رُهاب الآثار والتاريخ!
رُؤى ثقافيّة 265
زعمَ بعض الكَتَبَة أنها لم تكن من وثنيَّات في جزيرة العرب قبل 300 عام، وأن ما يُذكَر من هذا محض اختلاق! كيف ونحن نشهد اليوم مظاهر ممَّا ينفون في العالم الإسلامي، وبصُوَرٍ صارخةٍ لا يصدِّقها عاقل أو مجنون، قد تفوق إسفافًا ما عُرِف قبل الإسلام، وإنْ جاءت باسم الإسلام، من طقوسيَّات غريبة تحت عباءات شتَّى، من تشيُّع أو تصوُّف أو غيرهما من مخترعات المذاهب والفِرَق. والحقُّ أن نُكران ذلك إنما يأتي وليد واحدٍ من سببَين، أو وليدهما معًا:
1- التعصُّب القَبَلي أو التحيُّز المناطقي؛ لتبرئة الأهل والعشيرة من ذلك التاريخ، ولات حين نُكران. على أن نُكران ذلك لا يخلو في ذاته من مؤشِّر إلى حميَّة جاهليَّة، وإلى افتقارٍ إلى التجرُّد العِلْمي، وفي المحصِّلة إلى ضحالة الحسِّ النقدي العقلاني النزيه. وهو مؤكِّد حيٌّ لتركةٍ عربيَّة من ازدراء الحقِّ والعدل، ومعاداة الحريَّة والعقل، وتمجيدٍ لما كان يرتع فيه الآباء والأجداد، ممَّا هو أدهى وأطم. ولولا هذا ما رأيت أحد أحفاد أولئك السلف، وقد يكون حامل شهادة عُليا من أعرق الجامعات العالميَّة، يدافع كالطفل عن براءة أسلافه ممَّا كان شائعًا من عقائد خرافيَّة فاضحة. وهو يستميت في نفي ذلك عن عشيرته الأقربين بصفةٍ خاصَّة؛ فإن كان حجازيًّا، فما عِيب من ذلك إنما كان في مضارب نجد، وإن كان نجديًّا، فحاشا أن يصحَّ ما قِيل في نجد، بل كان في حواضر الحجاز، أو في مناطق أخرى! وهكذا دواليك، كلٌّ تأخذه العزة بالإثم في الدفاع عن ماضيه وقومه ومسقط جهله.
2- الرُّهاب الوهَّابي، وهو داء مزمِن. ومن أجل الإمعان في التنصُّل من أسباب تلك الحركة، يجنح بعضٌ إلى عزو ما كان منها من مواقف ثائرة على المجتمع إلى محض مبالغات في المثاليَّة الدِّينيَّة، وإلى ما اتصفت به من تشدُّدٍ وجفاءٍ أعرابي، ومن ضِيق أُفق حضاري. والواقع أن تلك الحركة- مهما سيقت من مآخذ عليها- لم تخل من مبادئ حقٍّ لا ينتطح فيها عنزان «منصفتان»، كانت تـنحو إلى تحرير العقل، أوَّلًا، من الجهالات التي سادت كلّ مكان تقريبًا، لا ينكرها إلَّا أعمى أو منغمس فيها أو مكابر.
أجل، لقد نشأت- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- في عصور الانحطاط العقلي تلك القُبوريَّاتُ المتناسلة، وشاعت الادِّعاءات الغيبيَّة المتكاثرة، وتوارث الناس التعلُّق بعالم الجان، والإيمان بتدخُّلهم في كلِّ تفاصيل المجتمع، إلى غير تلك من سفاهات النفوس والأذهان، والهوس بما لا سند له من عقلٍ رجيح، أو عِلْمٍ صحيح، أو نقلٍ يُعتدُّ بموارده ومصادره. ولا غرو؛ فالزعم أن الوهَّابيَّة- بما لها وما عليها- إنَّما بالغت حماسيًّا في تثريبها على الناس في جهالاتهم، اعتقاديَّة وعقلانيَّة، يدحضه ما سجَّله المستشرقون عن أحوال الجزيرة العربيَّة قبل نحو قرنٍ من الآن. حتى إن الإنجليزي (ويليام جيفورد بلجريف William Gifford Palgrave، 1826- 1888)(1) قد أشار ضِمن مشاهداته المباشرة إلى أن العقائد المرتبطة بعبادة (الشمس) كانت ما تزال (في القرن التاسع عشر) على ما كانت عليه قبل الإسلام في بعض بادية الجزيرة. وكذلك نجد لدى المستشرق التشيكي (ألويس موزل Alois Musil، 1868- 1944)(2)، في ما سجَّله (1928) حول اعتقاد بعض العرب في (القَمَر)، مع ما كان يتبع هذا من تصورات وطقوسيَّات. وما نظن بلجريف أو موزل كانا من وهابيِّي بلدة (العُيَيْنة) أو (الدِّرعيَّة)!
على أن من رُهاب الوثنيَّات في المقابل تفريطًا متطرِّفًا معاصرًا، لا يقلُّ غُلُوًّا وغباءً، طمسَ على وجه الجزيرة العربية الثقافي، مناضِلًا في سبيل تعطيل البحث في الآثار القديمة خوفًا من مغبَّة الوقوع في حبائل الشِّرك التي كان ينكر وجودها الفريق السابق. وقد كانت نشأت جهودٌ قيِّمة لـ(جامعة الملك سعود) بالرياض منذ سنوات للتنقيب عن آثار الجزيرة العربيَّة، جاءت من ثمارها، مثلًا، جهود (أ.د. عبدالرحمن الطيب الأنصاري)، وقسم الآثار في الجامعة، لاستكشاف (مملكة كِندة)، في قرية (الفاو)، فخرجت بنتائج مدهشة حول جوانب من أحوال العرب قبل الإسلام. ثمَّ خَبَت الجهود تدريجيًّا، إلى أن انطفأت، إلَّا من نشاطات باهتة هنا وهناك من وقتٍ إلى آخر. وبات الغرض الظاهر من الاهتمام السطحي بالآثار لا يعدو الدعاية الإعلاميَّة، أكثر من أيِّ شأنٍ آخر. بل بلغ من آثار هذا الزهد العلمي، والتوجس من مكتشفات الآثار، والاستخفاف بمكانتها، أن نجمَ الربط بين «السياحة» و«الآثار» في تسمية (كلية السياحة والآثار)، الملحقة بمبنى (كلية الآداب) بالجامعة؛ في ما يشبه تحويل البحث الآثاري من طابعه العِلْميٍّ الأكاديميٍّ الرصين إلى نشاطٍ ثانويٍّ يهدف إلى التسويق السياحي لا أكثر. واجتُثَّ أخيرًا مصطلح «آثار» من اسم (الهيئة العامَّة للسياحة والآثار) لتصبح (الهيئة العامَّة للسياحة والتراث الوطني)! وما ذلك من فراغ، في ما يبدو، بل هو وليد مخاضٍ عسير شهدته العقود الأخيرة في العالم الإسلامي، منذ حكاية طالبان مع آثار (أفغانستان) إلى الجرائم الداعشية على آثار (العراق). خلال ذلك ظهر النكوص في المجتمعات السلفيَّة عن الاهتمام بهذا الميدان، وتداعت حركات الرِّدَّة العِلْمية والثقافيَّة في هذا المجال، تهرُّبًا من عبء «الآثار»، ورضوخًا لتيَّارٍ له موقفه المعهود منها، تجلَّى في أبشع صوره في أعمال «داعش» التخريبيَّة لآثار (العراق) و(سورية)، استنانًا قبيحًا بنهج (القاعدة) السابق في التعامل مع الآثار الأفغانيَّة. لأجل ذلك لا تسأل عن احتفاء يُذكَر بالآثار هنا، باستثناء ما يعود منها إلى قرون المَحْل الحضاري الأخيرة، تُلتَمس على سبيل التلهِّي الإعلامي تارةً، والتباهي الدعائي العابر تارةً أخرى، المُتَّخَذ في سبيل رسائل خارجيَّة وبرامج ترويجيَّة، تتعامل مع تلك الموادّ بوصفها وسائل لا غايات.
إن ما تمَّ من كشوفٍ واسعةٍ وجادَّةٍ في آثار الجزيرة العربيَّة يكاد يقتصر على تلك التي أُنجِزت في (اليَمَن)، وربما في بعض دول (الخليج العربي)، الأقلّ رُهابًا من أدغال التاريخ والآثار. في وقتٍ ما تزال الجزيرة تنام على ثراوات أغنى من الآثار، تَهُمُّ البشريَّة كُلَّها، لو أُوليت ما تستأهل من الاهتمام، لكان بعضها أجدَى من الثروات الأخرى وأبقى قيمةً في مستقبل الاقتصادَين المعرفيِّ والمادِّي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: (2001)، وسط الجزيرة وشرقها (1862- 1863)، ترجمة: صبري محمَّد حسن (مِصْر: المجلس الأعلى للثقافة)، 1: 25- 26.
(2) انظر: (1997)، أخلاق الرُّوَلَة وعاداتهم، ترجمة: محمَّد بن سليمان السديس (الرِّياض: مكتبة التوبة)، 1- 2.
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان المقال: «رُهاب الآثار والتاريخ!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 12 يوليو 2017، ص25].
وسوم: العدد 729