دراسة ٌ لديوان "خريفٌ آخر في مدن الشَّمال" للشَّاعر "عمر محاميد"

clip_image002_fe03f.jpg

الدكتور عمر محاميد

مقدِّمة ٌ:  الشَّاعرُ  والاديبُ والباحثُ  الدكتور "عمر محاميد " من  سكان  مدينة  " أم الفحم " - المثلث ، يكتبُ  الشِّعرَ  والدراسات  والأبحاثَ  الأدبيَّة  والأكاديميَّة  منذ  أكثر من ثلاثين  سنة ، حاصلٌ على شهادةِ  الدكتوراه  من  جامعة "سانت بطرس بورغ "  - روسيا ( لينغراد  سابقا )  في علم  الألسن  وفي التاريخ  والعلوم السياسيَّة، وهو مُمّثِّلٌ  لتلكَ الجامعةِ  في الداخل  وعن طريقهِ  يتمُّ التسجيل والإنتساب للأكاديميَّة  الروسيَّة .  وكما يصدرُ  ويُحرِّرُ  مجلّة ً للأدب  والأبحاث وباللغةِ العربيَّةِ عن  طريق هذه الجامعةِ .       وجاءَ في كتاب *1 معجم العشائر  الفلسطينيَّة  ما  يلي : " المحاميد  في  أمِّ الفحم : جدُهُم  محمد القرشيّ ، وبهذا  اللقب : عمر محمود محاميد  ، شاعر  لهُ " أزهار فلسطينيَّة  في أنشودة الغضب، ولم ينسبوهُ  إلى قريةٍ .. ( مؤلف هذا الكتاب محمد محمد حسن شراب - عمان  الطبعة الأولى  ) .

مدخل :  الشَّاعرُ  والأديبُ  "د. عمر محاميد " غنيٌّ عن التعريف...حققَ  شهرةً وانتشارًا واسعا محليًّا  وخارج البلاد..نشرَ الكثيرَ من كتاباتهِ الشعريَّة والنثريَّةِ  في  العديد  المجلات  والصُّحف  المحليَّة  وخارج البلاد ، وأصدرَ العديدَ من الكتب والدواوين الشعريَّةِ وتُرجِمت أعمالُهُ لأكثر من لغةٍ ، ومنها  اللغةِ الروسيَة .   إذا نظرنا  من  ناحيةٍ  شكليَّةٍ  لأشعارهِ  نجدها جميعا على نمط الشعر الحديث الحُرّ، بَيْدَ  أنَّها  قريبة ٌ إلى شكل ونمط  شعر التفعيلةِ في  كيفيَّةِ  وتوزيع  وترتيب المقاطع   والقوافي، وهنالك  بعض الجمل الشعريَّة  عندهُ  تأتي موزونة ً بشكل عفويٍّ ..ولكنهُ لا يلتزمُ  بتفعيلةٍ  مُعيَّنةٍ رغم كونه  له  دراية  ومعرفة  واسعة  بعلم  العروض  ( الأوزان ) وَمُتبحِّر  في  اللغةِ (  قواعدها - نحوها   وصرفها  وشواردها )    . 

  وَمِمَّا  يُميِّزُ الدكتور عمر محاميد عن الكثيرين من الشُّعراء المحليِّين هو : العناصر الجماليَّة والرَّمزيَّة  والتجديد والإبتكار والمستوى الفني الرَّاقي في شعرهِ ... وللدكتور عمر  محاميد  إلمامٌ   كبيرٌ  واطلاعٌ  واسعٌ  على  جميع الإبداعات  الشعريَّةِ  والأدبيَّةِ ... فهو  مُطَّلعٌ  على  الشعر  والأدب  الأجنبي ( الغربي)، معظمهُ) ،خاصَّة ً المكتوب أو المُلَّف  بالإنجليزيَّة  أو الروسيَّة ، بالإضافةِ إلى إطلاعِهِ الواسع على الأدب والشعر العربي (القديم والحديث). وكانَ  لثقافتهِ الأجنبيَّةِ  دورٌ كبيرٌ في توسيع مداركهِ وأفاقهِ  وبلورةِ مفاهيمهِ  الثقافيَّة ومن  ثمَّ  صقل وتطوير أدواتهِ الكتابيَّة بشكل واضح وملحوظ ، فكلُّ من يقرأ أيَّة َ قصيدةٍ  شعريَّةٍ لهُ يظنَّ  للوهلةِ الاولى أنها لشاعر أجنبيٍّ  كبير  قد ترجمت إلى العربيَّة  ترجمة ً دقيقة ً  بقيت  محافظة ً على  قيمتِها الفنيَّة .. وذلك  من خلال الإلتزام  بالقوافي أحيانا واستعمال  الكلمات  والمرادفات اللغويَّة العربيَّة الجميلة ، لأنَّ الشعرَ الأجنبي عندما يُترجمُ إلى اللغةِ العربيَّةِ  مهما كانَ مستواه عاليا  يفقدُ  شيئا من قيمتِهِ الفنيَّةِ والذوقيَّة وجماليَّتِهِ ...إلخ .

      إنَّ  المواضيعَ التي  يعالجها الدكتور عمر محاميد  في شعرهِ هي جميع المواضيع   التي  تعني  كلَّ  إنسان   فلسطيني  أو عربي، مثل : السياسيَّة ، الإجتماعيَّة والوطنيَّة والقوميَّة، وكما انهُ  يتطرَّقُ إلى مواضيع أخرى شاملة : ( إنسانيَّة  ووجدانيَّة وغزليَّة ووصفيَّة  وفلسفيَّة  وميتافيزيكيَّة )... وعيرها .. تعني البشرَ جميعا على اختلافِ طباتهم  وانتماءاتهم  ومعتقداتهم ، وكتابهُ هذا الي  بين أيدينا الآن بعنوان ( خريف أخر في  مدن الشَّمال )  طبعَ  سنة 1996  -  إصدار مركز التعليم  في روسيا - وقدَّمَ  لهُ المؤلِّفُ  نفسهُ " عمر محاميد "   مقدِّمة ً جميلة ً ومقتضبة .  

   وسأختارُ  نماذجَ من شعريَّة  ، من هذا الديوان ،  مع  الدراسةِ والتحليل .

  يقولُ في أول قصيدةٍ لهُ من الديوان بعنوان : ( " تأمُّلات " - صفحة 1 ، في المقطوعة الأولى منها " مساء " :

( " يفلتُ المساءُ من رأسي  //   فلا أبكي لايومي ولا أمسي //

     ولا    أشربُ    الكأسَ   //   فيومي   صارَ  كما  أمسي    //  " ) .

  نجدُهُ هنا  يُركِّزُعلى القافية ( في نهايةِ كلّ  جملةٍ  شعريَّةٍ)، ولكنَّ القصيدة َ  تبقى  غيير مُقيَّدة  بوزن  مُعيَّن ، بل  ينتقلُ شاعرُنا من  تفعيلةٍ  لأخرى  بيدَ أننا  نحسُّ ونستشفُّ  ونتذوَّقُ  عناصرَ الجمال والموسيقى  الداخليَّة  الرَّنانة الأخَّاذة  في هذه المقطوعةِ . والدكتور"عمر محاميد " فنانٌ  بارعٌ في  كيفيَّةِ اختيار  الكلمات  الجميلةِ  وفي  كيفيَّةِ   توزيع  المقاطع  الفظيَّةِ  والمفردات  العذبة   المُعبِّرةِ ، فكلُّ   كلمةٍ  او  مقطع  عندهُ  عبارة ٌ عن  تفعيلةٍ  مستقلَّةٍ  بذاتِها   تعطينا   نغما   مميَّزا  وليسَ   بحاجةٍ   للإلتزام  والتقيُّدِ  بإيقاعاتٍ   وأوزان " الخليل  بن  أحمد  الفراهيدي " بحذافيرها ،   فكأنَّ  " عمر " هنا  يُريدُ ان  يُثبتُ  ويقولُ  لنا  أنَّهُ   مُجَدِّدٌ  وَمُستحدثٌ  حتى  في  البناءِ  الشَكلي  والخارجي للقصيدةِ  .  وه ، بدورهِ ، يخرجُ  عن  المألوفِ  والرُّوتين  بشكل  جميلٍ  وعذبٍ  وبموسيقى  داخليَّةٍ   رنَّنةٍ  أخَّاذةٍ  وبصور  شعريَّةٍ  جديدةٍ .  

   وفي هذه المقطوعةِ المُكوَّنة من  أربع جمل  شعريَّةٍ  تنتهي بنفس القافيةِ  ( حرف السين )  نجدُ  فيها البُعدَ الفلسفي والإنساني فيريدُ الشاعرُ أن يحدِّثنا  عن  رتابةِ الحياةِ، فيُشعرُنا  برتابةِ  الحياة  وروتينها  وكيفَ  أنَّ  الأيَّامَ  تمرُّ وتتوالى  والإنسان ( الشَّاعر ) يبقى  يناضلُ ويكدحُ ويعملُ لأجل الإستمرار  والبقاءِ  والإبداع  والتجديد والتطوُّ ر .. ودائما  يعملُ حتى  المساء ( نهاية  كلّ  عمل  - أو بعد فترةٍ  زمنيَّةٍ  من كلِّ عطاءٍ  وجُهدٍ  مبذول وكدٍّ)  فيُحِسُّ الشَّاعرُ  كأنَّ  المساءَ  يفلتُ  من  رأسهِ . (  وهو  أوَّلُ  شاعر  يستعملُ  هذا التشبيهَ والمصطلحَ  البلاغي - " المساءُ يفلتُ من الرَّأس " ... أيّ  انهُ  نسيَ كلّ  شيىءٍ  قد  مرَّ عليهِ  حتى  نهايةِ المطافِ  بهِ   وآخر الذكرياتِ -  وقت المساء-  .   فالمساءُ  يفلتُ  منهُ  ومن  رأسهِ  وفكرهِ   كما  ولَّى  النهارُ  من  قبل  وفلتَ منهُ ،  وشاعرُنا  ( عمر ) بدورهِ   لا  يبكي  يومَهُ   الحالي   ولا  أمسَهُ  الذي   مضى وما يحملُهُ   من  ذكرياتٍ  ومن خطوبٍ   وندوبٍ  ومن افراح ٍ  وأتراح ٍ .. إلخ  ..ولم يأسفْ على  ما مضى  من عُمر ٍ، ولا  يشربُ أيضا أيَّ  كاسٍ ليفرحَ  وينتشي فكلُّ شيىء  بالنسبةِ لهُ  صارَ كغيرهِ  سواءً : اليوم - والأمس  - والمساء -  والغد -  ولا..  لا  جديد  تحت الشَّمس . وهذه  هي  حالتنا   نحنُ  اليوم  بكلِّ  ما  تعنيهِ  هذه  الكلمة ُ.. من  منظلق  وضعِنا الإقتصادي   والسياسي   والنفسي    والإجتماعي   وحياتنا   غير  المستقرَّة   ومصيرنا المجهول .

  وفي مقطوعة أخرى  من  نفس القصيدةِ بعنوان : ( " .. عشق " - صفحة 1  ) يقولُ فيها :

( "  يلتقي العاشقُ عشيقتهُ  //   يُقبِّلُ وجهها  //

     ثمَّ  يخرجُ العاقُ  الشَّيخُ  من  الضَّباب  //

     يلاحقُ    وجهَ    اللهِ     والسَّحابْ   //  " )

     إنَّ  العاشقَ هنا ( الذي  يعنيه  الشَّاعرُ )  هو  الإنسان المُحبّ  للحُرِّيَّةِ .. للعدالةِ  وللجمال  والوطن  ولكلِّ  ما  هو  جميل  ونفيس  ومُقدَّس - فالعاشقٌ دائما  يلتقي  مع عشيقتِهِ  حتى  في  الحلم  والخيال  وفي الذكريات، وأرواح العاشقين   دائما  متقاربة   مُتدانية   ودائما   متعانقة  رغم  البُعد  الجغرافي  والمادي  ورغم الحواجز والسُّدود  وحتى  لو كانت  الأجسامُ  متباعدة  ً كلَّ  البُعد .     وهنا ( في هذه القصيدةِ ) نرى العاشقَ  / الإنسان  المُحبّ لحبيبتِهِ ...لأرضهِ وبلادِهِ  ووطنهِ ..قد شاخ  وشابَ رأسهُ على مرِّ  وتوالي الأزمان  وهو  لم  يزل  على  عهد  الحُبِّ  والوفاء  والتضحية  لحبيبتهِ  .    فالعاشقُ المناضلُ والمُكافحُ  يخرجُ  من  وسط السَّديم  والضَّبابِ،  فالعالمُ  من  حولهُ  مُغبَرٌّ  وجميعُ  قوى الشَّرِّ  تحيطُ  بهِ . ( الضَّبابُ هنا  رمزٌ  للأعداءِ  ولقوى الشَّرِّ والظلام التي تريدُ السَّلبَ والإستيلاءَ والتسلُّطَ  والإحتلالَ والإستعمار) .  والعشيقة ُ هنا هي  الأرضُ والوطن .  وأمَّا  العاشقُ فهوَ الإنسانُ صاحبُ الحقّ الشَّرعي  والتاريخي  للأرض التي  يمتلكها وورثها  أبا  عن  جدّ  منذ  عهودٍ طويلةٍ  وللوطن البذي لا  وطنَ  لهُ  سواه . وهذا العاشقُ يلاحقُ  وجهَ الله  ويبحثُ  عنهُ ...أيّ  انهُ  يبحثُ عن  الحقيقةِ  وعن العدالة  وعن الحُرِّيّةِ  المُثلى والسلام  العادل والإستقرار.  ففي وجهِ اللهِ  يتجسَّدُ  كلُّ  ما هو جميل  ومقدَّس: الفردوسُ الأبدي والجنة الخالدة  والحياة الجميلة  المثاليَّة  والسعادة الروحيَّة والسلام والمحَبَّة  والوئام .  وأمَّا السَّحابُ هنا  فربَّما  يعني الشَّاعرُ بهِ  المطرَ  والغيثَ  والعطاءَ  والخير  والخصب  والبركة، وقد  كونُ  أيضا  الجانب السَّلبي الذي  يعنيهِ  وهو السَّحايب غير الماطر والذي  يحجبُ النورَ  والشَّمسَ (  شمس الحرّيَّة )  مثل  الدخان  والضباب  رمز  الظلم   والظلام  والشَّرِّ .. إلخ ...  وهكذا  نحنُ  نرى  أنَّ  الشَّاعرَ  "عمر  محاميد"، في  هذه المقاطع الشعريَّة، يتحدَّثُ عن  وماضيع  شاملة وذات أبعاد فلسفيَّة  وإنسانيَّةٍ  ووطنيَّةَ .  

 ولننتقل إلى قصيدةٍ اخرى من الديوان  بعنوان : (" نشيد المدينة المقدَّسة "- صفحة 3 - 8 ) حيث  يوظفُ  الشَّاعرُ هنا العديدَ  من الشَّخصيَّاتِ التاريخيَّة  والفنيَّة  والقياديَّةِ ( عربيًّا وعالميًّا ولاهوتيًّا ) ليصلَ إلى المعاني والمواضيع  والأهداف التي يريدُها ، وكما  يظهرُ تأثُّرُهُ الكبيرُ بالمتب المقدَّسة، وخاصَّة ً ( التوراة والأناجيل )  فيوفُ  مثلا  الشخصيَّات التالية : "مريم المجدليَّة " ، " سفر التكوين " ،  " يسوع المسيح  رسول السلام  " ...  ثمَّ"  بيتهوفن  "، " موزارت " ، " بوشكين " ،   و " نجلو " ،  " لإبن المعتزّ "   ،   "  نهر النيفا  المتجمِّد "  و " شكسبير " ... ويوظفُ  شجرَ الزيتون " رمزَ  السلام  والمحبَّة  والبقاء   .     ويتحدَّثُ  تلقاءيًّا  في  القصيدةِ   عن  مدينة  " سانت بطرسبورغ  " ( لينغراد )  ودورها  في  ردِّ  جحافل الغزاة مثل : ( نابليون  وهتلر )  وصمود أهلها التاريخي  ..  ويجري الشَّاعرُ  مقارنة ً  بينها  وبين  مدينة السلام  " القدس العربيَّة " .. ويقولُ " عمر محاميد في هذه القصيدة :  

( "ينامُ   البشرُ  //  وينهضُ  الرَّصاصُ  ساقطا //  وسط َ  أغاني السَّلام  //

  وتعمُّ السَّاحات  والبيوت //  والشَّوارع  فوضى //

  ويلفُّ  السَّحابُ  وجهَ  المدينه  حزنا ، وتنهارُ بناية ُ التاريخ المتصدِّع //

 على حافةِ   الهاوية  //

 ينامُ البشرُ // وتنهضُ الأفاعي من جحور الماضي// 

ومن أنفاقِ المستعمراتْ // ومن  سفن  مُبحرةٍ  في مستنقع  العنصريَّهْ  //

يظلمُ التاريخُ ، وتبدو  السمفونيَّة الخامسة  للسيِّد " بيتهوفن " ... //

أرجوحة  لقاتل يحملُ الكتبَ السَّماويَّة في  يدٍ ، //

وفي لاليدِ الأخرى يحملُ سكينا  أو  بندقيَّهْ  //

ينفجرُ الشَّجرُ الآن  //   وتحترقُ   الأشجارُ  والجذور  // " )

ويقولُ أيضا :

 ( " هنا سيُقامُ كازينو في شارع " صلاح الدين "

 وفي زاويةٍ في ساحةِ الشُّهداء //

سنحملُ حمامة ً لأجيال ستأتي // من بعدِنا  وبعدِهم //

هنا  سيقامُ  تمثالٌ  لبطل  السلام  //

 لذلك الذي سقط َ وسط َ أغنيةٍ  في قلب " تل- أبيب "    

برصاصةِ شابٍّ أوحَتْ لهُ آلهة ُ القتل  //

باسم القانون والفلسفةِ والتوراة ، والغابات //   

هنا تحملُ الدُّنيا  أنواعًا  وأشكالا   جديدة من قتل الدَّفاتر //

والحكمةِ  والسَّنابل  والشَّجر  //

الأخضرُ ينمو في الخليل  // في سفر التكوين // وفي موسيقى موتسارت //   

ويقولُ أيضا :

( يا قاتلَ البسمةِ // هنا سيُقامُ حتمًا // تمثالٌ  لبطل السَّلام  //

ذلكَ الذي سقط َ وسط َالمدينةِ في نهايةِ الحرب // في بدايةِ الزرع //  

وهنالك  يردِّدُون نغمًا  آخر من  النشيد //  نشيدكم   سيِّدنا  بوشكين //

سقط َ وسط  غابات  سانت - بطرسبورغ // وفي  قصر النيفا المتجَمِّدْ //

وفي قصر القيصريَّة الساكنه //  وفي كنيسة مريم المجدليَّهْ //

هناكَ في سفوح جبل المُكبِّر// في الأرض المُقدَّسة //

حيث الجنود يعبثونَ بسلال الفلاحات ، اللواتي حفظن  عن  ظهر قلب // نشيدًا يُمجِّدُ السُّلطان //  وأعوانهُ  المُنتشرين  في الألويهْ // 

وفي عاصمةِ المُدن المُقدَّسَهْ  //

هنا في القدس // يُنشدُ القياصرَة ُ ، والملوكُ ورؤساء الجمهوريَّه //

وشكسبير وابنُ المُعتزّ وأبناءُ الله //  وأبناء السبيل // نشيدًا قصيرًا //

يلفُّ  المدينة َ بالحُزنِ  والخشوع //  

هنا يدفعُ  جنودُ الخيالةِ بأحذيتِهم، الثقيلة طفلا ، دخلَ يشتري كتابا ودفترًا // 

بمناسبةِ السَّنةِ الدراسيَّةِ الجديدَهْ //

هنا وحفاضًا على النظام والأمن //

هنا يُطلقُ الجنودُ رصاصة ً قاتلة ًعلى عجوزٍ ذاهبٍ للصلاةِ، فتبتلعُهُ الأرض //  ولأسبابٍ أمنيَّةٍ // لا يدفنُ ليلا ً //

هنا  يحرقُ الجنودُ صحيفة ً //  تكرِّسُ صفحتها الأولى لأطفالٍ // 

سقطوا بالأمس  قتلى برصاص جنودِ الإحتلال //

هذا  الإحتلال  هو  الإحتلال "  )  .

    وفي  نهايةِ القصيدةِ  يقولُ الشَّاعرُ :

( "  يا شجرة َ الزَّيتونْ //  أنسِّقُ  باقة ً من أغصانِكِ الخضراءْ  // 

     باقة ً أقدِّمُها  لسيِّدي  "المسيح "   //  ليبارككِ الرَّبُّ يا  زيتونتي ، //

     ليسامحَكِ الرَّبُّ  يا  زيتونتي // هنا الحربُ تنتهي // هنا الحربُ  تبدأ //

     هنا  السِّلمُ   يبدأ // هنا  السِّلمُ  ينتهي  / هنا  البداية ُ وهنا  النهايهْ //") .

  وكما هو واضحٌ جليًّا في هذه  القصيدةِ أنَّ شاعرَنا  يريدُ القول : إنَّ  بلادَنا هي  بلادٌ  في  وضعٍ غير مستقرٍّ وفي مرحلةِ حربٍ ،ولكنها هي بلادُ  سلام وستظلُّ  وطن  السلام  والمحبَّة  وهي التي  كانت   تنشرُ  السلامَ   والمحبَّة  والهُدى  على  جميع  الشُّعوب ، وهي  مهد   الحضارات   جميعها  ومبعثُ  الديانات  السَّماويَّة   ومسرى الأنبياء  والرُّسل  والمبشِّرين  دعاة  السلام ... ولكن وللأسف السلم  والعدالة  والإستقرار فيها  الآن هم  يغتالون  وَيُوأدُون ، ويُقتلُ  ويصلبُ الضَّميرُ  والفجرُ كلَّ  يوم . وهذه  البلدُ  كانت  وما  زالت قبلة َ البشر جميعا ومآل الشعوب وهي البداية ُ والنهاية وفيها ستكون القيامة  ويوم النشور .

  نلاحظ ُ  في هذه القصيدةِ   أنَّ  الدكتور "عمر محاميد " يوظفُ الكثيرَ من الرموز والشَّخصيَّات التاريخيَّةِ  والدينيَّة  والفكريَّة  والأعلام الهامَّة  ليصلَ إلى مبتغاه ، والقصيدة ُ شاملة ٌ تلخِّصً  آيديلوجيَّة  وفكر  "عمر " وتطلعاتِهِ  القوميَّة  والإنسانيَّة والفلسفيَّة والامميَّةِ ، وفيها  يستجلي ويستعرضُ  التاريخَ   الفلسطيني  والعربي  والعالمي  واللاهوتي، فيعبِّرُ  ويصلُ  من  خلالهِ  إلى أهدافهِ  ومواضيعهِ ومنهُ  تتجلى أفكارُهُ  وتجاربُهُ  الثقافيَّة  والذاتيَّة  وتتجلَّى هوية ُ شعبهِ  وقضيَّتهُ .  والقصيدة ُ بحدِّ ذاتِها تجسِّدُ جميعَ التجارب  ومعاناة الإنسان الإنسان  أينما  كان  ومهما  كانت  نوعيَّتهُ  وقوميتهُ  وعرقهُ .  لكنَّ الدكتور "عمر محاميد" هنا  يلخِّصُ  ويجسِّدُ  بالضَبط  أجواءَ ووضعَ وحالةَ الفلسطينيِّين  في منطقة الحكم  الذاتي ( الضفة  والقطاع ) وفي الشتات  وما  يلاقونهُ  من  قتل وتنكيل على  يد  جيش للإحتلال ..فالمدن الفلسطينيَّة ُ رمزُ السَّلام والمحبَّة قد استُبيحَت  وَدُنِّسَت  وتشوَّهَ طابعُها  الجميل  وغابت  عنها البسمة ُ  واختفى الفجر .   فيعطينا  الشَّاعرُ  صورة ً  شاملة ً  وقبيحة ً للظلم والإحتلال  والإستبدادِ  مُروِّعة ً  وَمُؤلمة ...وكما  يذكرُ النضالَ  والمقاومة َ الفلسطينيَّة َ  ، وبشكلٍ  تلقائي   يُجري  مُقارنة ً  بين   نضال  وكفاح   مدينة " سانت بطرسبورغ " التي  درسَ فيها الشَّاعرُ  في  جامعتِها العريقة  فترة ً طويلة - المدينة التي صمدَدت صمودًا أسطوريًّا  ودحَرَت  وهزمت  جحافلَ وجيوشَ النازيِّين  ونابليون بونبارت  وبين مدينة " القدس " عروس السلام والشعب الفلسطيني الذي يقاومُ الإحتلال  بإمكانيَّاتِهِ المتواضعة والمحدودة .  وكما  ذكرتُ أعلاه  فعمر محاميد  وَظَّفَ  في هذه القصيدةِ  الطويلةِ  الكثيرَ من الأسماءِ التاريخيَّة للمُهمّةِ  والرُّموز الحضاريَّةِ  وقد وُفِّقَ  وأجادَ  كثيرا في هذا التوظيف الدَّلالي،وعلى كلِّ  قارىءٍ  يُريدُ  فهمَ وتحليل هذه القصيدةِ أن يكون  ذا  ذقافةٍ  عاليةٍ   وواسعةٍ  وَمُلمًّا  بالتاريخ  والأدب  .  والقصيدة ُ ببساطةٍ  للإنسان الدارسُ والمُطَّلعُ  هي سهلة ٌ وواضحة ً للفهم  ويجدها  من دون تعقيد  أو غموض ، وأمَّا  الذين   ثقافتهم  ومفاهيمُهُم  ضحلة ٌ  وَمنغلقة  فلا  يفهمون  رموزها  وتوظيفاتها  الدَّلاليَّة   وأبعادِها  التاريخيَّة   والقوميَّة  والإنسانيَّة .   

   وبالإضافةِ  إلى العديد  من القصائد الوطنيَّة  والسياسيَّةِ  في  هذا  الديوان  هنالك قصائد أخرى للشاعر عمر محاميد   تتناولُ  باقي المواضيع ، منها :  بعض المقطوعات والومضات الغزليَّة والوجدانيَّة الذاتيَّة وبعض الشَّطحات الصُّوفيَّة  .  يقولُ  مثلا ً :

( " رُبَّ صَبيَّةٍ  أضاءَت لي  الطَّريقْ  //

     رُبَّ  صبيَّةٍ  أشعَلتْ  فيَّ  الحريقْ  //

     وَرُحتُ   أنشدُ   أنا   الطريقْ  //  " ) .

ويقولُ أيضا :

( " رُبَّمَا  أسيرُ في  بحر الرِّمالْ //  رُبَّما  أغرقُ  في  بحر النسيانْ  //

    وَرُبَّمَا أعشقُ ، أصبحُ سيِّداتي سادتي ولهانْ //

    رُبَّما أصبحُ في  غُربتي  حيرانْ  // 

    لكنَّني أبصرُ يا سيِّداتي  سادتي بحرًا // 

  لن تبصرَهُ  إلاَّ  بعدَ   أن  تغرقَ // في بحر النسيانْ //  " ) .

ويقولُ في نفس القصيدة :

( " أقبلَ  الفقرُ  إلى غرفتي ،//  يحملُ لي خبزًا وفاكهة ً في غربتي // 

    فقلتُ : يا َربَّ  الجوع  ولوعتي ، //  أنقذني  برَبِّكَ  من  محنتي // " ) .

    وبإختصار هذه المقطوعات  يشوبُها الطابعُ  الوجداني  والذاتي والفلسفي  وتعكسُ ذاتيَّة َ الشَّاعر ومشاعرَهُ  ولواعجَهُ  الذاتيَّة الجيَّاشة  وما  كان يُحسُّ  ويشعرُ  بهِ  في بلاد الغربة... وسأكتفي بهذا القدر من إستعراض القصائد .

 وأخيرا :  إنَّ الدكتور الشَّاعر  " عمر محاميد " هو  ركنٌ  هام  من  أركان  ثقافتنا وأدبنا المحلِّي وصوتٌ شاعريٌّ  وأدبيٌّ  إبداعيٌّ  مُمَيَّز .. قدَّمَ وأعطى الكثيرَ لشعبنا  الفلسطيني والعربي  من أعمال إبداعيَّةٍ  على الصَّعيد  الأدبي والثقافي ، وكما  لهُ  الفصلُ  الكبير  والرَّائد  في إرسال  العديد من  الطلاب العرب ، من  الداخل، إلى جامعة  " سانت  بطرس  بورغ  " ( في روسيا )    وتخرُّجهم وحصولهم  على الشَّهادات الأكاديميَّة العالية  وشهادات الدكتوراة  من  تلك الجامعة العالميَّة .. فنتمنى  لهُ  العمرَ  المديد  والمزيدَ   من  العطاء  والإبداع .  

1* كتاب معجم العشائر الفلسطينيَّة " محمد محمد حسن شراب " – الأهليَّة – عمَّان -  اللطبعة  الأولى  2002  .