إلى قصي الشيخ عسكر وصالح الرزّوق: الموتى لا يشمّون الزهور
ملاحظة ضرورية :
بدأت فكرة هذه المقالة كتعليق للكاتب على تعليق للناقد الدكتور صالح الرزوق عطفاً على مقالة للروائي والناقد الأستاذ "قصي الشيخ عسكر" عن مجموعة الشاعر يحيى السماوي الجديدة "حديقة من أزاهير الكلمات" واللذين – تعليق صالح ومقالة قصي - نُشرا في موقع الناقد العراقي يوم أمس ، ولكن كتابة التعليق أثارت شجوناً وهموماً وأفكاراً مهمة في نفس وذهن الكاتب رأى أن يطلّلع عليها السادة القرّاء بصورة مقالة مستقلة وليس تعليقاً طويلاً جدا فجاءت على الشكل التالي.
المقالة :
مقالات الأستاذ "قصي الشيخ عسكر" هي في الحقيقة دراسات مُركّزة ومُكثّفة ومُثقلة بالأفكار والرؤى والإحالات "الضمنية" الذكية والمواقف الأخلاقية المُشرّفة التي يعود جانب منها إلى ما اشار إليه د. صالح الرزوق عن منحدر قصي النضالي وتربيته العائلية. وأتذكر "مقالة" (من صفحتين) نشرناها له عن الكلمات ذات المعاني المزدوجة في لغتين مثلا وكانت في حقيقتها تصلح لبحث طويل أو أطروحة في علم اللغة المقارن. وفي رواياته تلمس الجزالة والرشاقة وانعدام الترهل. وهذه "المقالة" عن مجموعة الشاعر الكبير يحيى السماوي تصلح – بلا شك - دراسة طويلة أو أطروحة. فمن التنظير لقصيدة النثر وأصلها في التراث وأثر التلاعب بالموسيقى العروضية في تشكيلها وتأكيد الشعر في النثر والنثر في الشعر وتصنيف الشعراء وصلة الشعر بالفلسفة والدلالات الرقمية وفلسفة الغار النبوي وغيرها الكثير تمهيدا للوصول إلى رؤى في مجموعة يحيى السماوي الجديدة ، هذا المبدع – أي السماوي - الذي كلّما قرأتَه أكثر اكتشفتَ معانٍ ودلالات وخصائص فنّية تجديدية مُضافة تستحق الأطاريح . وبالنسبة إلى التفاتة قصي الذكيّة حول دلالات الألوان في شعر يحيى ، أحيل أخي قصي إلى أطروحة دكتوراه للباحث رسول بلاوي هي – من وجهة نظري - أفضل ما تناول دلالات الألوان في شعر يحيى ونشرناها متسلسة في الموقع.
الناقد المجيد المتحضّر مثل قصي الشيخ عسكر وصالح الرزوق هو الذي يقدّم "أكبر عدد من الأفكار في أقل عدد من الكلمات" وهذا سرّ "قصر" مقالاتهما ورشاقتها وكثافة لغتها. كما أن هذا يفسّر أنه ليس عيثاً أن يكون قصي الشيخ عسكرمن روّاد كتابة أدب الخيال العلمي في الوطن العربي، وأن يكون صالح الرزوق "عالماً" منهجياً في النقد.
وتهمني في هذه العجالة الإشارة إلى "الخجل" النقدي إذا جاز الوصف لدى نقادنا ومبدعينا والذي وجدتُ – من خلال متابعتي – أنّ الإثنين يعانيان منه. فأنا بخلاف صالح وقصي أرفض هذا الموقف وأراه من بقايا "التربية العربية الأصيلة" التي مكانها سوح العلاقات الاجتماعية العربية، ولا محلّ لها في العمل النقدي ، ولا أرى أي منقصة في كتابة ناقدين عن أعمال إبداعية لهما بصورة متقابلة لأنك تنقد نصّاً وتحلّله ولا تكتب عن مقالة نقدية مقابلة عنك تمتدحها لزميلك الكاتب ، ولا يمكن أن تمر المواقف الإخوانية على القارىء اللبيب أبداً. ثمّ لماذا نحرم القارىء والثقافة النقدية من رؤى لصالح الرزوق عن رواية مثلا لقصي ، ومن رؤى لقصي عن مجموعة قصصية لصالح الرزوق تحت ذريعة الخجل خصوصا أنني أعرف مسبقا ومن خلال تاريخ الإثنين أنهما لا يحابيان على حساب قداسة الإبداع ، وأن رؤاهما غنية ومتفرّدة تثري فكرة القارىء عن النص ، وتضىء النص بقوّة غير تقليدية ؟
وهنا أقول أيضاً أنني أؤيد رأي الأستاذ قصي عن صالح الرزوق بقوة، فهو ليس ناقدا أدبيّا عاديّاً بل هو ناقد مُفكّر ومتفلسف عالم في الثقافة السورية والعربية ، وعلينا أن نفخر به ، وهو يستحق أكثر من كتاب عنه.
وحتى تعليقات صالح الرزوق قد يأتي يوم ينبري فيه باحث منصف ليدرسها فهي مدرسة في "بناء" التعليق وتناوله للنص والإضافة إليه ونقده والأهم "ربطه" بإحالات إلى نصوص أخرى تضيئه أكثر وتعبّر عن ثراء فكر الناقد وموسوعيته.
لاحِظْ سيّدي القارىء كم من الأفكار أثارتها في أذهاننا مقالة قصي القصيرة وتعليق د. صالح الأقصر ؟
إنّهما مثقفان مبدعان " مُقلقان " ضروريان للحزم ولضبط ثقافتنا المائعة المترهلة ..
وبالمناسبة ، نحن في موقع الناقد العراقي ، ننشر الآن بصورة مسلسلة رواية "الرباط" (رواية مهجرية كما سمّاها) للروائي قصي الشيخ عسكر يمكن للسادة القرّاء متابعتها ليعرفوا أن قصي ينحت محورا جديدا في الرواية العراقية وسيتبعه - كما علمت – بمحور جديد يثري مسار السرد العراقي ويتعلق بالرواية التاريخية.
لكن مشكلتنا في الثقافة العربية ومنها السورية والعراقية أنّنا ننتظر وفاة قصي وصالح لكي نشمّر عن سواعدنا النقدية والمعرفية لاستعراض مناقبهما الفكرية والنقدية والإبداعية لأمسية أو أمسيتين ونهيل التراب عليهما سريعاً (وكأننا – وفق التركيبة العربية السادومازوخية - ما مصدقين أنهما ماتا وخلصنا منهما) .
ولأنني – وبلا تردّد وبلا خجل زائد – صاحب مدرسة خرق القاعدة العراقية الأصيلة "مغنّية الحي لا تُطربُ" والإحتفاء بالمبدعين العراقيين وهم أحياء فأصدرت خمسين كتابا أكثر من ثلاثة أرباعها عن مبدعين أحياء ما زالت المؤسسات الثقافية العراقية تنتظر بصبر كل صباح خبر نعيهم كي تحتفي بهم على القاعدة المعروفة في بلادنا العزيزة وهي من طبائع أهلنا الأحبّة، أقول : يجوز أن المؤسسات الثقافية العراقية والسورية تنتظر نعي قصي الشيخ عسكر وصالح الرزوق لتضع على قبريهما أكاليل من الزهور ونحن نعلم جيّداً وفق مقولة شاعر صيني يبدو أنه كان مثلهما ؛ مُهمّاً ومغدوراً، دعا إلى تكريمه وهو "حيّ" ، فصاح :
(إنّ الموتى لا يشمّون الزهور)
وسوم: العدد 730