلال : النقد الأدبي الحديث ـ سابق ـ ص 417 0
7- كولنجوود : مبادئ الفن ص 145 0
8- د/ محمد غنيمي هلال : النقد الأدبي الحديث ـ سابق ـ ص 419 0
9- تشارلتون : فنون الأدب ص 89 0
10- أ/ أحمد الشايب : أصول النقد الأدبي ص 242 0
11- روبرت هولب : نظرية التلقي ترجمة د/ عز الدين إسماعيل ص 183 النادي الأدبي ـ جدة 1415هـ/1994م
12- د/ شوقي ضيف : في النقد الأدبي ص 150 ـ ط2/1966م ـ دار المعارف 0
13- رينيه ، وارين : نظرية الأدب ـ سابق ـ ص 194 0
14- سي دي لويس : الصورة الشعرية ـ سابق ـ ص 23 0
1- د/ محمد النويهي :وظيفة الأدب بين الالتزام الفني والانفصام الجمالي ص27 معهد البحوث والدراسات العربية- القاهرة - 1966م
2- تشارلتون : فنون الأدب ـ سابق ـ ص 51-52 0
3- د/ عبد الله التطاوي : الصورة الفنية في شعر مسلم بن الوليد ص 44 0
4- السابق ص 45 0
5- د/ صلاح عبد الحافظ :الصنعة الفنية في شعر المتنبي ص 174 - ط1 دار المعارف
6- د/ إبراهيم عبد الرحمن: الشعر الجاهلي ـ سابق ـ ص 277- 278 0
7- د/ محمد غنيمي هلال : النقد الأدبي الحديث ـ سابق ـ ص 249 0
1- د/ محمود ذهني : القصة في الأدب العربي القديم ص 57 ـ ط1/1973م ـ الأنجلو المصرية 0
2- علي النجدي ناصف : القصة في الشعر العربي ص 10- 11 ـ نهضة مصر 0
3- د/ ميّ يوسف خليف : العناصر القصصية في الشعر الجاهلي ص 15 0
4- قدامة بن جعفر : نقد الشعر ـ سابق ـ ص 118 0
5- ابن رشيق : العمدة ـ سابق ـ 2/294 0
6- د/ ساسين عساف : الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نواس ص 23
7- د/ علي أحمد الخطيب : فن الوصف في الشعر الجاهلي ص 13 0
وسوم: العدد 718